الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الاعتصام ***
فَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى ذَمِّ الْبِدْعَةِ وَكَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ أَشْعَرَتْ بِوَصْفٍ لِأَهْلِ الْبِدْعَةِ، وَهُوَ الْفِرْقَةُ الْحَاصِلَةُ، حَتَّى يَكُونُوا بِسَبَبِهَا شِيَعًا مُتَفَرِّقَةً، لَا يَنْتَظِمُ شَمْلَهُمْ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنْ كَانُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَحَكَمَ لَهُمْ بِحُكْمِهِ. أَلَّا تَرَى أَنَّ قَوْلَهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ، مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} الْآيَةَ، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى وَصْفِ التَّفَرُّقِ؟ وَفِي الْحَدِيثِ: وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَالتَّفَرُّقُ نَاشِئٌ عَنِ الِاخْتِلَافِ فِي الْمَذَاهِبِ وَالْآرَاءِ؛ إِنْ جَعْلَنَا التَّفَرُّقَ مَعْنَاهُ بِالْأَبْدَانِ- وَهُوَ الْحَقِيقَةُ- وَإِنْ جَعْلَنَا مَعْنَى التَّفَرُّقِ فِي الْمَذَاهِبِ، فَهُوَ الِاخْتِلَافُ كَقَوْلِهِ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا}. لِلِاخْتِلَافِ سَبَبَانِ: كَسْبِيٌّ، وَغَيْرُ كَسْبِيٍّ فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي هَذَا الِاخْتِلَافِ مَا سَبَبُهُ؟ وَلَهُ سَبَبَانِ: (أَحَدُهُمَا): لَا كَسْبَ لِلْعِبَادَةِ فِيهِ، وَهُوَ الرَّاجِعُ إِلَى سَابِقِ الْقَدَرِ، وَالْآخَرُ هُوَ الْكَسْبِيُّ وَهُوَ الْمَقْصُودُ بِالْكَلَامِ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْبَابِ، إِلَّا أَنْ نَجْعَلَ السَّبَبَ الْأَوَّلَ مُقَدِّمَةً، فَإِنَّ فِيهَا مَعْنًى أَصِيلًا يَجِبُ التَّثَبُّتُ لَهُ عَلَى مَنْ أَرَادَ التَّفَقُّهَ فِي الْبِدَعِ. فَنَقُولُ وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ: قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} فَأَخْبَرَ سُبْحَانَهُ أَنَّهُمْ لَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ أَبَدًا، مَعَ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ أَنْ يَجْعَلَهُمْ مُتَّفِقِينَ لَكَانَ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا لَكِنْ سَبَقَ الْعِلْمُ الْقَدِيمُ أَنَّهُ إِنَّمَا خَلَقَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ، وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ فِي الْآيَةِ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} مَعْنَاهُ: وَلِلِاخْتِلَافِ خَلَقَهُمْ. وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ قَالَ: خَلَقَهُمْ لِيَكُونُوا فَرِيقًا فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقًا فِي السَّعِيرِ. وَنَحْوَهُ عَنِ الْحَسَنِ فَالضَّمِيرُ فِي خَلَقَهُمْ عَائِدٌ عَلَى النَّاسِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُمْ إِلَّا مَا سَبَقَ فِي الْعِلْمِ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ هَاهُنَا الِاخْتِلَافُ فِي الصُّوَرِ كَالْحَسَنِ وَالْقَبِيحِ وَالطَّوِيلِ وَالْقَصِيرِ، وَلَا فِي الْأَلْوَانِ كَالْأَحْمَرِ وَالْأَسْوَدِ، وَلَا فِي أَصْلِ الْخِلْقَةِ كَالتَّامِّ الْخَلْقِ وَالنَّاقِصِ الْخَلْقِ وَالْأَعْمَى وَالْبَصِيرِ، وَالْأَصَمِّ وَالسَّمِيعِ، وَلَا فِي الْخُلُقِ كَالشُّجَاعِ وَالْجَبَانِ، وَالْجَوَادِ وَالْبَخِيلِ، وَلَا فِيمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْأَوْصَافِ الَّتِي هُمْ مُخْتَلِفُونَ فِيهَا. وَإِنَّمَا الْمُرَادُ اخْتِلَافٌ آخَرُ وَهُوَ الِاخْتِلَافُ الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ لِيَحْكُمُوا فِيهِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ} الْآيَةَ، وَذَلِكَ الِاخْتِلَافُ فِي الْآرَاءِ وَالنِّحَلِ وَالْأَدْيَانِ وَالْمُعْتَقَدَاتِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِمَا يَسْعَدُ الْإِنْسَانُ بِهِ أَوْ يَشْقَى فِي الْآخِرَةِ وَالدُّنْيَا.
هَذَا هُوَ الْمُرَادُ مِنَ الْآيَاتِ الَّتِي ذُكِرَ فِيهَا الِاخْتِلَافُ الْحَاصِلُ بَيْنَ الْخَلْقِ، أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ بَيْنَهُمْ عَلَى أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: الِاخْتِلَافُ فِي أَصْلِ النِّحْلَةِ وَهُوَ قَوْلُ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ، مِنْهُمْ عَطَاءٌ قَالَ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} قَالَ قَالَ: الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسُ، وَالْحَنِيفِيَّةُ- وَهُمُ الَّذِينَ رَحِمَ رَبُّكَ- الْحَنِيفِيَّةُ، خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ وَهُوَ الَّذِي يَظْهَرُ لِبَادِيِ الرَّأْيِ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ. وَأَصْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ هُوَ فِي التَّوْحِيدِ وَالتَّوَجُّهُ لِلْوَاحِدِ الْحَقِّ سُبْحَانَهُ، فَإِنَّ النَّاسَ فِي عَامَّةِ الْأَمْرِ لَمْ يَخْتَلِفُوا فِي أَنَّ لَهُمْ مُدَبِّرًا يُدَبِّرُهُمْ وَخَالِقًا أَوَجَدَهُمْ، إِلَّا أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا فِي تَعْيِينِهِ عَلَى آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ. مِنْ قَائِلٍ بِالِاثْنَيْنِ وَبِالْخَمْسَةِ، وَبِالطَّبِيعَةِ أَوِ الدَّهْرِ، أَوْ بِالْكَوَاكِبِ، إِلَى أَنْ قَالُوا بِالْآدَمِيِّينَ وَالشَّجَرِ وَالْحِجَارَةِ وَمَا يَنْحِتُونَ بِأَيْدِيهِمْ. وَمِنْهُمْ مَنْ أَقَرَّ بِوَاجِبِ الْوُجُودِ الْحَقِّ لَكِنْ عَلَى آرَاءٍ مُخْتَلِفَةٍ أَيْضًا. إِلَى أَنْ بَعْثَ اللَّهُ الْأَنْبِيَاءَ مُبَيِّنِينَ لِأُمَمِهِمْ حَقَّ مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ بَاطِلِهِ، فَعَرَفُوا بِالْحَقِّ عَلَى مَا يَنْبَغِي، وَنَزَّهُوا رَبَّ الْأَرْبَابِ عَمَّا لَا يَلِيقُ بِجَلَالِهِ مِنْ نِسْبَةِ الشُّرَكَاءِ وَالْأَنْدَادِ، وَإِضَافَةِ الصَّاحِبَةِ وَالْأَوْلَادِ، فَأَقَرَّ بِذَلِكَ مَنْ أَقَرَّ بِهِ، وَهُمُ الدَّاخِلُونَ تَحْتَ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} وَأَنْكَرَ مَنْ أَنْكَرَ، فَصَارَ إِلَى مُقْتَضَى قَوْلِهِ: {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وَإِنَّمَا دَخَلَ الْأَوَّلُونَ تَحْتَ وَصْفِ الرَّحْمَةِ لِأَنَّهُمْ خَرَجُوا عَنْ وَصْفِ الِاخْتِلَافِ إِلَى وَصْفِ الْوِفَاقِ وَالْأُلْفَةِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} وَهُوَ مَنْقُولٌ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ. وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ قَالَ فِي قَوْلِهِ: {وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ} خَلَقَ أَهْلَ الرَّحْمَةِ أَنْ لَا يَخْتَلِفُوا. وَهُوَ مَعْنَى مَا نُقِلَ عَنْ مَالِكٍ وَ طَاوُسَ فِي جَامِعِهِ، وَبَقِيَ الْآخَرُونَ عَلَى وَصْفِ الِاخْتِلَافِ، إِذْ خَالَفُوا الْحَقَّ الصَّرِيحَ، وَنَبَذُوا الدِّينَ الصَّحِيحَ. وَعَنْ مَالِكٍ أَيْضًا قَالَ: الَّذِينَ رَحِمَهُمْ لَمْ يَخْتَلِفُوا. وَقَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ} وَمَعْنَى ذَلِكَ: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ} فَأَخْبَرَ فِي الْآيَةِ أَنَّهُمُ اخْتَلَفُوا وَلَمْ يَتَّفِقُوا، فَبَعَثَ النَّبِيِّينَ لِيَحْكُمُوا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ، وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافِ. وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ: نَحْنُ الْآخَرُونَ السَّابِقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، بَيْدَ أَنَّهُمْ أُوتُوا الْكِتَابَ مَنْ قَبِلْنَا وَأُوتِينَاهُ مَنْ بَعْدِهِمْ، هَذَا يَوْمُهُمُ الَّذِي فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، فَاخْتَلَفُوا فِيهِ فَهَدَانَا اللَّهُ لَهُ، فَالنَّاسُ لَنَا فِيهِ تَبَعٌ، فَالْيَهُودُ غَدًا وَالنَّصَارَى بَعْدَ غَدٍ. وَخَرَّجَ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً} فَهَذَا يَوْمُ أَخَذَ مِيثَاقَهُمْ لَمْ يَكُونُوا أُمَّةً وَاحِدَةً غَيْرَ ذَلِكَ الْيَوْمِ.} فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ} إِلَى قَوْلِهِ: {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ}. وَاخْتَلَفُوا فِي يَوْمِ الْجُمْعَةَ فَاتَّخَذَ الْيَهُودُ يَوْمَ السَّبْتِ وَاتَّخَذَ النَّصَارَى يَوْمَ الْأَحَدِ فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِيَوْمِ الْجُمْعَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الْقِبْلَةِ فَاسْتَقْبَلَتِ النَّصَارَى الْمَشْرِقَ، وَاسْتَقْبَلَتِ الْيَهُودُ بَيْتَ الْمَقْدِسِ، وَهَدَى اللَّهُ أَمَةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْقِبْلَةِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الصَّلَاةِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَرْكَعُ وَلَا يَسْجُدُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْجُدُ وَلَا يَرْكَعُ وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَلَا يَتَكَلَّمُ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُصَلِّي وَهُوَ يَمْشِي، وَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ، فَقَالَتِ الْيَهُودُ كَانَ يَهُودِيًّا، وَقَالَتِ النَّصَارَى نَصْرَانِيًّا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ حَنِيفًا مُسْلِمًا، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ. وَاخْتَلَفُوا فِي عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكَفَرَتْ بِهِ الْيَهُودُ وَقَالُوا لِأُمِّهِ بُهْتَانًا عَظِيمًا وَجَعَلَتْهُ النَّصَارَى إِلَهًا وَوَلَدًا، وَجَعَلَهُ اللَّهُ رَوْحَهُ وَكَلِمَتَهُ، فَهَدَى اللَّهُ أُمَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِلْحَقِّ مِنْ ذَلِكَ. وَالثَّانِي ثُمَّ إِنَّ هَؤُلَاءِ الْمُتَّفِقِينَ قَدْ يَعْرِضُ لَهُمُ الِاخْتِلَافُ بِحَسَبِ الْقَصْدِ الثَّانِي لَا الْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى حَكِيمٌ بِحِكْمَتِهِ أَنْ تَكُونَ فُرُوعُ هَذِهِ الْمِلَّةِ قَابِلَةً لِلْأَنْظَارِ وَمَجَالًا لِلظُّنُونِ، وَقَدْ ثَبَتَ عِنْدَ النُّظَّارِ أَنَّ النَّظَرِيَّاتِ لَا يُمْكِنُ الِاتِّفَاقُ فِيهَا عَادَةً، فَالظَّنِّيَّاتُ عَرِيقَةٌ فِي إِمْكَانِ الِاخْتِلَافِ، لَكِنْ فِي الْفُرُوعِ دُونَ الْأُصُولِ وَفِي الْجُزْئِيَّاتِ دُونَ الْكُلِّيَّاتِ، فَلِذَلِكَ لَا يَضُرُّ هَذَا الِاخْتِلَافُ. وَقَدْ نَقَلَ الْمُفَسِّرُونَ عَنِ الْحَسَنِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُ قَالَ: أَمَّا أَهْلُ رَحْمَةِ اللَّهِ فَإِنَّهُمْ لَا يَخْتَلِفُونَ اخْتِلَافًا يَضُرُّهُمْ. يَعْنِي لِأَنَّهُ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ الَّتِي لَا نَصَّ فِيهَا بِقَطْعِ الْعُذْرِ، بَلْ لَهُمْ فِيهِ أَعْظَمُ الْعُذْرِ، وَمَعَ أَنَّ الشَّارِعَ لَمَّا عَلِمَ أَنَّ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الِاخْتِلَافِ وَاقِعٌ، أَتَى فِيهِ بِأَصْلٍ يُرْجَعُ إِلَيْهِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ، فَكُلُّ اخْتِلَافٍ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ حُكْمُ اللَّهِ فِيهِ أَنْ يُرَدَّ إِلَى اللَّهِ، وَذَلِكَ رَدُّهُ إِلَى كِتَابِهِ، وَإِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَذَلِكَ رَدُّهُ إِلَيْهِ إِذَا كَانَ حَيًّا وَإِلَى سُنَّتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ الْعُلَمَاءُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-. إِلَّا أَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَلْ هُمْ دَاخِلُونَ تَحْتَ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} أَمْ لَا؟ وَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَدْخُلَ تَحْتَ مُقْتَضَاهَا أَهْلُ هَذَا الِاخْتِلَافِ مِنْ أَوْجُهٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ الْآيَةَ اقْتَضَتْ أَنَّ أَهْلَ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِينَ مُبَايِنُونَ لِأَهْلِ الرَّحْمَةِ لِقَوْلِهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فَإِنَّهَا اقْتَضَتْ قِسْمَيْنِ: أَهْلُ الِاخْتِلَافِ، وَالْمَرْحُومِينَ، فَظَاهِرُ التَّقْسِيمِ أَنَّ أَهْلَ الرَّحْمَةِ لَيْسُوا مَنْ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ وَإِلَّا كَانَ قَسْمُ الشَّيْءِ قَسِيمًا لَهُ، وَلَمْ يَسْتَقِمْ مَعْنَى الِاسْتِثْنَاءِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ قَالَ فِيهَا: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ وَصْفَ الِاخْتِلَافِ لَازِمٌ لَهُمْ، حَتَّى أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ لَفْظُ اسْمِ الْفَاعِلِ الْمُشْعِرِ بِالثُّبُوتِ، وَأَهْلُ الرَّحْمَةِ مُبَرَّءُونَ مِنْ ذَلِكَ، لِأَنَّ وَصْفَ الرَّحْمَةِ يُنَافِي الثُّبُوتَ عَلَى الْمُخَالَفَةِ، بَلْ إِنْ خَالَفَ أَحَدُهُمْ فِي مَسْأَلَةٍ فَإِنَّمَا يُخَالِفُ فِيهَا تَحَرِّيًا لِقَصْدِ الشَّارِعِ فِيهَا، حَتَّى إِذَا تَبَيَّنَ لَهُ الْخَطَأُ فِيهَا رَاجَعَ نَفْسَهُ وَتَلَافَى أَمْرَهُ، فَخِلَافُهُ فِي الْمَسْأَلَةِ بِالْعَرْضِ لَا بِالْقَصْدِ الْأَوَّلِ، فَلَمْ يَكُنْ وَصْفُ الِاخْتِلَافِ لَازِمًا وَلَا ثَابِتًا، فَكَانَ التَّعْبِيرُ عَنْهُ بِالْفِعْلِ الَّذِي يَقْتَضِي الْعِلَاجَ وَالِانْقِطَاعَ أَلْيَقَ فِي الْمَوْضِعِ. وَالثَّالِثُ: أَنَا نَقْطَعُ بِأَنَّ الْخِلَافَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ وَاقِعٌ مِمَّنْ حَصَلَ لَهُ مَحْضُ الرَّحْمَةِ، وَهُمُ الصَّحَابَةُ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ بِإِحْسَانٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ-، بِحَيْثُ لَا يَصِحُّ إِدْخَالُهُمْ فِي قِسْمِ الْمُخْتَلِفِينَ بِوَجْهٍ، فَلَوْ كَانَ الْمُخَالِفُ مِنْهُمْ فِي بَعْضِ الْمَسَائِلِ مَعْدُودًا مَنْ أَهْلِ الِاخْتِلَافِ- وَلَوْ بِوَجْهٍ مَا- لَمْ يَصِحَّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ فِي حَقِّهِ: أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الرَّحْمَةِ. وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِإِجْمَاعِ أَهْلِ السُّنَّةِ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ جَمَاعَةً مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ جَعَلُوا اخْتِلَافَ الْأُمَّةِ فِي الْفُرُوعِ ضَرْبًا مِنْ ضُرُوبِ الرَّحْمَةِ، وَإِذَا كَانَ مِنْ جُمْلَةِ الرَّحْمَةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ صَاحِبُهُ خَارِجًا مَنْ قِسْمِ أَهْلِ الرَّحْمَةِ. وَبَيَانُ كَوْنِ الِاخْتِلَافِ الْمَذْكُورِ رَحْمَةً مَا رُوِيَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ: لَقَدْ نَفَعَ اللَّهُ بِاخْتِلَافِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْعَمَلِ، لَا يَعْمَلُ الْعَامِلُ بِعَمَلِ رَجُلٍ مِنْهُمْ إِلَّا رَأَى أَنَّهُ فِي سَعَةٍ. وَعَنْ ضَمْرَةَ بْنِ رَجَاءَ قَالَ: اجْتَمَعَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَالْقَاسِمُ بْنُ مُحَمَّدٍ فَجَعَلَا يَتَذَاكَرَانِ الْحَدِيثَ- قَالَ- فَجَعَلَ عُمَرُ يَجِيءُ بِالشَّيْءِ يُخَالِفُ فِيهِ الْقَاسِمَ- قَالَ- وَجَعَلَ الْقَاسِمُ يَشُقُّ ذَلِكَ عَلَيْهِ حَتَّى يَتَبَيَّنَ ذَلِكَ فِيهِ فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: لَا تَفْعَلُ! فَمَا يَسُرُّنِي بِاخْتِلَافِهِمْ حُمْرُ النَّعَمِ. وَرَوَى ابْنُ وَهْبٍ عَنِ الْقَاسِمِ أَيْضًا قَالَ: لَقَدْ أَعْجَبَنِي قَوْلُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ: مَا أَحِبُّ أَنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَا يَخْتَلِفُونَ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ قَوْلًا وَاحِدًا لَكَانَ النَّاسُ فِي ضِيقٍ، وَإِنَّهُمْ أَئِمَّةٌ يُقْتَدَى بِهِمْ، فَلَوْ أَخَذَ رَجُلٌ بِقَوْلِ أَحَدِهِمْ كَانَ سِعَةً. وَمَعْنَى هَذَا أَنَّهُمْ فَتَحُوا لِلنَّاسِ بَابَ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازَ الِاخْتِلَافِ فِيهِ، لِأَنَّهُمْ لَوْ لَمْ يَفْتَحُوهُ لَكَانَ الْمُجْتَهِدُونَ فِي ضِيقٍ، لِأَنَّ مَجَالَ الِاجْتِهَادِ وَمَجَالَاتِ الظُّنُونِ لَا تَتَّفِقُ عَادَةً- كَمَا تَقَدَّمَ- فَيَصِيرُ أَهْلُ الِاجْتِهَادِ مَعَ تَكْلِيفِهِمْ بِاتِّبَاعِ مَا غَلَبَ عَلَى ظُنُونِهِمْ مُكَلَّفِينَ بِاتِّبَاعِ خِلَافِهِ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنْ تَكْلِيفِ مَا لَا يُطَاقُ، وَذَلِكَ مِنْ أَعْظَمِ الضِّيقِ. فَوَسَّعَ اللَّهُ عَلَى الْأُمَّةِ بِوُجُودِ الْخِلَافِ الْفُرُوعِي فِيهِمْ، فَكَانَ فَتْحُ بَابِ لِلْأُمَّةِ لِلدُّخُولِ فِي هَذِهِ الرَّحْمَةِ، فَكَيْفَ لَا يَدْخُلُونَ فِي قِسْمِ مَنْ (رَحِمَ رَبُّكَ)؟! فَاخْتِلَافُهُمْ فِي الْفُرُوعِ كَاتِّفَاقِهِمْ فِيهَا، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ. وَبَيْنَ هَذَيْنِ الطَّرِيقَيْنِ وَاسِطَةٌ أَدْنَى مِنَ الرُّتْبَةِ الْأُولَى وَأَعْلَى مِنَ الرُّتْبَةِ الثَّانِيَةِ، وَهِيَ أَنْ يَقَعَ الِاتِّفَاقُ فِي أَصْلِ الدِّينِ، وَيَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي بَعْضِ قَوَاعِدِهِ الْكُلِّيَّةِ، وَهُوَ الْمُؤَدِّي إِلَى التَّفَرُّقِ شِيَعًا. فَيُمْكِنُ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ تَنْتَظِمُ هَذَا الْقِسْمَ مِنَ الِاخْتِلَافِ، وَلِذَلِكَ صَحَّ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَنَّ أُمَّتَهُ تَفْتَرِقُ عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَأَخْبَرَ: أَنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَتَّبِعُ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَهَا شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، وَشَمِلَ ذَلِكَ الِاخْتِلَافَ الْوَاقِعَ فِي الْأُمَمِ قَبِلْنَا، وَيُرَشِّحُهُ وَصْفُ أَهْلِ الْبِدَعِ بِالضَّلَالَةِ وَإِيعَادُهُمْ بِالنَّارِ، وَذَلِكَ بَعِيدٌ مِنْ تَمَامِ الرَّحْمَةِ. وَلَقَدْ كَانَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ حَرِيصًا عَلَى أُلْفَتِنَا وَهِدَايَتِنَا، حَتَّى ثَبَتَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا حَضَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قَالَ وَفِي الْبَيْتِ رِجَالٌ فِيهِمْ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ- ـ فَقَالَ: هَلُمَّ أَكْتُبْ لَكُمْ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ غَلَبَهُ الْوَجَعُ، وَعِنْدَكُمُ الْقُرْآنُ فَحَسْبُنَا كِتَابُ اللَّهِ، وَاخْتَلَفَ أَهْلُ الْبَيْتِ وَاخْتَصَمُوا فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ: قَرِّبُوا يَكْتُبْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتَابًا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ كَمَا قَالَ عُمَرُ، فَلَمَّا كَثُرَ اللَّغَطُ وَالِاخْتِلَافُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: قُومُوا عَنِّي فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ: الرَّزِيَّةَ كُلَّ الرَّزِيَّةِ مَا حَالَ بَيْنَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبَيْنَ أَنْ يَكْتُبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ وَلَغَطِهِمْ. فَكَانَ ذَلِكَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- وَحْيًا أَوْحَى اللَّهُ إِلَيْهِ أَنَّهُ إِنْ كَتَبَ لَهُمْ ذَلِكَ الْكِتَابَ لَمْ يَضِلُّوا بَعْدَهُ الْبَتَّةَ، فَتَخْرُجُ الْأُمَّةُ عَنْ مُقْتَضَى قَوْلِهِ: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ} بِدُخُولِهَا تَحْتَ قَوْلِهِ: {إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ} فَأَبَى اللَّهُ إِلَّا مَا سَبَقَ بِهِ عِلْمَهُ مِنِ اخْتِلَافِهِمْ كَمَا اخْتَلَفَ غَيْرُهُمْ. رَضِيَنَا بِقَضَاءِ اللَّهِ وَقَدَرِهِ، وَنَسْأَلُهُ أَنْ يُثَبِّتَنَا عَلَى الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ، وَيُمِيتَنَا عَلَى ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. وَقَدْ ذَهَبَ جَمَاعَةٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ إِلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخْتَلِفِينَ فِي الْآيَةِ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَأَنَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أَهْلُ السُّنَّةِ، وَلَكِنْ لِهَذَا الْكِتَابِ أَصْلٌ يَرْجِعُ إِلَى سَابِقِ الْقَدَرِ لَا مُطْلَقًا، بَلْ مَعَ إِنْزَالِ الْقُرْآنِ مُحْتَمِلُ الْعِبَارَةِ لِلتَّأْوِيلِ، وَهَذَا لَا بُدَّ مِنْ بَسْطِهِ. فَاعْلَمُوا أَنَّ الِاخْتِلَافَ فِي بَعْضِ الْقَوَاعِدِ الْكُلِّيَّةِ لَا يَقَعُ فِي الْعَادِيَّاتِ الْجَارِيَةِ بَيْنَ الْمُتَبَحِّرِينَ فِي عِلْمِ الشَّرِيعَةِ الْخَائِضِينَ فِي لُجَّتِهَا الْعُظْمَى، الْعَالِمَيْنِ بِمَوَارِدِهَا وَمَصَادِرِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ اتِّفَاقُ الْعَصْرِ الْأَوَّلِ وَعَامَّةُ الْعَصْرِ الثَّانِي عَلَى ذَلِكَ، وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الْقِسْمِ الْمَفْرُوغِ مِنْهُ آنِفًا، بَلْ كُلٌّ عَلَى الْوَصْفِ الْمَذْكُورِ وَقَعَ بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ أَسْبَابٌ ثَلَاثَةٌ قَدْ تَجْتَمِعُ وَقَدْ تَفْتَرِقُ: أَحَدُهَا: أَنْ يَعْتَقِدَ الْإِنْسَانُ فِي نَفْسِهِ أَوْ يُعْتَقَدَ فِيهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ وَالِاجْتِهَادِ فِي الدِّينِ- وَلَمْ يَبْلُغْ تِلْكَ الدَّرَجَةَ- فَيَعْمَلُ عَلَى ذَلِكَ، وَيَعُدُّ رَأْيَهُ رَأْيًا وَخِلَافُهُ خِلَافًا، وَلَكِنْ تَارَةً يَكُونُ ذَلِكَ فِي جُزْئِيٍّ وَفَرْعٍ مِنَ الْفُرُوعِ، وَتَارَةً يَكُونُ فِي كُلِّ أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ- كَانَ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ أَوْ مِنَ الْأُصُولِ الْعَمَلِيَّةِ- فَتَارَةً آخِذًا بِبَعْضِ جُزْئِيَّاتِ الشَّرِيعَةِ فِي هَدْمِ كُلِّيَّاتِهَا، حَتَّى يَصِيرَ مِنْهَا مَا ظَهَرَ لَهُ بَادِيَ رَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ بِمَعَانِيهَا وَلَا رُسُوخٍ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِهَا، وَهَذَا هُوَ الْمُبْتَدَعُ، وَعَلَيْهِ نَبَّهَ الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ أَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: لَا يَقْبِضُ اللَّهُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ فَضَّلُوا وَأَضَلُّوا. قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: تَقْدِيرُ هَذَا الْحَدِيثِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا يُؤْتَى النَّاسُ قَطُّ مِنْ قِبَلِ عُلَمَائِهِمْ، وَإِنَّمَا يُؤْتَوْنَ مِنْ قِبَلِ أَنَّهُ إِذَا مَاتَ عُلَمَاؤُهُمْ أَفْتَى مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ. فَيُؤْتَى النَّاسُ مِنْ قِبَلِهِ، وَقَدْ صُرِّفَ هَذَا الْمَعْنَى تَصْرِيفًا، فَقِيلَ: مَا خَانَ أَمِينٌ قَطُّ وَلَكِنَّهُ ائْتَمَنَ غَيْرَ أَمِينٍ فَخَانَ. قَالَ وَنَحْنُ نَقُولُ: مَا ابْتَدَعَ عَالِمٌ قَطُّ، وَلَكِنَّهُ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَيْسَ بِعَالِمٍ. قَالَ مَالِكُ بْنُ أَنَسٍ: بَكَى رَبِيعَةُ يَوْمًا بُكَاءً شَدِيدًا، فَقِيلَ لَهُ: مُصِيبَةٌ نَزَلَتْ بِكَ؟ فَقَالَ لَا! وَلَكِنِ اسْتُفْتِيَ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدَهُ. وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَبْلَ السَّاعَةِ سِنُونَ خِدَاعًا، يُصَدَّقُ فِيهِنَّ الْكَاذِبُ، وَيُكَذَّبُ فِيهِنَّ الصَّادِقُ، وَيَخُونُ فِيهِنَّ الْأَمِينُ، وَيُؤْتَمَنُ الْخَائِنُ، وَيَنْطِقُ فِيهِنَّ الرُّوَيْبِضَةُ قَالُوا: هُوَ الرَّجُلُ التَّافَةُ الْحَقِيرُ يَنْطِقُ فِي أُمُورِ الْعَامَّةِ، كَأَنَّهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ أَنْ يَتَكَلَّمَ فِي أُمُورِ الْعَامَّةِ فَيَتَكَلَّمُ. وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: قَدْ عَلِمْتُ مَتَى يَهْلِكُ النَّاسُ! إِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قَبِلَ الصَّغِيرِ اسْتَعْصَى عَلَيْهِ الْكَبِيرُ، وَإِذَا جَاءَ الْفِقْهُ مِنْ قِبَلِ الْكَبِيرِ تَابَعَهُ الصَّغِيرُ فَاهْتَدَيَا. وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: لَا يَزَالُ النَّاسُ بِخَيْرٍ مَا أَخَذُوا الْعِلْمَ مِنْ أَكَابِرِهِمْ، فَإِذَا أَخَذُوهُ عَنْ أَصَاغِرِهِمْ وَشِرَارِهِمْ هَلَكُوا. وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيمَا أَرَادَ عُمَرُ بِالصِّغَارِ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ: هُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَهُوَ مُوَافِقٌ، لِأَنَّ أَهْلَ الْبِدَعِ أَصَاغِرُ فِي الْعِلْمِ، وَلِأَجْلِ ذَلِكَ صَارُوا أَهْلَ بِدَعٍ. وَقَالَ الْبَاجِيُّ: يُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ الْأَصَاغِرُ مَنْ لَا عِلْمَ عِنْدِهِ. قَالَ: وَقَدْ كَانَ عُمَرُ يَسْتَشِيرُ الصِّغَارَ، وَكَانَ الْقُرَّاءُ أَهْلُ مُشَاوَرَتِهِ كُهُولًا وَشُبَّانًا. قَالَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرِيدَ بِالْأَصَاغِرِ مَنْ لَا قَدْرَ لَهُ وَلَا حَالَ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إِلَّا بِنَبْذِ الدِّينِ وَالْمُرُوءَةِ. فَأَمَّا مَنِ الْتَزَمَهُمَا فَلَا بُدَّ أَنْ يَسْمُوَ أَمْرُهُ، وَيَعْظُمُ قَدْرُهُ. وَمِمَّا يُوَضِّحُ هَذَا التَّأْوِيلَ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ بِسَنَدٍ مَقْطُوعٍ عَنِ الْحَسَنِ قَالَ: الْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ كَالسَّائِرِ عَلَى غَيْرِ طَرِيقٍ، وَالْعَامِلُ عَلَى غَيْرِ عِلْمٍ مَا يُفْسِدُ أَكْثَرَ مِمَّا يُصْلِحُ، فَاطْلُبُوا الْعِلْمَ طَلَبًا لَا يَضُرُّ بِتَرْكِ الْعِبَادَةِ، فَاطْلُبُوا الْعِبَادَةَ طَلَبًا لَا يَضُرُّ بِتَرْكِ الْعِلْمِ، فَإِنَّ قَوْمًا طَلَبُوا الْعِبَادَةَ وَتَرَكُوا الْعِلْمَ حَتَّى خَرَجُوا بِأَسْيَافِهِمْ عَلَى أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَوْ طَلَبُوا الْعِلْمَ لَمْ يَدُلَّهُمْ عَلَى مَا فَعَلُوا- يَعْنِي الْخَوَارِجَ- وَاللَّهُ أَعْلَمُ، لِأَنَّهُمْ قَرَؤُوا الْقُرْآنَ وَلَمْ يَتَفَقَّهُوا فِيهِ حَسْبَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ الْحَدِيثُ. يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ مَكْحُولٍ أَنَّهُ قَالَ: تَفَقُّهُ الرِّعَاعِ فَسَادُ الدِّينِ وَالدُّنْيَا، وَتَفَقُّهُ السَّفَلَةِ فَسَادُ الدِّينِ. وَقَالَ الْفِرْيَابِيُّ: كَانَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ إِذَا رَأَى هَؤُلَاءِ النَّبْطَ يَكْتُبُونَ الْعِلْمَ تَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ! أَرَاكَ إِذَا رَأَيْتَ هَؤُلَاءِ يَكْتُبُونَ الْعِلْمَ يَشْتَدُّ عَلَيْكَ. قَالَ: كَانَ الْعِلْمُ فِي الْعَرَبِ وَفِي سَادَاتِ النَّاسِ، وَإِذَا خَرَجَ عَنْهُمْ وَصَارَ إِلَى هَؤُلَاءِ النَّبْطِ وَالسَّفَلَةِ غُيِّرَ الدِّينُ. وَهَذِهِ الْآثَارُ أَيْضًا إِذَا حُمِلَتْ عَلَى التَّأْوِيلِ الْمُتَقَدِّمِ اشْتَدَّتْ وَاسْتَقَامَتْ، لِأَنَّ ظَوَاهِرَهَا مُشَكَّلَةٌ، وَلَعَلَّكَ إِذَا اسْتَقْرَيْتَ أَهْلَ الْبِدَعِ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ، أَوْ أَكْثَرَهُمْ وَجَدْتَهُمْ مِنْ أَبْنَاءِ سَبَايَا الْأُمَمِ، وَمَنْ لَيْسَ لَهُ أَصَالَةٌ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، فَعَمَّا قَرِيبٍ يُفْهَمُ كِتَابُ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ وَجْهِهِ، كَمَا أَنَّ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ فَهِمَهَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِهَا.
وَالثَّانِي مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ: اتِّبَاعُ الْهَوَى وَلِذَلِكَ سُمِّيَ أَهْلُ الْبِدَعِ أَهْلَ الْأَهْوَاءِ لِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ فَلَمْ يَأْخُذُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَأْخَذَ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَالتَّعْوِيلِ عَلَيْهَا، حَتَّى يَصْدُرُوا عَنْهَا، بَلْ قَدَّمُوا أَهْوَاءَهُمْ، وَاعْتَمَدُوا عَلَى آرَائِهِمْ، ثُمَّ جَعَلُوا الْأَدِلَّةَ الشَّرْعِيَّةَ مَنْظُورًا فِيهَا مِنْ وَرَاءِ ذَلِكَ، وَأَكْثَرُ هَؤُلَاءِ هُمْ أَهْلُ التَّحْسِينِ وَالتَّقْبِيحِ، وَمِنْ مَالَ إِلَى الْفَلَاسِفَةِ وَغَيْرِهِمْ، وَيَدْخُلُ فِي غِمَارِهِمْ مَنْ كَانَ مِنْهُمْ يَخْشَى السَّلَاطِينَ لِنَيْلِ مَا عِنْدَهُمْ، أَوْ طَلَبًا لِلرِّيَاسَةِ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَمِيلَ مَعَ النَّاسِ بِهَوَاهُمْ، وَيَتَأَوَّلَ عَلَيْهِمْ فِيمَا أَرَادُوا، حَسْبَمَا ذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ وَنَقَلَهُ مِنْ مُصَاحِبِي السَّلَاطِينُ. فَالْأَوَّلُونَ رَدُّوا كَثِيرًا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ بِعُقُولِهِمِ، وَأَسَاؤُوا الظَّنَّ بِمَا صَحَّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَحَسَّنُوا ظَنَّهُمْ بِآرَائِهِمُ الْفَاسِدَةِ، حَتَّى رَدُّوا كَثِيرًا مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ وَأَحْوَالِهَا مِنَ الصِّرَاطِ وَالْمِيزَانِ، وَحَشْرِ الْأَجْسَادِ، وَالنَّعِيمِ وَالْعَذَابِ الْجِسْمِيَّيْنِ، وَأَنْكَرُوا رُؤْيَةَ الْبَارِي، وَأَشْبَاهَ ذَلِكَ، بَلْ صَيَّرُوا الْعَقْلَ شَارِعًا جَاءَ الشَّرْعُ أَوْ لَا، بَلْ إِنْ جَاءَ فَهُوَ كَاشِفٌ لِمُقْتَضَى مَا حَكَمَ بِهِ الْعَقْلُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الشَّنَاعَاتِ. وَالْآخَرُونَ خَرَجُوا عَنِ الْجَادَّةِ إِلَى الْبَنِيَّاتِ، وَإِنْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِطَلَبِ الشَّرِيعَةِ، حِرْصًا عَلَى أَنْ يَغْلِبَ عَدْوُهُ، أَوْ يُفِيدَ وَلِيَّهُ، أَوْ يَجُرَّ إِلَى نَفْسِهِ نَفْعًا، كَمَا ذَكَرُوا عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ يَحْيَى بْنِ لُبَابَةَ أَخِي الشَّيْخِ ابْنِ لُبَابَةَ الْمَشْهُورِ، فَإِنَّهُ عُزِلَ عَنِ قَضَاءِ الْبِيرَةِ ثُمَّ عُزِلَ عَنِ الشُّورَى لِأَشْيَاءَ نُقِمَتْ عَلَيْهِ، وَسَجَّلَ بِسَخْطَتِهِ الْقَاضِي حَبِيبُ بْنُ زِيَادَةَ، وَأَمَرَ بِإِسْقَاطِ عَدَالَتِهِ وَإِلْزَامِهِ بَيْتَهُ، وَأَنْ لَا يُفْتِيَ أَحَدًا. ثُمَّ إِنَّ النَّاصِرَ احْتَاجَ إِلَى شِرَاءِ مُجَشِّرٍ مِنْ أَحْبَاسِ الْمَرْضَى بِقُرْطُبَةَ بِعَدْوَةِ النَّهْرِ، فَشَكَا إِلَى الْقَاضِي ابْنِ بَقِيٍّ ضَرُورَتَهُ إِلَيْهِ لِمُقَابَلَتِهِمْ مَنْزَهَهُ، وَتَأَذِّيهِ بِرُؤْيَتِهِمْ أَوَانَ تَطَلُّعِهِ مِنْ عَلَالِيهِ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ بَقِيٍّ: لَا حِيلَةَ عِنْدِي فِيهِ، وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُحَاطَ بِحُرْمَةِ الْحَبْسِ فَقَالَ لَهُ: تَكَلَّمْ مَعَ الْفُقَهَاءِ فِيهِ وَعَرِّفْهُمْ رَغْبَتِي، وَمَا أَجْزَلَهُ مِنْ أَضْعَافِ الْقِيمَةِ فِيهِ. فَلَعَلَّهُمْ أَنْ يَجِدُوا لِي فِي ذَلِكَ رُخْصَةً. فَتَكَلَّمَ ابْنُ بَقِيٍّ مَعَهُمْ فَلَمْ يَجِدُوا إِلَيْهِ سَبِيلًا، فَغَضِبَ النَّاصِرُ عَلَيْهِمْ وَأَمَرَ الْوُزَرَاءَ بِالتَّوْجِيهِ فِيهِمْ إِلَى الْقَصْرِ، وَتَوْبِيخِهِمْ، فَجَرَتْ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ بَعْضِ الْوُزَرَاءِ مُكَالَمَةٌ، وَلَمْ يَصِلِ النَّاصِرُ مَعَهُمْ إِلَى مَقْصُودِهِ. وَبَلَغَ ابْنَ لُبَابَةَ هَذَا الْخَبَرُ فَدَفَعَ إِلَى النَّاصِرِ بَعْضًا مِنْ أَصْحَابِهِ الْفُقَهَاءِ وَيَقُولُ: إِنَّهُمْ حَجَرُوا عَلَيْهِ وَاسِعًا. وَلَوْ كَانَ حَاضِرًا لَأَفْتَاهُ بِجَوَازِ الْمُعَارَضَةِ، وَتَقَلَّدَ حَقًّا وَنَاظَرَ أَصْحَابَهُ فِيهَا. فَوَقَعَ الْأَمْرُ بِنَفْسِ النَّاصِرِ، وَأَمَرَ بِإِعَادَةِ مُحَمَّدِ بْنِ لُبَابَةَ إِلَى الشُّورَى عَلَى حَالَتِهِ الْأَوْلَى، ثُمَّ أَمَرَ الْقَاضِي بِإِعَادَةِ الْمَشُورَةِ فِي الْمَسْأَلَةِ. فَاجْتَمَعَ الْقَاضِي وَالْفُقَهَاءُ وَجَاءَ ابْنُ لَبَابَةَ آخِرَهُمْ. وَعَرَّفَهُمُ الْقَاضِي ابْنُ بَقِيٍّ بِالْمَسْأَلَةِ الَّتِي جَمَعَهُمْ مِنْ أَجْلِهَا وَغِبْطَةِ الْمُعَاوَضَةِ فِيهَا. فَقَالَ جَمِيعُهُمْ بِقَوْلِهِمُ الْأَوَّلِ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ تَغْيِيرِ الْحَبْسِ عَنْ وَجْهِهِ- وَابْنِ لُبَابَةَ سَاكِتٌ- فَقَالَ لَهُ الْقَاضِي: مَا تَقُولُ أَنْتَ يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ؟ قَالَ: أَمَّا قَوْلُ إِمَامِنَا مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ فَالَّذِي قَالَهُ أَصْحَابُنَا الْفُقَهَاءُ. وَأَمَّا أَهْلُ الْعِرَاقِ فَإِنَّهُمْ لَا يُجِيزُونَ الْحَبْسَ أَصْلًا، وَهُمْ عُلَمَاءُ أَعْلَامٌ يَقْتَدِي بِهِمْ أَكْثَرُ الْأُمَّةِ، وَإِذَا بِأَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْحَاجَةِ إِلَى هَذَا الْمُجَشِّرِ مَا بِهِ، فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَرِدَ عَنْهُ، وَلَهُ فِي السُّنَّةِ فُسْحَةٌ، وَأَنَا أَقُولُ بِقَوْلِ أَهَّلِ الْعِرَاقِ، وَأَتَقَلَّدُ ذَلِكَ رَأْيًا. فَقَالَ لَهُ الْفُقَهَاءُ: سُبْحَانَ اللَّهِ! تَتْرُكُ قَوْلَ مَالِكٍ الَّذِي أَفْتَى بِهِ أَسْلَافَنَا وَمَضَوْا عَلَيْهِ وَاعْتَقَدْنَاهُ بَعْدَهُمْ وَأَفْتَيْنَا بِهِ لَا نَحِيدُ عَنْهُمْ بِوَجْهٍ، وَهُوَ رَأْيُ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ وَرَأْيُ الْأَئِمَّةِ آبَائِهِ؟ فَقَالَ لَهُمْ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى: نَاشَدْتُكُمُ اللَّهَ الْعَظِيمَ! أَلَمْ تَنْزِلْ بِأَحَدٍ مِنْكُمْ مَلَمَّةٌ بَلَغَتْ بِكُمْ أَنْ أَخَذْتُمْ فِيهَا بِغَيْرِ قَوْلِ مَالِكٍ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِكُمْ. وَأَرْخَصْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فِي ذَلِكَ؟ قَالُوا: بَلَى! قَالَ: فَأَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أَوْلَى بِذَلِكَ، فَخُذُوا بِهِ مَأْخَذَكُمْ، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ مَنْ يُوَافِقُهُ مِنَ الْعُلَمَاءِ فَكُلُّهُمْ قُدْوَةٌ. فَسَكَتُوا. فَقَالَ لِلْقَاضِي: أَنْهِ إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ فُتْيَايَ. فَكَتَبَ الْقَاضِي إِلَى أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ بِصُورَةِ الْمَجْلِسِ، وَبَقِيَ مَعَ أَصْحَابِهِ بِمَكَانِهِمْ إِلَى أَنْ أَتَى الْجَوَابُ بِأَنْ يُؤْخَذَ لَهُ بِفُتْيَا مُحَمَّدِ بْنِ لُبَابَةَ، وَيُنَفَّذَ ذَلِكَ وَيُعَوَّضَ الْمَرْضَى مِنْ هَذَا الْمِجْشَرِ بِأَمْلَاكٍ ثَمِينَةٍ عَجَبٍ، وَكَانَتْ عَظِيمَةَ الْقَدْرِ جِدًّا، تَزِيدُ أَضْعَافًا عَلَى الْمِجْشَرِ. ثُمَّ جِيءَ بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ إِلَى ابْنِ لُبَابَةٍ بِوِلَايَةِ خُطَّةِ الْوَثَائِقِ لِيَكُونَ هُوَ الْمُتَوَلِّيَ لِعَقْدِ هَذِهِ الْمُعَاوَضَةِ، فَهَنِئَ بِالْوِلَايَةِ، وَأَمْضَى الْقَاضِي الْحُكْمَ بِفَتْوَاهُ وَأَشْهَدَ عَلَيْهِ وَانْصَرَفُوا، فَلَمْ يَزَلِ ابْنُ لُبَابَةَ يَتَقَلَّدُ خُطَّةَ الْوَثَائِقِ وَالشُّورَى إِلَى أَنْ مَاتَ سَنَةَ سِتٍّ وَثَلَاثِينَ وَثَلَاثِمِائَةٍ. قَالَ الْقَاضِي عِيَاضٌ: ذَاكَرْتُ بَعْضَ مَشَايِخِنَا مَرَّةً بِهَذَا الْخَبَرِ، فَقَالَ: يَنْبَغِي أَنْ يُضَافَ هَذَا الْخَبَرُ الَّذِي حَلَّ سِجِلَّ السُّخْطَةِ إِلَى سِجِلِّ السُّخْطَةِ، فَهُوَ أَوْلَى وَأَشَدُّ فِي السُّخْطَةِ مِمَّا تَضَمَّنَهُ- أَوْ كَمَا قَالَ. فَتَأَمَّلُوا كَيْفَ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَأَوْلَى أَنْ يَنْتَهِيَ بِصَاحِبِهِ فَشَأْنُ مِثْلِ هَذَا لَا يَحُلُّ أَصْلًا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَمْ يَتَحَقَّقِ الْمَذْهَبُ الَّذِي حَكَمَ بِهِ، لِأَنَّ أَهْلَ الْعِرَاقِ لَا يُبْطِلُونَ الْإِحْبَاسَ هَكَذَا عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَمَنْ حَكَى عَنْهُمْ ذَلِكَ، فَإِمَّا عَلَى غَيْرِ تَثْبِيتٍ، وَإِمَّا أَنَّهُ كَانَ قَوْلًا لَهُمْ رَجَعُوا عَنْهُ، بَلْ مَذْهَبُهُمْ يَقْرُبُ مِنْ مَذْهَبِ مَالِكٍ حَسْبَمَا هُوَ مَذْكُورٌ فِي كُتُبِ الْحَنَفِيَّةِ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ إِنْ سَلَّمَنَا صِحَّتَهُ فَلَا يَصِحُّ لِلْحَاكِمِ أَنْ يَرْجِعَ فِي حُكْمِهِ فِي أَحَدِ الْقَوْلَيْنِ بِالصُّحْبَةِ وَالْإِمَارَةِ أَوْ قَضَاءِ الْحَاجَةِ، إِنَّمَا التَّرْجِيحُ بِالْوُجُوهِ الْمُعْتَبَرَةِ شَرْعًا، وَهَذَا مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ الْعُلَمَاءِ، فَكُلُّ مَنِ اعْتَمَدَ عَلَى تَقْلِيدِ قَوْلٍ غَيْرِ مُحَقَّقٍ، أَوْ رَجَّحَ بِغَيْرِ مَعْنَى مُعْتَبَرٍ فَقَدْ خَلَعَ الرِّبْقَةَ وَاسْتَنَدَ إِلَى غَيْرِ شَرْعٍ، عَافَانَا اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ بِفَضْلِهِ. فَهَذِهِ الطَّرِيقَةُ فِي الْفُتْيَا مِنْ جُمْلَةِ الْبِدَعِ الْمُحْدَثَاتِ فِي دِينِ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا أَنَّ تَحْكِيمَ الْعَقْلِ عَلَى الدِّينِ مُطْلَقًا مُحْدَثٌ، وَسَيَأْتِي بَيَانُ ذَلِكَ بَعْدُ، إِنْ شَاءَ اللَّهُ. وَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا وَجْهُ اتِّبَاعِ الْهَوَى، وَهُوَ أَصْلُ الزَّيْغِ عَنِ الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ}- أَيْ مَيْلٌ عَنِ الْحَقِّ ـ} فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ} وَقَدْ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْآيَةِ، فَمِنْ شَأْنِهِمْ أَنْ يَتْرُكُوا الْوَاضِحَ وَيَتَّبِعُوا الْمُتَشَابِهَ، عَكْسَ مَا عَلَيْهِ الْحَقُّ فِي نَفْسِهِ. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- وَذُكِرَتِ الْخَوَارِجُ عِنْدَهُ وَمَا يُلْقُونَ فِي الْقُرْآنِ فَقَالَ: يُؤْمِنُونَ بِمُحَكِّمِهِ، وَيَهْلِكُونَ عِنْدَ مُتَشَابِهِهِ، وَقَرَأَ ابْنِ عَبَّاسٍ الْآيَةَ. خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ. وَقَدْ دَلَّ عَلَى ذِمَّةِ الْقُرْآنِ فِي قَوْلِهِ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ} الْآيَةَ، وَلَمْ يَأْتِ فِي الْقُرْآنِ ذِكْرُ الْهَوَى إِلَّا فِي مَعْرِضِ الذَّمِّ. حَكَى ابْنُ وَهَبٍ عَنْ طَاوُسَ أَنَّهُ قَالَ: مَا ذَكَرَ اللَّهُ هَوًى فِي الْقُرْآنِ إِلَّا ذَمَّهُ، وَقَالَ: {وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنَ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ} إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَحَكَى أَيْضًا عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ مَهْدِيٍّ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ عَنِ الْأَهْوَاءِ: أَيُّهَا خَيْرٌ؟ فَقَالَ: مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي شَيْءٍ مِنْهَا مِثْقَالَ ذَرَّةٍ مِنْ خَيْرٍ وَمَا هِيَ إِلَّا زِينَةُ الشَّيْطَانِ وَمَا الْأَمْرُ إِلَّا الْأَمْرُ الْأَوَّلُ. يَعْنِي مَا كَانَ عَلَيْهِ السَّلَفُ الصَّالِحُ. وَخَرَّجَ عَنِ الثَّوْرِيِّ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا-، فَقَالَ: أَنَا عَلَى هَوَاكَ. فَقَالَ لَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ: الْهَوَى كُلُّهُ ضَلَالَةٌ: أَيُّ شَيْءٍ أَنَا عَلَى هَوَاكَ؟.
وَالثَّالِثُ مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ التَّصْمِيمُ عَلَى اتِّبَاعِ الْعَوَائِدِ وَإِنْ فَسَدَتْ أَوْ كَانَتْ مُخَالِفَةً لِلْحَقِّ وَهُوَ اتِّبَاعُ مَا كَانَ عَلَيْهِ الْآبَاءُ وَالْأَشْيَاخُ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَهُوَ التَّقْلِيدُ الْمَذْمُومُ، فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ بِذَلِكَ فِي كِتَابِهِ بِقَوْلِهِ: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ} الْآيَةَ. ثُمَّ قَالَ: {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} وَقَوْلُهُ: {هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ، أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ} فَنَبَّهَهُمْ عَلَى وَجْهِ الدَّلِيلِ الْوَاضِحِ فَاسْتَمْسَكُوا بِمُجَرَّدِ تَقْلِيدِ الْآبَاءِ، فَقَالُوا: {بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} وَهُوَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ الْمُتَقَدِّمُ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا إِلَى آخِرِهِ، فَإِنَّهُ يُشِيرُ إِلَى الِاسْتِنَانِ بِالرِّجَالِ كَيْفَ كَانَ. وَفِيمَا يُرْوَى عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: إِيَّاكُمْ وَالِاسْتِنَانَ بِالرِّجَالِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ يَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَنْقَلِبُ لِعِلْمِ اللَّهِ فِيهِ فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فَيَمُوتُ وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ، فَبِالْأَمْوَاتِ لَا بِالْأَحْيَاءِ. فَهُوَ إِشَارَةٌ إِلَى الْأَخْذِ بِالِاحْتِيَاطِ فِي الدِّينِ، وَأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَعْتَمِدَ عَلَى عَمَلِ أَحَدٍ الْبَتَّةَ، حَتَّى يَثْبُتَ فِيهِ وَيَسْأَلَ عَنْ حُكْمِهِ، إِذْ لَعَلَّ الْمُعْتَمِدَ عَلَى عَمَلِهِ يَعْمَلُ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ. وَلِذَلِكَ قِيلَ: لَا تَنْظُرْ إِلَى عَمَلِ الْعَالِمِ. وَلَكِنَّ سَلْهُ يَصْدُقْكَ. وَقَالُوا: ضَعْفُ الرَّوِيَّةِ أَنْ يَكُونَ رَأَى فُلَانًا يَعْمَلُ مِثْلَهُ. وَلَعَلَّهُ فَعَلَهُ سَاهِيًا. وَلَيْسَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ عَمَلُ أَهْلِ الْمَدِينَةِ. وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ دَلِيلٌ ثَابِتٌ عِنْدَ جَمَاعَةٍ مِنَ الْعُلَمَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَيْسَ مِمَّا نَحْنُ فِيهِ. وَقَوْلُ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ـ: فَإِنْ كُنْتُمْ لَا بُدَّ فَاعِلِينَ فَبِالْأَمْوَاتِ نُكْتَةٌ فِي الْمَوْضِعِ. يَعْنِي الصَّحَابَةَ، وَمَنْ جَرَى مَجْرَاهُمْ مِمَّنْ يُؤْخَذُ بِقَوْلِهِ وَيُعْتَمَدُ عَلَى فَتْوَاهُ. وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَحُلَّ ذَلِكَ الْمَحَلَّ فَلَا. كَأَنْ يَرَى الْإِنْسَانُ رَجُلًا يَحْسُنُ اعْتِقَادُهُ فِيهِ يَفْعَلُ فِعْلًا مُحْتَمَلًا أَنْ يَكُونَ مَشْرُوعًا أَوْ غَيْرَ مَشْرُوعٍ فَيَقْتَدِي بِهِ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَيَعْتَمِدُ عَلَيْهِ فِي التَّعَبُّدِ. وَيَجْعَلُهُ حُجَّةً فِي دِينِ اللَّهِ، فَهَذَا هُوَ الضَّلَالُ بِعَيْنِهِ. وَمَا لَمْ يُتَثَبَّتْ بِالسُّؤَالِ وَالْبَحْثِ عَنْ حُكْمِ الْفِعْلِ مِمَّنْ هُوَ أَهْلُ الْفَتْوَى. وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الَّذِي مَالَ بِأَكْثَرِ الْمُتَأَخِّرِينَ مِنْ عَوَامِّ الْمُبْتَدِعَةِ، إِذَا اتَّفَقَ أَنْ يَنْضَافَ إِلَى شَيْخٍ جَاهِلٍ أَوْ لَمْ يَبْلُغْ مَبْلَغَ الْعُلَمَاءِ، فَيَرَاهُ يَعْمَلُ عَمَلًا فَيَظُنُّهُ عِبَادَةً فَيَقْتَدِي بِهِ. كَائِنًا مَا كَانَ ذَلِكَ الْعَمَلُ. مُوَافِقًا لِلشَّرْعِ أَوْ مُخَالِفًا. وَيَحْتَجُّ بِهِ عَلَى مَنْ يُرْشِدُهُ وَيَقُولُ: كَانَ الشَّيْخُ فُلَانٌ مِنَ الْأَوْلِيَاءِ وَكَانَ يَفْعَلُهُ وَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُقْتَدَى بِهِ مِنْ عُلَمَاءِ أَهْلِ الظَّاهِرِ. فَهُوَ فِي الْحَقِيقَةِ رَاجِعٌ إِلَى تَقْلِيدِ مَنْ حَسُنَ ظَنُّهُ فِيهِ أَخْطَأَ أَوْ أَصَابَ. كَالَّذِينِ قَلَّدُوا آبَاءَهُمْ سَوَاءً. وَإِنَّمَا قُصَارَى هَؤُلَاءِ أَنْ يَقُولُوا: إِنَّ آبَاءَنَا أَوْ شُيُوخَنَا لَمْ يَكُونُوا يَنْتَحِلُونَ مِثْلَ هَذِهِ الْأُمُورِ سُدًى. وَمَا هِيَ إِلَّا مَقْصُودَةٌ بِالدَّلَائِلِ وَالْبَرَاهِينِ مَعَ أَنَّهُمْ يَرَوْنَ وَيَرَوْنَ أَنْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهَا. وَلَا بُرْهَانَ يَقُودُ إِلَى الْقَوْلِ بِهَا.
هَذِهِ الْأَسْبَابُ الثَّلَاثَةُ رَاجِعَةٌ فِي التَّحْصِيلِ إِلَى وَجْهٍ وَاحِدٍ: وَهُوَ الْجَهْلُ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَالتَّخَرُّصِ عَلَى مَعَانِيهَا بِالظَّنِّ مِنْ غَيْرِ تَثَبُّتٍ، أَوِ الْأَخْذِ فِيهَا بِالنَّظَرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ مِنْ رَاسِخٍ فِي الْعِلْمِ. أَلَّا تَرَى إِلَى أَنَّ الْخَوَارِجَ كَيْفَ خَرَجُوا عَنِ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الصَّيْدِ الْمَرْمِيِّ؟ لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَفَهُمْ: بِأَنَّهُمْ يَقْرَؤُنَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَعْنِي- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَنَّهُمْ لَا يَتَفَقَّهُونَ بِهِ حَتَّى يَصِلَ إِلَى قُلُوبِهِمْ لِأَنَّ الْفَهْمَ رَاجِعٌ إِلَى الْقَلْبِ، فَإِذَا لَمْ يَصِلْ إِلَى الْقَلْبِ لَمْ يَحْصُلْ فِيهِ فَهْمٌ عَلَى حَالٍ، وَإِنَّمَا يَقِفُ عِنْدَ مَحَلِّ الْأَصْوَاتِ وَالْحُرُوفِ الْمَسْمُوعَةِ فَقَطْ، وَهُوَ الَّذِي يَشْتَرِكُ فِيهِ مَنْ يَفْهَمُ وَمَنْ لَا يَفْهَمُ، وَمَا تَقَدَّمَ أَيْضًا مِنْ قَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعَلَمَ انْتِزَاعًا إِلَى آخِرِهِ. وَقَدْ وَقَعَ لِابْنِ عَبَّاسٍ تَفْسِيرُ ذَلِكَ عَلَى مَعْنَى مَا نَحْنُ فِيهِ، فَخَرَّجَ أَبُو عُبَيْدٍ فِي فَضَائِلِ الْقُرْآنِ، وَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ فِي تَفْسِيرِهِ عَنْ إِبْرَاهِيمَ التَّمِيمِيِّ قَالَ: خَلَا عُمَرُ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- ذَاتَ يَوْمٍ، فَجَعَلَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ؟ فَأَرْسَلَ إِلَى ابْنِ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- فَقَالَ: كَيْفَ تَخْتَلِفُ هَذِهِ الْأُمَّةُ وَنَبِيُّهَا وَاحِدٌ وَقِبْلَتُهَا وَاحِدَةٌ- زَادَ سَعِيدٌ وَكِتَابُهَا وَاحِدٌ- قَالَ، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ: إِنَّمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْقُرْآنُ فَقَرَأْنَاهُ، وَعَلِمْنَا فِيمَا أُنْزِلَ، وَأَنَّهُ سَيَكُونُ بَعْدَنَا أَقْوَامٌ يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ وَلَا يَدْرُونَ فِيمَا نَزَلَ، فَيَكُونُ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِنْ كَانَ لَهُمْ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا، وَقَالَ سَعِيدٌ: فَيَكُونُ لِكُلِّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ اخْتَلَفُوا، وَقَالَ سَعِيدٌ فَيَكُونُ لَكُلِّ قَوْمٍ فِيهِ رَأْيٌ اخْتَلَفُوا فَإِذَا اخْتَلَفُوا اقْتَتَلُوا. قَالَ: فَزَجَرَهُ عُمَرُ وَانْتَهَرَهُ عَلِيٌّ فَانْصَرَفَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَنَظَرَ عُمَرُ فِيمَا قَالَ فَعَرَفَهُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ وَقَالَ: أَعِدْ عَلَيَّ مَا قُلْتَهُ. فَأَعَادَ عَلَيْهِ، فَعَرَفَ عُمَرُ قَوْلَهُ وَأَعْجَبَهُ. وَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا- هُوَ الْحَقُّ، فَإِنَّهُ إِذَا عَرَفَ الرَّجُلَ فِيمَا نَزَلَتِ الْآيَةُ أَوِ السُّورَةُ عَرَفَ مَخْرَجَهَا وَتَأْوِيلَهَا وَمَا قُصِدَ بِهَا، فَلَمْ يَتَعَدَّ ذَلِكَ فِيهَا، وَإِذَا جَهِلَ فِيمَا أُنْزِلَتِ احْتَمَلَ النَّظَرُ فِيهَا أَوْجُهًا. فَذَهَبَ كُلُّ إِنْسَانٍ مَذْهَبًا لَا يَذْهَبُ إِلَيْهِ الْآخَرُ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ مِنَ الرُّسُوخِ فِي الْعِلْمِ مَا يَهْدِيهِمْ إِلَى الصَّوَابِ، أَوْ يَقِفُ بِهِمْ دُونَ اقْتِحَامِ حِمَى الْمُشْكِلَاتِ، فَلَمْ يَكُنْ بُدٌّ مِنَ الْأَخْذِ بِبَادِيِ الرَّأْيِ، أَوِ التَّأْوِيلِ بِالتَّخَرُّصِ الَّذِي لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا، إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَيْهِ مِنَ الشَّرِيعَةِ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا. وَمِمَّا يُوَضِّحُ ذَلِكَ مَا خَرَّجَهُ ابْنُ وَهْبٍ عَنْ بُكَيْرٍ أَنَّهُ سَأَلَ نَافِعًا: كَيْفَ رَأْيُ ابْنِ عُمَرَ فِي الْحَرُورِيَّةِ؟ قَالَ: يَرَاهُمْ شِرَارَ خَلْقِ اللَّهِ إِنَّهُمُ انْطَلَقُوا إِلَى آيَاتٍ أُنْزِلَتْ فِي الْكُفَّارِ فَجَعَلُوهَا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ. فَسَّرَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ، فَقَالَ: مِمَّا يَتَّبِعُ الْحَرُورِيَّةُ مِنَ الْمُتَشَابِهِ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى: {وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ} وَيَقْرِنُونَ مَعَهَا: {ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ} فَإِذَا رَأَوُا الْإِمَامَ يَحْكُمُ بِغَيْرِ الْحَقِّ قَالُوا: قَدْ كَفَرَ، وَمِنْ كَفَرَ عَدَلَ بِرَبِّهِ وَمِنْ عَدَلَ بِرَبِّهِ فَقَدْ أَشْرَكَ، فَهَذِهِ الْأُمَّةُ مُشْرِكُونَ فَيَخْرُجُونَ فَيَقْتُلُونَ مَا رَأَيْتُ، لِأَنَّهُمْ يَتَأَوَّلُونَ هَذِهِ الْآيَةَ. فَهَذَا مَعْنَى الرَّأْيِ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَهُوَ النَّاشِئُ عَنِ الْجَهْلِ بِالْمَعْنَى الَّذِي نَزَلَ الْقُرْآنُ فِيهِ. وَقَالَ نَافِعٌ: إِنَّ ابْنَ عُمَرَ كَانَ إِذَا سُئِلَ عَنِ الْحَرُورِيَّةِ؟ قَالَ: يُكَفِّرُونَ الْمُسْلِمِينَ، وَيَسْتَحِلُّونَ دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ، وَيَنْكِحُونَ النِّسَاءَ فِي عِدَدِهِنَّ، وَتَأْتِيهِمُ الْمَرْأَةُ فَيَنْكِحُهَا الرَّجُلُ مِنْهُمْ وَلَهَا زَوْجٌ، فَلَا أَعْلَمُ أَحَدًا أَحَقَّ بِالْقِتَالِ مِنْهُمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَرَضْتُ الِاخْتِلَافَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ فِي وَاسِطَةٍ بَيْنَ طَرَفَيْنِ. فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ أَنْ تُرَدِّدَ النَّظَرَ فِيهِ عَلَيْهِمَا. فَلَمْ تَفْعَلْ. بَلْ رَدَدْتُهُ إِلَى الطَّرَفِ الْأَوَّلِ فِي الذَّمِّ وَالضَّلَالِ. وَلَمْ تَعْتَبِرْهُ بِجَانِبِ الِاخْتِلَافِ الَّذِي لَا يُضِيرُ، وَهُوَ الِاخْتِلَافُ فِي الْفُرُوعِ. فَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ: أَنَّ كَوْنَ ذَلِكَ الْقِسْمِ وَاسِطَةً بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ لَا يَحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ إِلَّا مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي ذَكَرْنَا. أَمَّا الْجِهَةُ الْأُخْرَى، فَإِنَّ عَدَمَ ذِكْرِهِمْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ وَإِدْخَالِهِمْ فِيهَا أَوْضَحَ أَنَّ هَذَا الِاخْتِلَافَ لَمْ يُلْحِقْهُمْ بِالْقِسْمِ الْأَوَّلِ، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَ مُلْحِقًا لَهُمْ بِهِ لَمْ يَقَعْ فِي الْأُمَّةِ اخْتِلَافٌ وَلَا فُرْقَةَ. وَلَا أَخْبَرَ الشَّارِعَ بِهِ. وَلَا نَبَّهَ السَّلَفُ الصَّالِحُ عَلَيْهِ فَكَمَا أَنَّهُ لَوْ فَرَضْنَا اتِّفَاقَ الْخَلْقِ عَلَى الْمِلَّةِ بَعْدَ [مَا] كَانُوا مُفَارِقِينَ لَهَا لَمْ نَقُلْ: اتَّفَقَتِ الْأُمَّةُ بَعْدَ اخْتِلَافِهَا. كَذَلِكَ لَا نَقُولُ: اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ أَوِ افْتَرَقَتِ الْأُمَّةُ بَعْدَ اتِّفَاقِهَا. أَوْ خَرَجَ بَعْضُهُمْ إِلَى الْكَفْرِ بَعْدَ الْإِسْلَامِ. وَإِنَّمَا يُقَالُ: افْتَرَقَتْ وَتَفْتَرِقُ الْأُمَّةُ. إِذَا كَانَ الِافْتِرَاقُ وَاقِعًا فِيهَا مَعَ بَقَاءِ اسْمِ الْأُمَّةِ هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ. وَلِذَلِكَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْخَوَارِجِ: يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ قَالَ: وَتَتَمَارَى فِي الْفُوَقِ وَفِي رِوَايَةٍ: فَيَنْظُرُ الرَّامِي إِلَى سَهْمِهِ إِلَى نَصْلِهِ إِلَى رِصَافِهِ فَيَتَمَارَى فِي الْفُوقَةِ: هَلْ عَلِقَ بِهَا مَنِ الدَّمِ شَيْءٌ وَالتَّمَارِي فِي الْفُوَقِ فِيهِ هَلْ فِيهِ فَرْثٌ وَدَمٌ أَمْ لَا؟ شَكٌّ بِحَسَبِ التَّمْثِيلِ: هَلْ خَرَجُوا مِنَ الْإِسْلَامِ حَقِيقَةً؟ وَهَذِهِ الْعِبَارَةُ لَا يُعَبَّرُ بِهَا عَمَّنْ خَرَجَ مِنَ الْإِسْلَامِ بِالِارْتِدَادِ مَثَلًا. وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْأُمَّةُ فِي تَكْفِيرِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ أَصْحَابِ الْبِدَعِ الْعُظْمَى. وَلَكِنَّ الَّذِي يَقْوَى فِي النَّظَرِ وَبِحَسَبِ الْأَثَرِ عَدَمُ الْقَطْعِ بِتَكْفِيرِهِمْ. وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ عَمَلُ السَّلَفِ الصَّالِحِ فِيهِمْ، أَلَّا تَرَى إِلَى صُنْعِ عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- فِي الْخَوَارِجِ؟ وَكَوْنِهِ عَامَلَهُمْ فِي قِتَالِهِمْ مُعَامَلَةَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ عَلَى مُقْتَضَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}، فَإِنَّهُ لَمَّا اجْتَمَعَتِ الْحَرُورِيَّةُ وَفَارَقَتِ الْجَمَاعَةَ لَمْ يُهَيِّجْهُمْ عَلِيٌّ وَلَا قَاتَلَهُمْ، وَلَوْ كَانُوا بِخُرُوجِهِمْ مُرْتَدِينَ لَمْ يَتْرُكْهُمْ، لِقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مِنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ، وَلِأَنَّ أَبَا بَكْرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- خَرَجَ لِقِتَالِ أَهْلِ الرِّدَّةِ وَلَمْ يَتْرُكْهُمْ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى اخْتِلَافِ مَا بَيْنَ الْمَسْأَلَتَيْنِ. وَأَيْضًا، فَحِينَ ظَهَرَ مَعْبَدُ الْجُهَنِيُّ وَغَيْرُهُ مِنْ أَهْلِ الْقَدَرِ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّلَفِ الصَّالِحِ لَهُمْ إِلَّا الطَّرْدُ وَالْإِبْعَادُ وَالْعَدَاوَةُ وَالْهِجْرَانُ، وَلَوْ كَانُوا خَرَجُوا إِلَى كُفْرٍ مَحْضٍ لَأَقَامُوا عَلَيْهِمُ الْحَدَّ الْمُقَامَ عَلَى الْمُرْتَدِّينَ. وَعُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَيْضًا لَمَّا خَرَجَ فِي زَمَانِهِ الْحَرُورِيَّةُ بِالْمَوْصِلِ أَمَرَ بِالْكَفِّ عَنْهُمْ عَلَى حَدِّ مَا أَمَرَ بِهِ عَلِيٌّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، وَلَمْ يُعَامِلْهُمْ مُعَامَلَةَ الْمُرْتَدِّينَ. وَمِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى! إِنَّا وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُمْ مُتَّبِعُونَ لِلْهَوَى، وَلِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ، فَإِنَّهُمْ لَيْسُوا بِمُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى بِإِطْلَاقٍ، وَلَا مُتَّبِعِينَ لِمَا تَشَابَهَ مِنَ الْكِتَابِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَلَوْ فَرَضْنَا أَنَّهُمْ كَذَلِكَ لَكَانُوا كُفَّارًا، إِذْ لَا يَتَأَتَّى ذَلِكَ مِنْ أَحَدٍ فِي الشَّرِيعَةِ إِلَّا مَعَ رَدِّ مُحْكَمَاتِهَا عِنَادًا، وَهُوَ كُفْرٌ. وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِالشَّرِيعَةَ وَمَنْ جَاءَ بِهَا، وَبَلَغَ فِيهَا مَبْلَغًا يَظُنُّ بِهِ أَنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلدَّلِيلِ بِمِثْلِهِ، لَا يُقَالُ: أَنَّهُ صَاحِبُ هَوًى بِإِطْلَاقٍ. بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ فِي نَظَرِهِ لَكِنْ بِحَيْثُ يُمَازِجُهُ الْهَوَى فِي مَطَالِبِهِ مِنْ جِهَةِ إِدْخَالِ الشَّبَهِ فِي الْمُحَكَّمَاتِ بِسَبَبِ اعْتِبَارِ الْمُتَشَابِهَاتِ، فَشَارَكَ أَهْلُ الْهَوَى فِي دُخُولِ الْهَوَى فِي نِحْلَتِهِ، وَشَارَكَ أَهْلُ الْحَقِّ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَأَيْضًا، فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اتِّحَادُ الْقَصْدِ مَعَ أَهْلِ السُّنَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ مِنْ مَطْلَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الِانْتِسَابُ إِلَى الشَّرِيعَةِ. وَمِنْ أَشَدِّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ- مَثَلًا- مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا، فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى مَقَاصِدَ الْفَرِيقَيْنِ وَجَدْنَا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا حَائِمًا حَوْلَ حِمَى التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْأَدِلَّةِ. وَإِنَّمَا وَقَعَ اخْتِلَافُهُمْ فِي الطَّرِيقِ، وَذَلِكَ لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا، فَحَصَلَ فِي هَذَا الْخِلَافِ أَشْبَهَ الْوَاقِعِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ فِي الْفُرُوعِ؟ وَأَيْضًا، فَقَدْ يُعْرَضُ الدَّلِيلُ عَلَى الْمُخَالِفِ مِنْهُمْ فَيَرْجِعُ إِلَى الْوِفَاقِ لِظُهُورِهِ عِنْدَهُ، كَمَا رَجَعَ مِنَ الْحَرُورِيَّةِ الْخَارِجِينَ عَلَى عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَلْفَانِ، وَإِنْ كَانَ الْغَالِبُ عَدَمَ الرُّجُوعِ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَنَّ الْمُبْتَدِعَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: اكْتُبْ يَا عَلِيُّ: هَذَا مَا صَالَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ فَقَالَ أَبُو سُفْيَانَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو: مَا نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ، وَلَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ رَسُولُ اللَّهِ مَا قَاتَلْنَاكَ. قَالَ رَسُولُ اللَّهِ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ تَعْلَمُ أَنِّي رَسُولُكَ، يَا عَلِيُّ اكْتُبْ: هَذَا مَا اصْطَلَحَ عَلَيْهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ وَأَبُو سُفْيَانَ وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو قَالَ: فَرَجَعَ مِنْهُمْ أَلْفَانِ وَبَقِيَ بَقِيَّتُهُمْ فَخَرَجُوا فَقُتِلُوا أَجْمَعُونَ.
صَحَّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: تَفَرَّقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَالنَّصَارَى مِثْلُ ذَلِكَ، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَخَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ هَكَذَا. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي دَاوُدَ قَالَ: افْتَرَقَ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَفُرِّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً. وَفِي التِّرْمِذِيِّ تَفْسِيرُ هَذَا، وَلَكِنْ بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-، فَقَالَ فِي حَدِيثٍ: وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ افْتَرَقَتْ عَلَى اثْنَتَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا: وَمَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي. وَفِي سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ: وَأَنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، اثْنَتَانِ وَسَبْعِينَ فِي النَّارِ وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ وَهِيَ الْجَمَاعَةُ وَهِيَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، إِلَّا أَنَّ هُنَا زِيَادَةً فِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ: وَأَنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي أَقْوَامٌ تُجَارَى بِهِمْ تِلْكَ الْأَهْوَاءُ كَمَا يَتَجَارَى الْكَلْبُ بِصَاحِبِهِ، لَا يَبْقَى مِنْهُ عِرْقٌ وَلَا مَفْصِلٌ إِلَّا دَخَلَهُ. وَفِي رِوَايَةٍ عَنِ ابْنِ أَبِي غَالِبٍ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقُوا عَلَى إِحْدَى وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَإِنَّ هَذِهِ الْأُمَّةَ تَزِيدُ عَلَيْهِمْ فِرْقَةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا السَّوَادَ الْأَعْظَمَ وَفِي رِوَايَةٍ مَرْفُوعًا: سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ. وَهَذَا الْحَدِيثُ بِهَذِهِ الرِّوَايَةِ الْأَخِيرَةِ قَدَحَ فِيهِ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ لِأَنَّ ابْنَ مَعِينٍ قَالَ: إِنَّهُ حَدِيثٌ بَاطِلٌ لَا أَصْلَ لَهُ شُبِّهَ فِيهِ عَلَى نُعَيْمِ بْنِ حَمَّادٍ، قَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إِنَّ الْحَدِيثَ قَدْ رُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنَ الثِّقَاتِ، ثُمَّ تُكُلِّمَ فِي إِسْنَادِهِ بِمَا يَقْتَضِي أَنَّهُ لَيْسَ كَمَا قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ، ثُمَّ قَالَ: وَفِي الْجُمْلَةِ فَإِسْنَادُهُ فِي الظَّاهِرِ جَيِّدٌ إِلَّا أَنْ يَكُونَ- يَعْنِي ابْنَ مَعِينٍ- قَدِ اطَّلَعَ مِنْهُ عَلَى عِلَّةٍ خَفِيَّةٍ. وَأَغْرَبُ مِنْ هَذَا كُلِّهِ رِوَايَةٌ رَأَيْتُهَا فِي جَامِعِ ابْنِ وَهْبٍ. إِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ إِحْدَى وَثَمَانِينَ مِلَّةً وَسَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ مِلَّةً، كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ:- الْجَمَاعَةُ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَا تَصَدَّى النَّظَرُ فِي الْحَدِيثِ فِي مَسَائِلَ: الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى فِي حَقِيقَةِ هَذَا الِافْتِرَاقِ وَهُوَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ افْتِرَاقًا عَلَى مَا يُعْطِيهِ مُقْتَضَى اللَّفْظِ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعَ زِيَادَةِ قَيْدٍ لَا يَقْتَضِيهِ اللَّفْظُ بِإِطْلَاقِهِ وَلَكِنْ يَحْتَمِلُهُ، كَمَا كَانَ لَفْظُ الرَّقَبَةِ بِمُطْلَقِهَا لَا يُشْعِرُ بِكَوْنِهَا مُؤْمِنَةً أَوْ غَيْرَ مُؤْمِنَةٍ، لَكِنَّ اللَّفْظَ يَقْبَلُهُ فَلَا يَصِحُّ أَنْ يُرَادَ مُطْلَقُ الِافْتِرَاقِ، بِحَيْثُ يُطْلَقُ صُوَرُ لَفْظِ الِاخْتِلَافِ عَلَى مَعْنًى وَاحِدٍ، لِأَنَّهُ يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْمُخْتَلِفُونَ فِي مَسَائِلِ الْفُرُوعِ دَاخِلِينَ تَحْتَ إِطْلَاقِ اللَّفْظِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَإِنَّ الْخِلَافَ مِنْ زَمَانِ الصَّحَابَةِ إِلَى الْآنَ وَاقِعٌ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَأَوَّلُ مَا وَقَعَ الْخِلَافُ فِي زَمَانِ الْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الْمَهْدِيِّينَ، ثُمَّ فِي سَائِرِ الصَّحَابَةِ، ثُمَّ التَّابِعِينَ وَلَمْ يَعِبْ أَحَدٌ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَبِالصَّحَابَةِ اقْتَدَى مَنْ بَعْدَهُمْ فِي تَوْسِيعِ الْخِلَافِ. فَكَيْفَ أَنْ يَكُونَ الِافْتِرَاقُ فِي الْمَذَاهِبِ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ؟! وَإِنَّمَا يُرَادُ افْتِرَاقٌ مُقَيَّدٌ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي الْحَدِيثِ نَصٌّ عَلَيْهِ، فَفِي الْآيَاتِ مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ, قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ} وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَمَا أَشْبَهَ تِلْكَ الْآيَاتِ الدَّالَّةَ عَلَى التَّفَرُّقِ الَّذِي صَارُوا بِهِ شِيَعًا، وَمَعْنَى صَارُوا شِيَعًا أَيْ جَمَاعَاتٍ بَعْضُهُمْ قَدْ فَارَقَ الْبَعْضَ، لَيْسُوا عَلَى تَآلُفٍ وَلَا تَعَاضُدٍ وَلَا تَنَاصُرٍ، بَلْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ، فَإِنَّ الْإِسْلَامَ وَاحِدٌ وَأَمْرُهُ وَاحِدٌ، فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ حُكْمُهُ عَلَى الِائْتِلَافِ التَّامِّ لَا عَلَى الِاخْتِلَافِ. وَهَذِهِ الْفِرْقَةُ مُشْعِرَةٌ بِتَفَرُّقِ الْقُلُوبِ الْمُشْعِرِ بِالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، وَلِذَلِكَ قَالَ: } وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} فَبَيَّنَ أَنَّ التَّأْلِيفَ إِنَّمَا يَحْصُلُ عِنْدَ الِائْتِلَافِ عَلَى التَّعَلُّقِ بِمَعْنًى وَاحِدٍ، وَأَمَّا إِذَا تَعَلَّقَتْ كُلُّ شِيعَةٍ بِحَبْلٍ غَيْرِ مَا تَعَلَّقَتْ بِهِ الْأُخْرَى فَلَا بُدَّ مِنَ التَّفَرُّقِ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا نَزَلَ عَلَيْهِ لَفْظُ الْحَدِيثِ وَاسْتَقَامَ مَعْنَاهُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ: إِنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنْ كَانَتِ افْتَرَقَتْ بِسَبَبٍ مُوقِعٍ فِي الْعَدَوَاةِ وَالْبَغْضَاءِ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونَ رَاجِعًا إِلَى أَمْرٍ هُوَ مَعْصِيَةٌ غَيْرُ بِدْعَةٍ، وَمِثَالُهُ أَنْ يَقَعَ بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ افْتِرَاقٌ بِسَبَبٍ دُنْيَوِيٍّ، كَمَا يَخْتَلِفُ مَثَلًا أَهْلُ قَرْيَةٍ مَعَ قَرْيَةٍ أُخْرَى بِسَبَبِ تَعَدٍّ فِي مَالٍ أَوْ دَمٍ، حَتَّى تَقَعَ بَيْنَهُمُ الْعَدَوَاةُ فَيَصِيرُوا حِزْبَيْنِ، أَوْ يَخْتَلِفُونَ فِي تَقْدِيمِ وَالٍ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ فَيَفْتَرِقُونَ، وَمِثْلُ هَذَا مُحْتَمَلٌ، وَقَدْ يُشْعَرُ بِهِ. مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ فَمِيتَتُهُ جَاهِلِيَّةٌ وَفِي مِثْلِ هَذَا جَاءَ فِي الْحَدِيثِ: إِذَا بُويِعَ الْخَلِيفَتَانِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا وَجَاءَ فِي الْقُرْآنِ الْكَرِيمِ: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} إِلَى آخِرِ الْقِصَّةِ. وَأَمَّا أَنْ يَرْجِعَ إِلَى أَمْرٍ هُوَ بِدْعَةٌ، كَمَا افْتَرَقَ الْخَوَارِجُ مِنَ الْأُمَّةِ بِبِدَعِهِمُ الَّتِي بَنَوْا عَلَيْهَا فِي الْفِرْقَةِ، وَكَالْمَهْدِيِّ الْمَغْرِبِيِّ الْخَارِجِ عَنِ الْأُمَّةِ نَصْرًا لِلْحَقِّ فِي زَعْمِهِ، فَابْتَدَعَ أُمُورًا سِيَاسِيَّةً وَغَيْرَهَا خَرَجَ بِهَا عَنِ السُّنَّةِ- كَمَا تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهِ قَبْلُ- وَهَذَا هُوَ الَّذِي تُشِيرُ إِلَيْهِ الْآيَاتُ الْمُتَقَدِّمَةُ وَالْأَحَادِيثُ، لِمُطَابَقَتِهَا لِمَعْنَى الْحَدِيثِ. وَإِمَّا أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ مَعًا. فَأَمَّا الْأَوَّلُ، فَلَا أَعْلَمُ قَائِلًا بِهِ، وَإِنْ كَانَ مُمْكِنًا فِي نَفْسِهِ، إِذْ لَمْ أَرَ أَحَدًا خَصَّ هَذِهِ بِمَا إِذَا افْتَرَقَتِ الْأُمَّةُ بِسَبَبِ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لَا بِسَبَبِ بِدْعَةٍ، وَلَيْسَ ثَمَّ دَلِيلٌ يَدُلُّ عَلَى التَّخْصِيصِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: مَنْ فَارَقَ الْجَمَاعَةَ قِيدَ شِبْرٍ الْحَدِيثَ، لَا يَدُلُّ عَلَى الْحَصْرِ. وَكَذَلِكَ: إِذْ بُويِعَ الْخَلِيفَتَانِ فَاقْتُلُوا الْآخَرَ مِنْهُمَا، وَقَدِ اخْتَلَفَتِ الْفِرَقُ فِي الْمُرَادِ بِالْجَمَاعَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْحَدِيثِ حَسْبَمَا يَأْتِي، فَلَمْ يَكُنْ مِنْهُمْ قَائِلٌ بِأَنَّ الْفِرْقَةَ الْمُضَادَّةَ لِلْجَمَاعَةِ هِيَ فِرْقَةُ الْمَعَاصِي غَيْرُ الْبِدَعِ عَلَى الْخُصُوصِ. وَأَمَّا الثَّانِي: وَهُوَ أَنْ يُرَادَ الْمَعْنَيَانِ مَعًا، فَذَلِكَ أَيْضًا مُمْكِنٌ، إِذِ الْفِرْقَةُ الْمُنَبَّهُ عَلَيْهَا قَدْ تَحْصُلُ بِسَبَبِ أَمْرٍ دُنْيَوِيٍّ لَا مَدْخَلَ فِيهَا لِلْبِدَعِ, وَإِنَّمَا هِيَ مَعَاصٍ وَمُخَالَفَاتٌ كَسَائِرِ الْمَعَاصِي، وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى يُرْشِدُ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ فِي تَفْسِيرِ الْجَمَاعَةِ- حَسْبَمَا يَأْتِي بِحَوْلِ اللَّهِ- وَيُعَضِّدُهُ حَدِيثُ التِّرْمِذِيِّ: لَيَأْتِيَنَّ عَلَى أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ (؟) فَجَعَلَ الْغَايَةَ فِي اتِّبَاعِهِمْ مَا هُوَ مَعْصِيَةٌ كَمَا تَرَى. وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ- إِلَى قَوْلِهِ- حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ خَرِبٍ لَاتَّبَعْتُمُوهُمْ فَجَعَلَ الْغَايَةَ مَا لَيْسَ بِبِدْعَةٍ. وَفِي مُعْجَمِ الْبَغَوِيِّ عَنْ جَابِرٍ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَعَاذَكَ اللَّهُ يَا كَعْبُ بْنَ عُجْرَةَ مِنْ إِمَارَةِ السُّفَهَاءِ- قَالَ: وَمَا إِمَارَةُ السُّفَهَاءِ؟- قَالَ أُمَرَاءُ يَكُونُونَ بَعْدِي لَا يَهْتَدُونَ بِهَدْيِي، وَلَا يَسْتَنُّونَ بِسُنَّتِي، فَمَنْ صَدَّقَهُمْ بِكَذِبِهِمْ، وَأَعَانَهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ، فَأُولَئِكَ لَيْسُوا مِنِّي، وَلَسْتُ مِنْهُمْ، وَلَا يَرِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ، وَمَنْ لَمْ يُصَدِّقْهُمْ عَلَى كَذِبِهِمْ وَلَمْ يُعِنْهُمْ عَلَى ظُلْمِهِمْ فَأُولَئِكَ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ، وَيَرِدُونَ عَلَيَّ الْحَوْضَ الْحَدِيثَ. وَكُلُّ مَنْ لَمْ يَهْتَدِ بِهَدْيِهِ وَلَا يَسْتَنُّ بِسُنَّتِهِ فَإِمَّا إِلَى بِدْعَةٍ أَوْ مَعْصِيَةٍ. فَلَا اخْتِصَاصَ بِأَحَدِهِمَا، غَيْرَ أَنَّ الْأَكْثَرَ فِي نَقْلِ أَرْبَابِ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْفِرْقَةَ الْمَذْكُورَةَ إِنَّمَا هِيَ بِسَبَبِ الِابْتِدَاعِ فِي الشَّرْعِ عَلَى الْخُصُوصِ، وَعَلَى ذَلِكَ حُمِلَ الْحَدِيثُ مَنْ تَكَلَّمَ عَلَيْهِ مِنَ الْعُلَمَاءِ، وَلَمْ يَعُدُّوا مِنْهَا الْمُفْتَرِقِينِ بِسَبَبِ الْمَعَاصِي الَّتِي لَيْسَتْ بِدَعًا، وَعَلَى ذَلِكَ يَقَعُ التَّفْرِيعُ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ: إِنَّ هَذِهِ الْفِرْقَةَ يَحْتَمِلُ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ أَنْ يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْمِلَّةِ بِسَبَبِ مَا أَحْدَثُوا. فَهُمْ قَدْ فَارَقُوا أَهْلَ الْإِسْلَامِ بِإِطْلَاقٍ، وَلَيْسَ ذَلِكَ إِلَّا لِكُفْرٍ، إِذْ لَيْسَ بَيْنَ الْمَنْزِلَتَيْنِ مَنْزِلَةٌ ثَالِثَةٌ تُتَصَوَّرُ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاحْتِمَالِ ظَوَاهِرُ مِنَ الْقُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} وَهِيَ آيَةٌ نَزَلَتْ- عِنْدَ الْمُفَسِّرِينَ- فِي أَهْلِ الْبِدَعِ، وَيُوَضِّحُهُ مَنْ قَرَأَ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ} وَالْمُفَارَقَةُ لِلدِّينِ بِحَسَبِ الظَّاهِرِ إِنَّمَا هِيَ الْخُرُوجُ عَنْهُ، وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} الْآيَةَ وَهِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مُنَزَّلَةٌ فِي أَهْلِ الْقِبْلَةِ وَهُمْ أَهْلُ الْبِدَعِ، وَهَذَا كَالنَّصِّ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَأَمَّا الْحَدِيثُ فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ وَهَذَا نَصٌّ فِي كُفْرِ مَنْ قِيلَ ذَلِكَ فِيهِ، وَفَسَّرَهُ الْحَسَنُ بِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ وَيُصْبِحُ مُؤْمِنًا وَيُمْسِي كَاَفِرًا وَيُمْسِي مُؤْمِنًا وَيُصْبِحُ كَاَفِرًا الْحَدِيثَ، وَقَوْلِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَوَارِجِ: دَعْهُ, فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يُحَقِّرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنِ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يَنْظُرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى نَضِيِّهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ- وَهُوَ الْقَدَحُ- ثُمَّ يَنْظُرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلَا يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ فَانْظُرْ إِلَى قَوْلِهِ: مِنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ فَهُوَ الشَّاهِدُ عَلَى أَنَّهُمْ دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ فَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِمْ مِنْهُ شَيْءٌ. وَفِي رِوَايَةِ أَبِي ذَرٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: سَيَكُونُ بَعْدِي مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَلَاقِيمَهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَخْرُجُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ فِيهِ، هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ وَالْخَلِيقَةِ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَحَادِيثِ, إِنَّمَا هِيَ فِي قَوْمٍ بِأَعْيَانِهِمْ، فَلَا حُجَّةَ فِيهَا عَلَى غَيْرِهِمْ، لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ اسْتَدَلُّوا بِهَا عَلَى جَمِيعِ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، كَمَا اسْتَدَلُّوا بِالْآيَاتِ. وَأَيْضًا، فَالْآيَاتُ إِنْ دَلَّتْ بِصِيَغِ عُمُومِهَا فَالْأَحَادِيثُ تَدُلُّ بِمَعَانِيهَا لِاجْتِمَاعِ الْجَمِيعِ فِي الْعِلَّةِ. فَإِنْ قِيلَ: الْحُكْمُ بِالْكُفْرِ وَالْإِيمَانِ رَاجِعٌ إِلَى حُكْمِ الْآخِرَةِ، وَالْقِيَاسُ لَا يَجْرِي فِيهَا. فَالْجَوَابُ: إِنَّ كَلَامَنَا فِي الْأَحْكَامِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَهَلْ يُحْكَمُ لَهُمْ بِحُكْمِ الْمُرْتَدِّينَ أَمْ لَا؟ وَإِنَّمَا أَمْرُ الْآخِرَةِ لِلَّهِ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ}. وَيَحْتَمِلُ أَنْ لَا يَكُونُوا خَارِجِينَ عَنِ الْإِسْلَامِ جُمْلَةً، وَإِنْ كَانُوا قَدْ خَرَجُوا عَنْ جُمْلَةٍ مِنْ شَرَائِعِهِ وَأُصُولِهِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ جَمِيعُ مَا تَقَدَّمَ فِيمَا قَبْلَ هَذَا الْفَصْلِ، فَلَا فَائِدَةَ فِي الْإِعَادَةِ. وَيَحْتَمِلُ وَجْهًا ثَالِثًا، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ فَارَقَ الْإِسْلَامَ لَكِنَّ مَقَالَتَهُ كُفْرٌ وَتُؤَدِّي مَعْنَى الْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ يُفَارِقْهُ، بَلِ انْسَحَبَ عَلَيْهِ حُكْمُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ عَظُمَ مَقَالُهُ وَشُنِّعَ مَذْهَبُهُ، لَكِنَّهُ لَمْ يَبْلُغْ بِهِ مَبْلَغَ الْخُرُوجِ إِلَى الْكُفْرِ الْمَحْضِ وَالتَّبْدِيلِ الصَّرِيحِ. وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الدَّلِيلُ بِحَسْبِ كُلِّ نَازِلَةٍ، وَبِحَسْبِ كُلِّ بِدْعَةٍ، إِذْ لَا شَكَّ فِي أَنَّ الْبِدَعَ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مِنْهَا مَا هُوَ كُفْرٌ كَاتِّخَاذِ الْأَصْنَامِ لِتُقَرِّبَهُمْ إِلَى اللَّهِ زُلْفَى، وَمِنْهَا مَا لَيْسَ بِكُفْرٍ كَالْقَوْلِ بِالْجِهَةِ عِنْدَ جَمَاعَةٍ وَإِنْكَارِ الْإِجْمَاعِ وَإِنْكَارِ الْقِيَاسِ وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ. وَلَقَدْ فَصَّلَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ فِي التَّكْفِيرِ تَفْصِيلًا فِي هَذِهِ الْفِرَقِ، فَقَالَ: مَا كَانَ مِنَ الْبِدَعِ رَاجِعًا إِلَى اعْتِقَادِ وُجُودِ إِلَهٍ مَعَ اللَّهِ، كَقَوْلِ السَّبَئِيَّةِ فِي عَلِيٍّ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- أَنَّهُ إِلَهٌ, أَوْ خَلْقُ الْإِلَهِ فِي بَعْضِ أَشْخَاصِ النَّاسِ كَقَوْلِ الْجَنَاحِيَّةِ: إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَهُ رُوحٌ يَحُلُّ فِي بَعْضِ بَنِي آدَمَ، وَيَتَوَارَثُ, أَوْ إِنْكَارِ رِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَقَوْلِ الْغُرَابِيَّةِ: إِنَّ جِبْرِيلَ غَلِطَ فِي الرِّسَالَةِ فَأَدَّاهَا إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ كَانَ صَاحِبَهَا, أَوِ اسْتِبَاحَةِ الْمُحَرَّمَاتِ وَإِسْقَاطِ الْوَاجِبَاتِ، وَإِنْكَارِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ كَأَكْثَرِ الْغُلَاةِ مِنَ الشِّيعَةِ، مِمَّا لَا يَخْتَلِفُ الْمُسْلِمُونَ فِي التَّكْفِيرِ بِهِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَقَالَاتِ فَلَا يَبْعَدُ أَنْ يَكُونَ مُعْتَقِدُهَا غَيْرَ كَافِرٍ. وَاسْتُدِلَّ عَلَى ذَلِكَ بِأُمُورٍ كَثِيرَةٍ لَا حَاجَةَ إِلَى إِيرَادِهَا وَلَكِنَّ الَّذِي كُنَّا نَسْمَعُهُ مِنَ الشُّيُوخِ أَنَّ مَذْهَبَ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ أَهْلِ الْأُصُولِ أَنَّ الْكُفْرَ بِالْمَآلِ، لَيْسَ بِكُفْرٍ فِي الْحَالِ, كَيْفَ وَالْكَافِرُ يُنْكِرُ ذَلِكَ الْمَآلَ أَشَدَّ الْإِنْكَارِ وَيَرْمِي مُخَالِفَهُ بِهِ, [وَلَوْ] تَبَيَّنَ لَهُ وَجْهُ لُزُومِ الْكُفْرِ مِنْ مَقَالَتِهِ لَمْ يَقُلْ بِهَا عَلَى حَالٍ. وَإِذَا تَقَرَّرَ نَقْلُ الْخِلَافِ فَلْنَرْجِعْ إِلَى مَا يَقْتَضِيهِ الْحَدِيثُ الَّذِي نَحْنُ بِصَدَدِهِ مِنْ هَذِهِ الْمَقَالَاتِ. أَمَّا مَا صَحَّ مِنْهُ فَلَا دَلِيلَ عَلَى شَيْءٍ، لِأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِ إِلَّا تَعْدِيدُ الْفِرَقِ الْخَاصَّةِ. وَأَمَّا عَلَى رِوَايَةِ مَنْ قَالَ فِي حَدِيثِهِ: كُلُّهَا فِي النَّارِ إِلَّا وَاحِدَةً فَإِنَّمَا يَقْتَضِي إِنْفَاذَ الْوَعِيدِ ظَاهِرًا، وَيَبْقَى الْخُلُودُ وَعَدَمُهُ مَسْكُوتًا عَنْهُ، فَلَا دَلِيلَ فِيهِ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا أَرَدْنَا، إِذِ الْوَعِيدُ بِالنَّارِ قَدْ يَتَعَلَّقُ بِعُصَاةِ الْمُؤْمِنِينَ كَمَا يَتَعَلَّقُ بِالْكُفَّارِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ تَبَايَنَا فِي التَّخْلِيدِ وَعَدَمِهِ.
الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ: إِنَّ هَذِهِ الْأَقْوَالَ الْمَذْكُورَةَ آنِفًا مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ الْفِرَقَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْحَدِيثِ هِيَ الْمُبْتَدِعَةُ فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ عَلَى الْخُصُوصِ، كَالْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَالْمُرْجِئَةِ وَغَيْرِهَا وَهُوَ مِمَّا يُنْظَرُ فِيهِ. فَإِنَّ إِشَارَةَ الْقُرْآنِ وَالْحَدِيثِ تَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْخُصُوصِ، وَهُوَ رَأْيُ الطَّرْطُوشِيِّ، أَفَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} وَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى} مَا تَشَابَهَ} لَا تُعْطِي خُصُوصًا فِي اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ لَا فِي قَوَاعِدِ الْعَقَائِدِ وَلَا فِي غَيْرِهَا، بَلِ الصِّيغَةُ تَشْمَلُ ذَلِكَ كُلَّهُ، فَالتَّخْصِيصُ تَحَكُّمٌ. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} فَجَعَلَ ذَلِكَ التَّفْرِيقَ فِي الدِّينِ، وَلَفْظُ الدِّينِ يَشْمَلُ الْعَقَائِدَ وَغَيْرَهَا، وَقَوْلُهُ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ} فَالصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ هُوَ الشَّرِيعَةُ عَلَى الْعُمُومِ، وَشِبْهُ مَا تَقَدَّمَ فِي السُّورَةِ مِنْ تَحْرِيمِ مَا ذُبِحَ لِغَيْرِ اللَّهِ وَتَحْرِيمِ الْمَيْتَةِ وَالدَّمِ وَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ وَغَيْرِهِ، وَإِيجَابِ الزَّكَاةِ، كُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَبْدَعِ نَظْمِ وَأَحْسَنِ سِيَاقٍ. ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَنْ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا} فَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الْقَوَاعِدِ وَغَيْرِهَا، فَابْتَدَأَ بِالنَّهْيِ عَنِ الِاشْتِرَاكِ، ثُمَّ الْأَمْرِ بِبِرِّ الْوَالِدَيْنِ، ثُمَّ النَّهْيِ عَنْ قَتْلِ الْأَوْلَادِ، ثُمَّ عَنِ الْفَوَاحِشِ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، ثُمَّ عَنْ قَتْلِ النَّفْسِ بِإِطْلَاقٍ، ثُمَّ عَنْ أَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ، ثُمَّ الْأَمْرِ بِتَوْفِيَةِ الْكَيْلِ وَالْوَزْنِ، ثُمَّ الْعَدْلِ فِي الْقَوْلِ، ثُمَّ الْوَفَاءِ بِالْعَهْدِ. ثُمَّ خَتَمَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}. فَأَشَارَ إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ وَقَوَاعِدِهَا الضَّرُورِيَّةِ، وَلَمْ يَخُصَّ ذَلِكَ بِالْعَقَائِدِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ إِشَارَةَ الْحَدِيثِ لَا تَخْتَصُّ بِهَا دُونَ غَيْرِهَا. وَفِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا فَإِنَّهُ ذَمَّهُمْ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ أَعْمَالَهُمْ، وَقَالَ فِي جُمْلَةِ مَا ذَمَّهُمْ بِهِ: يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ فَذَمَّهُمْ بِتَرْكِ التَّدَبُّرِ وَالْأَخْذِ بِظَوَاهِرِ الْمُتَشَابِهَاتِ، كَمَا قَالُوا: حَكَّمَ الرِّجَالَ فِي دِينِ اللَّهِ، وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}. وَقَالَ أَيْضًا: وَيَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ فَذَمَّهُمْ بِعَكْسِ مَا عَلَيْهِ الشَّرْعُ، لِأَنَّ الشَّرِيعَةَ جَاءَتْ بِقَتْلِ الْكُفَّارِ وَالْكَفِّ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، وَكِلَا الْأَمْرَيْنِ غَيْرُ مَخْصُوصٍ بِالْعَقَائِدِ. فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْأَمْرَ عَلَى الْعُمُومِ لَا عَلَى الْخُصُوصِ فِيمَا رَوَاهُ نُعَيْمُ بْنُ حَمَّادٍ فِي هَذَا الْحَدِيثِ: أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ ذَلِكَ الْعَدَدَ لَا يَخْتَصُّ بِمَا قَالُوا مِنَ الْعَقَائِدِ. وَاسْتَدَلَّ الطَّرْطُوشِيُّ عَلَى أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَخْتَصُّ بِالْعَقَائِدِ بِمَا جَاءَ عَنِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَسَارَ الْعُلَمَاءُ مِنْ تَسْمِيَتِهِمُ الْأَقْوَالَ وَالْأَفْعَالَ بِدَعًا إِذَا خَالَفَتِ الشَّرِيعَةَ، ثُمَّ أَتَى بِآثَارٍ كَثِيرَةٍ كَالَّذِي رَوَاهُ مَالِكٌ عَنْ عَمِّهِ أَبِي سُهَيْلٍ عَنْ أَبِيهِ أَنَّهُ قَالَ: مَا أَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَدْرَكْتُ عَلَيْهِ النَّاسَ إِلَّا النِّدَاءَ بِالصَّلَاةِ يَعْنِي بِالنَّاسِ الصَّحَابَةَ، وَذَلِكَ أَنَّهُ أَنْكَرَ أَكْثَرَ أَفْعَالِ عَصْرِهِ، وَرَآهَا مُخَالِفَةً لِأَفْعَالِ الصَّحَابَةِ. وَكَذَلِكَ أَبُو الدَّرْدَاءِ سَأَلَهُ رَجُلٌ فَقَالَ: رَحِمَكَ اللَّهُ, لَوْ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَ أَظْهُرِنَا هَلْ يُنْكِرُ شَيْئًا مِمَّا نَحْنُ عَلَيْهِ؟ فَغَضِبَ وَاشْتَدَّ غَضَبُهُ، ثُمَّ قَالَ: وَهَلْ يَعْرِفُ شَيْئًا مِمَّا أَنْتُمْ عَلَيْهِ؟ وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ أُمِّ الدَّرْدَاءِ قَالَتْ: دَخَلَ أَبُو الدَّرْدَاءِ مُغْضَبًا فَقُلْتُ لَهُ: مَا لَكَ؟ فَقَالَ: وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُ مِنْهُمْ مِنْ أَمْرِ مُحَمَّدٍ إِلَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَ جَمِيعًا. وَذَكَرَ جُمْلَةً مِنْ أَقَاوِيلِهِمْ فِي هَذَا الْمَعْنَى مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مُخَالَفَةَ السُّنَّةِ فِي الْأَفْعَالِ قَدْ ظَهَرَتْ. وَفِي مُسْلِمٍ قَالَ مُجَاهِدٌ: دَخَلْتُ أَنَا وَعُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ الْمَسْجِدَ فَإِذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ مُسْتَنِدٌ إِلَى حُجْرَةِ عَائِشَةَ، وَإِذَا نَاسٌ فِي الْمَسْجِدِ يُصَلُّونَ الضُّحَى، فَقُلْنَا: مَا هَذِهِ الصَّلَاةُ؟ فَقَالَ: بِدْعَةٌ. قَالَ الطَّرْطُوشِيُّ: فَحَمَلَهُ عِنْدَنَا عَلَى أَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا أَنَّهُمْ يُصَلُّونَهَا جَمَاعَةً، وَإِمَّا أَفْذَاذًا عَلَى هَيْئَةِ النَّوَافِلِ فِي أَعْقَابِ الْفَرَائِضِ. وَذَكَرَ أَشْيَاءَ مِنَ الْبِدَعِ الْقَوْلِيَّةِ مِمَّا نَصَّ الْعُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهَا بِدَعٌ. فَصَحَّ أَنَّ الْبِدَعَ لَا تَخْتَصُّ بِالْعَقَائِدِ. وَقَدْ تَقَرَّرَتْ هَذِهِ الْمَسْأَلَةُ فِي كِتَابِ الْمُوَافَقَاتِ بِنَوْعٍ آخَرَ مِنَ التَّقْرِيرِ.
نَعَمْ ثَمَّ مَعْنًى آخَرُ يَنْبَغِي أَنْ يُذْكَرَ هُنَا. وَهُوَ: الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ. وَذَلِكَ أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنَّمَا تَصِيرُ فِرَقًا بِخِلَافِهَا لِلْفِرْقَةِ النَّاجِيَةِ فِي مَعْنًى كُلِّيٍّ فِي الدِّينِ وَقَاعِدَةٍ مِنْ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ، لَا فِي جُزْئِيٍّ مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ، إِذِ الْجُزْئِيُّ وَالْفَرْعُ الشَّاذُّ لَا يَنْشَأُ عَنْهُ مُخَالَفَةٌ يَقَعُ بِسَبَبِهَا التَّفَرُّقُ شِيَعًا، وَإِنَّمَا يَنْشَأُ التَّفَرُّقُ عِنْدَ وُقُوعِ الْمُخَالَفَةِ فِي الْأُمُورِ الْكُلِّيَّةِ، لِأَنَّ الْكُلِّيَّاتِ تَقْتَضِي عَدَدًا مِنَ الْجُزْئِيَّاتِ غَيْرَ قَلِيلٍ، وَشَاذُّهَا فِي الْغَالِبِ أَنْ لَا يَخْتَصَّ بِمَحَلٍّ دُونَ مَحَلٍّ وَلَا بِبَابٍ دُونَ بَابٍ. وَاعْتُبِرَ ذَلِكَ بِمَسْأَلَةِ التَّحْسِينِ الْعَقْلِيِّ، فَإِنَّ الْمُخَالَفَةَ فِيهَا أَنْشَأَتْ بَيْنَ الْمُخَالِفِينَ خِلَافًا فِي فُرُوعٍ لَا تَنْحَصِرُ، مَا بَيْنَ فُرُوعِ عَقَائِدَ وَفُرُوعِ أَعْمَالٍ. وَيَجْرِي مَجْرَى الْقَاعِدَةِ الْكُلِّيَّةِ كَثْرَةُ الْجُزْئِيَّاتِ، فَإِنَّ الْمُبْتَدِعَ إِذَا أَكْثَرَ مِنْ إِنْشَاءِ الْفُرُوعِ الْمُخْتَرَعَةِ عَادَ ذَلِكَ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ الشَّرِيعَةِ بِالْمُعَارَضَةِ، كَمَا تَصِيرُ الْقَاعِدَةُ الْكُلِّيَّةُ مُعَارَضَةً أَيْضًا، وَأَمَّا الْجُزْئِيُّ فَبِخِلَافِ ذَلِكَ، بَلْ يُعَدُّ وُقُوعُ ذَلِكَ مِنَ الْمُبْتَدِعِ لَهُ كَالزَّلَّةِ وَالْفَلْتَةِ، وَإِنْ كَانَتْ زَلَّةُ الْعَالِمِ مِمَّا يَهْدِمُ الدِّينَ، حَيْثُ قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ. وَلَكِنْ إِذَا قَرُبَ مُوقِعُ الزَّلَّةِ لَمْ يَحْصُلْ بِسَبَبِهَا تَفَرُّقٌ فِي الْغَالِبِ وَلَا هَدْمٌ لِلدِّينِ. بِخِلَافِ الْكُلِّيَّاتِ. فَأَنْتَ تَرَى مُوقِعُ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهَاتِ كَيْفَ هُوَ فِي الدِّينِ إِذَا كَانَ اتِّبَاعًا مُخِلًّا بِالْوَاضِحَاتِ. وَهِيَ أُمُّ الْكِتَابِ. وَكَذَلِكَ عَدَمُ تَفَهُّمِ الْقُرْآنِ مُوقِعٌ فِي الْإِخْلَالِ بِكُلِّيَّاتِهِ وَجُزْئِيَّاتِهِ. وَقَدْ ثَبَتَ أَيْضًا لِلْكُفَّارِ بِدَعٌ فَرْعِيَّةٌ. وَلَكِنَّهَا فِي الضَّرُورِيَّاتِ وَمَا قَارَبَهَا. كَجَعْلِهِمْ لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا وَلِشُرَكَائِهِمْ نَصِيبًا, ثُمَّ فَرَّعُوا عَلَيْهِ أَنَّ مَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ، وَمَا كَانَ لِلَّهِ وَصَلَ إِلَى شُرَكَائِهِمْ. وَتَحْرِيمِهِمُ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَالْوَصِيلَةِ وَالْحَامِ، وَقَتْلِهِمْ أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَتَرْكِ الْعَدْلِ فِي الْقِصَاصِ وَالْمِيرَاثِ، وَالْحَيْفِ فِي النِّكَاحِ وَالطَّلَاقِ، وَأَكْلِ مَالِ الْيَتِيمِ عَلَى نَوْعٍ مِنَ الْحِيَلِ، إِلَى أَشْبَاهِ ذَلِكَ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الشَّرْعُ وَذَكَرَهُ الْعُلَمَاءُ، حَتَّى صَارَ التَّشْرِيعُ دَيْدَنًا لَهُمْ، وَتَغْيِيرُ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ سَهْلًا عَلَيْهِمْ، فَأَنْشَأَ ذَلِكَ أَصْلًا مُضَافًا إِلَيْهِمْ وَقَاعِدَةً رَضُوا بِهَا، وَهِيَ التَّشْرِيعُ الْمُطْلَقُ لَا الْهَوَى، وَلِذَلِكَ لَمَّا نَبِّهَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى عَلَى إِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ} قَالَ فِيهَا: {نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} فَطَالَبَهُمْ بِالْعِلْمِ الَّذِي شَأْنُهُ أَنْ لَا يُشَرِّعَ إِلَّا حَقًّا وَهُوَ عِلْمُ الشَّرِيعَةِ لَا غَيْرُهُ، ثُمَّ قَالَ تَعَالَى: {أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا} تَنْبِيهًا لَهُمْ عَلَى أَنَّ هَذَا لَيْسَ مِمَّا شَرَعَهُ فِي مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ: ثُمَّ قَالَ: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} فَثَبَتَ أَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ إِنَّمَا افْتَرَقَتْ بِحَسْبِ أُمُورٍ كُلِّيَّةٍ اخْتَلَفُوا فِيهَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ: إِنَّا إِذَا قُلْنَا بِأَنَّ هَذِهِ الْفِرَقَ كُفَّارٌ- عَلَى قَوْلِ مَنْ قَالَ بِهِ- أَوْ يَنْقَسِمُونَ إِلَى كَافِرٍ وَغَيْرِهِ فَكَيْفَ يُعَدُّونَ مِنَ الْأُمَّةِ؟ وَظَاهِرُ الْحَدِيثِ يَقْتَضِي أَنَّ ذَلِكَ الِافْتِرَاقَ إِنَّمَا هُوَ مَعَ كَوْنِهِمْ مِنَ الْأُمَّةِ، وَإِلَّا فَلَوْ خَرَجُوا مِنَ الْأُمَّةِ إِلَى الْكُفْرِ لَمْ يُعَدُّوا مِنْهَا أَلْبَتَّةَ- كَمَا تَبَيَّنَ: وَكَذَلِكَ الظَّاهِرُ فِي فِرَقِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، أَنَّ التَّفَرُّقَ فِيهِمْ حَاصِلٌ مَعَ كَوْنِهِمْ هُودًا وَنَصَارَى؟ فَيُقَالُ فِي الْجَوَابِ عَنْ هَذَا السُّؤَالِ: إِنَّهُ يَحْتَمِلُ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّا نَأْخُذُ الْحَدِيثَ عَلَى ظَاهِرِهِ فِي كَوْنِ هَذِهِ الْفِرَقِ مِنَ الْأُمَّةِ، وَمِنْ أَهْلِ الْقِبْلَةِ، وَمَنْ قِيلَ بِكُفْرِهِ مِنْهُمْ، فَإِمَّا أَنَّ يَسْلَمَ فِيهِمْ هَذَا الْقَوْلُ فَلَا يَجْعَلُهُمْ مِنَ الْأُمَّةِ أَصْلًا وَلَا أَنَّهُمْ مِمَّا يُعَدُّونَ فِي الْفِرَقِ، وَإِنَّمَا نَعُدُّ مِنْهُمْ مَنْ لَا تُخْرِجُهُ بِدَعَتُهُ إِلَى كُفْرٍ، فَإِنْ قَالَ بِتَكْفِيرِهِمْ جَمِيعًا، فَلَا يَسْلَمُ أَنَّهُمُ الْمُرَادُونَ بِالْحَدِيثِ عَلَى ذَلِكَ التَّقْدِيرِ، وَلَيْسَ فِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ نَصٌّ عَلَى أَنَّهُمْ مِنَ الْفِرَقِ الدَّاخِلَةِ فِي الْحَدِيثِ، بَلْ نَقُولُ: الْمُرَادُ بِالْحَدِيثِ فِرَقٌ لَا تُخْرِجُهُمْ بِدَعُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، فَلْيُبْحَثْ عَنْهُمْ. وَإِمَّا أَنْ لَا نَتَّبِعَ الْمُكَفِّرَ فِي إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالتَّكْفِيرِ، وَنُفَصِّلَ الْأَمْرَ إِلَى نَحْوٍ مِمَّا فَصَّلَهُ صَاحِبُ الْقَوْلِ الثَّالِثِ، وَيَخْرُجُ مِنَ الْعَدَدِ مِنْ حَكَمْنَا بِكُفْرِهِ، وَلَا يَدْخُلُ تَحْتَ عُمُومِهِ إِلَّا مَا سَوَّاهُ مَعَ غَيْرِهِ مِمَّنْ لَمْ يُذْكَرْ فِي تِلْكَ الْعُدَّةِ. وَالِاحْتِمَالُ الثَّانِي: أَنْ نَعُدَّهُمْ مِنَ الْأُمَّةِ عَلَى طَرِيقَةٍ لَعَلَّهَا تَتَمَشَّى فِي الْمَوَاضِعِ، وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ فِرْقَةٍ تَدَّعِي الشَّرِيعَةَ، وَأَنَّهَا عَلَى صَوَابِهَا، وَأَنَّهَا الْمُتَّبِعَةُ لِلْمُتَّبِعَةِ لَهَا، وَتَتَمَسَّكُ بِأَدِلَّتِهَا، وَتَعْمَلُ عَلَى مَا ظَهَرَ لَهَا مِنْ طَرِيقِهَا! وَهِيَ تُنَاصِبُ الْعَدَاوَةَ مِنْ نِسْبَتِهَا إِلَى الْخُرُوجِ عَنْهَا، وَتُرْمَى بِالْجَهْلِ وَعَدَمِ الْعِلْمِ مِنْ نَاقِضِهَا. لِأَنَّهَا تَدَّعِي أَنَّ مَا ذَهَبَتْ إِلَيْهِ هُوَ الصِّرَاطُ الْمُسْتَقِيمُ دُونَ غَيْرِهِ. وَبِذَلِكَ يُخَالِفُونَ مَنْ خَرَجَ عَنِ الْإِسْلَامِ، لِأَنَّ الْمُرْتَدَّ إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى الِارْتِدَادِ أَقَرَّ بِهِ وَرَضِيَهُ وَلَمْ يَسْخَطْهُ، وَلَمْ يُعَادِلْ لِتِلْكَ النِّسْبَةِ، كَسَائِرِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَأَرْبَابِ النِّحَلِ الْمُخَالِفَةِ لِلْإِسْلَامِ. بِخِلَافِ هَؤُلَاءِ الْفِرَقِ فَإِنَّهُمْ مُدَّعُونَ الْمُوَالَفَةَ لِلشَّارِعِ وَالرُّسُوخَ فِي اتِّبَاعِ شَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِنَّمَا وَقَعَتِ الْعَدَاوَةُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ السُّنَّةِ بِسَبَبِ ادِّعَاءِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ الْخُرُوجَ عَنِ السُّنَّةِ، وَلِذَلِكَ تَجِدُهُمْ مُبَالِغِينَ فِي الْعَمَلِ وَالْعِبَادَةِ، حَتَّى بَعْضُ أَشَدِّ النَّاسِ عِبَادَةً مَفْتُونٌ. وَالشَّاهِدُ لِهَذَا كُلِّهِ- مَعَ اعْتِبَارِ الْوَاقِعِ- حَدِيثُ الْخَوَارِجِ، فَإِنَّهُ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: تُحَقِّرُونَ صَلَاتَكُمْ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَكُمْ مَعَ صِيَامِهِمْ، وَأَعْمَالَكُمْ مَعَ أَعْمَالِهِمْ، وَفِي رِوَايَةٍ: يَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي قَوْمٌ يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ، لَيْسَتْ قِرَاءَتُكُمْ مِنْ قِرَاءَتِهِمْ بِشَيْءٍ وَلَا صَلَاتُكُمْ مِنْ صَلَاتِهِمْ بِشَيْءٍ وَهَذِهِ شِدَّةُ الْمُثَابَرَةِ عَلَى الْعَمَلِ بِهِ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ كَيْفَ يُحَكِّمُ الرِّجَالَ وَاللَّهُ يَقُولُ: {إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ}؟ فَفِي ظَنِّهِمْ أَنَّ الرِّجَالَ لَا يُحَكَّمُونَ بِهَذَا الدَّلِيلِ، ثُمَّ قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَقْرَؤُونَ الْقُرْآنَ, يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَهُوَ عَلَيْهِمْ, لَا تُجَاوِزُ صَلَاتُهُمْ تَرَاقِيهِمْ. فَقَوْلُهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: يَحْسَبُونَ أَنَّهُ لَهُمْ وَاضِحٌ فِيمَا قُلْنَا، ثُمَّ إِنَّهُمْ يَطْلُبُونَ اتِّبَاعَهُ بِتِلْكَ الْأَعْمَالِ لِيَكُونُوا مِنْ أَهْلِهِ، وَلِيَكُونَ حُجَّةً لَهُمْ، فَحِينَ ابْتَغَوْا تَأْوِيلَهُ وَخَرَجُوا عَنِ الْجَادَّةِ كَانَ عَلَيْهِمْ لَا لَهُمْ. وَفِي مَعْنَى ذَلِكَ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: وَسَتَجِدُونَ أَقْوَامًا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ وَقَدْ نَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ، عَلَيْكُمْ بِالْعِلْمِ وَإِيَّاكُمْ وَالْبِدَعَ وَالتَّعَمُّقَ، عَلَيْكُمْ بِالْعَتِيقِ فَقَوْلُهُ: يَزْعُمُونَ كَذَا. دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُمْ عَلَى الشَّرْعِ فِيمَا يَزْعُمُونَ. وَمِنَ الشَّوَاهِدِ أَيْضًا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ-: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَرَجَ إِلَى الْمَقْبَرَةِ فَقَالَ: السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ! وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، وَدِدْتُ أَنِّي قَدْ رَأَيْتُ إِخْوَانَنَا- قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَلَسْنَا إِخْوَانَكَ؟- قَالَ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي, وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ، وَأَنَا فَرَطُكُمْ عَلَى الْحَوْضِ قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ كَيْفَ تَعْرِفُ مَنْ يَأْتِي بَعْدَكَ مِنْ أُمَّتِكَ؟ قَالَ: أَرَأَيْتَ لَوْ كَانَ لِأَحَدِكُمْ خَيْلٌ غُرٌّ مُحَجَّلَةٌ فِي خَيْلٍ دُهْمٍ بُهْمٍ، أَلَا يَعْرِفُ خَيْلَهُ؟ قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: فَإِنَّهُمْ يَأْتُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ غُرًّا مُحَجَّلِينَ مِنَ الْوُضُوءِ، وَأَنَا فَرَطُهُمْ عَلَى الْحَوْضِ، فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي كَمَا يُذَادُ الْبَعِيرُ الضَّالُّ، أُنَادِيهِمْ: أَلَا هَلُمَّ! أَلَا هَلُمَّ! فَيُقَالُ، قَدْ بَدَّلُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ: فَسُحْقًا فَسُحْقًا فَسُحْقًا. فَوَجْهُ الدَّلِيلِ مِنَ الْحَدِيثِ أَنَّ قَوْلَهُ: فَلَيُذَادَنَّ رِجَالٌ عَنْ حَوْضِي إِلَى قَوْلِهِ: أُنَادِيهِمْ أَلَا هَلُمَّ مُشْعِرٌ بِأَنَّهُمْ مِنْ أُمَّتِهِ. وَأَنَّهُ عَرَفَهُمْ، وَقَدْ بَيَّنَ أَنَّهُمْ يُعْرَفُونَ بِالْغُرَرِ وَالتَّحْجِيلِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ دَعَاهُمْ وَقَدْ كَانُوا بَدَّلُوا ذَوُو غُرَرٍ وَتَحْجِيلٍ، وَذَلِكَ مِنْ خَاصِّيَّةِ هَذِهِ الْأُمَّةِ. فَبَانَ أَنَّهُمْ مَعُدُودُونَ مِنَ الْأُمَّةِ, وَلَوْ حُكِمَ لَهُمْ بِالْخُرُوجِ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يَعْرِفْهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغُرَّةٍ أَوْ تَحْجِيلٍ لِعَدَمِهِ عِنْدَهُمْ. وَلَا عَلَيْنَا أَقُلْنَا: إِنَّهُمْ خَرَجُوا بِبِدْعَتِهِمْ عَنِ الْأُمَّةِ أَوْ لَا، إِذْ أَثْبَتْنَا لَهُمْ وَصْفَ الِانْحِيَاشِ إِلَيْهَا. وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ: فَيُؤْخَذُ بِقَوْمٍ مِنْكُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ، فَأَقُولُ: يَا رَبِّ أَصْحَابِي! قَالَ: فَيُقَالُ: لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ. فَأَقُولُ كَمَا قَالَ الْعَبْدُ الصَّالِحُ: {وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ} إِلَى قَوْلِهِ: } الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ}- قَالَ- فَيُقَالُ: إِنَّكَ لَا تَدْرِي مَا أَحْدَثُوا بَعْدَكَ، إِنَّهُمْ لَمْ يَزَالُوا مُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ مُنْذُ فَارَقْتَهُمْ. فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِالصَّحَابَةِ الْأُمَّةَ، فَالْحَدِيثُ مُوَافِقٌ لِمَا قَبْلَهُ: بَلْ أَنْتُمْ أَصْحَابِي وَإِخْوَانُنَا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ فَلَابُدَّ مِنْ تَأْوِيلِهِ عَلَى أَنَّ الْأَصْحَابَ يَعْنِي بِهِمْ مَنْ آمَنَ بِي فِي حَيَاتِهِ وَإِنْ لَمْ يَرَهُ، وَيَصْدُقُ لَفْظُ الْمُرْتَدِّينَ عَلَى أَعْقَابِهِمْ بَعْدَ مَوْتِهِ، أَوْ مَانِعِي الزَّكَاةِ تَأْوِيلًا عَلَى أَنَّ أَخْذَهَا إِنَّمَا كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَحْدَهُ، فَإِنَّ عَامَّةَ أَصْحَابِهِ الَّذِينَ رَأَوْهُ وَأَخَذُوا عَنْهُ بَرَاءَةٌ مِنْ ذَلِكَ.
|