الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
.تفسير الآية رقم (17): {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآَيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)}تقدم تفسير مثل هذا الكلام، ومساقه هنا باعتبارين: أحدهما: أنه لما قالوا: ائت بقرآن غير هذا أو بدله، كان في ضمنه أنهم ينسبونه إلى أنه ليس من عند الله وإنما هو اختلاق، فبولغ في ظلم من افترى على الله كذباً كما قال: فمن أظلم ممن افترى على الله كذباً، أو قال: أوحي إلي ولم يوح إليه شيء، ومن قال: سأنزل مثل ما أنزل الله وقد قام الدليل القاطع على أنّ هذا القرآن هو من عند الله، وقد كذبتم بآياته، فلا أحد أظلم منكم. والاعتبار الثاني: أنّ ذلك توطئة لما يأتي بعده من عبادة الأوثان أي: لا أحد أظلم منكم في افترائكم على الله أنّ له شريكاً، وأن له ولداً، وفيما نسبتم إليه من التحليل والتحريم..تفسير الآية رقم (18): {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18)}الضمير في ويعبدون عائد على كفار قريش الذين تقدمت محاورتهم. وما لا يضرهم ولا ينفعهم هو الأصنام، جماد لا تقدر على نفع ولا ضر. قيل: إنْ عبدوها لم تنفعهم، وإن تركوا عبادتها لم تضرهم. ومن حق المعبود أن يكون مثيباً على الطاعة معاقباً على المعصية، وكان أهل الطائف يعبدون اللات، وأهل مكة العزى ومناة وأسافاً ونائلة وهبل، والأخبار بهذا عن الكفار هو على سبيل التجهيل والتحقير لهم ولمعبوداتهم، والتنبيه على أنهم عبدوا من لا يستحق العبادة. وفي قوله: من دون الله، دلالة على أنهم كانوا يعبدون الأصنام ولا يعبدون الله. قال ابن عباس: يعنون في الآخرة. وقال النضر بن الحرث: إذا كان يوم القيامة شفعت في اللات والعزى. وقال الحسن: شفعاؤنا في إصلاح معايشنا في الدنيا لأنهم لا يقرون بالبعث. وأتنبئون استفهام على سبيل التهكم بما ادّعوه من المحال الذي هو شفاعة الأصنام، وإعلام بأنّ الذي أنبأوا به باطل غير منطو تحت الصحة، فكأنهم يخبرونه بشيء لا يتعلق به علمه، وما موصولة بمعنى الذي.قال الزمخشري: بكونهم شفعاء عنده، وهو إنباء ما ليس بمعلوم لله تعالى، وإذا لم يكن معلوماً له وهو العالم الذات المحيط بجميع المعلومات لم يكن شيئاً لأنّ الشيء ما يعلم ويخبر عنه فكان خبراً ليس له مخبر عنه انتهى. فتكون ما واقعة على الشفاعة، والفاعل بيعلم هو الله، والمفعول الضمير المحذوف العائد على ما. وقوله: في السموات ولا في الأرض تأكيد لنفيه، لأن ما لم يوجد فيهما فهو منتف معدوم قاله الزمخشري. وفي التحرير: أتنبئون، معناه التهكم والتقريع والتوبيخ والإنكار، والمعنى على هذا: أتخبرون الله بما يعلم خلافه في السموات والأرض، فإن صفات الذات لا يجري فيها النفي. وقيل: أتخبرون الله بما لا يعلمه موجوداً في السموات والأرض، فكيف يصح وجود ما لا يعلمه الله، وهو كما يقال للرجل: قد قلت كذا، فيقول: ما علم الله هذا مني، أي ما كان هذا قط، إذ لو كان لعلمه الله انتهى.والذي يظهر أنّ ما موصول يراد به الأصنام لا الشفاعة التي ادعوها، والفاعل بيعلم ضمير يعود على ما لا على الله، وذلك على حذف مضاف والمعنى: قل أتعلمون الله بشفاعة الأصنام التي انتفي علمها في السموات والأرض أي: ليست متصفة بعلم البتة، فيكون ذلك رداً عليهم في دعواهم أنها تشفع عند الله، لأنّ من كان منتفياً عنه العلم فكيف يشفع وهو لا يعلم من يشفع فيه، ولا ما يشفع فيه، ولا من تشفع عنده؟ كما رد عليهم في العبادة بقوله: ما لا يضرهم ولا ينفعهم، فانتفاء الضر والنفع قادح في العبادة، وانتفاء العلم قادح في الشفاعة، فتبطل العبادة ودعوى الشفاعة، ويكون قوله: في السموات والأرض على هذا تنبيهاً على محال المعبودات المدعي شفاعتهم، إذ من المعبودات السماوية الكواكب كالشمس والشعرى.وقرئ: أتنبئون بالتخفيف من أنبأ. ولما ذكر تعالى عبادتهم ما لا يضر ولا ينفع، وكان ذلك إشراكاً، استأنف تنزيهاً بقوله سبحانه وتعالى. وما يحتمل أن تكون بمعنى الذي ومصدرية أي: شركائهم الذين يشركونهم به، أو عن إشراكهم. وقرأ العربيان والحرميان وعاصم: يشركون بالياء على الغيبة هنا، وفي حرفي النحل، وحرف في الروم. وذكر أبو حاتم أنه قرأها كذلك الحسن والأعرج وابن القعقاع وشيبة وحميد وطلحة والأعمش. وقرأ ابن كثير ونافع، وابن عامر، في النمل فقط بالياء على الخطاب، وعاصم وأبو عمرو بالياء على الغيبة. وقرأ حمزة والكسائي الخمسة بالتاء على الخطاب، وأتى بالمضارع ولم يأت عن ما أشركوا للدلالة على استمرار حالهم، كما جاءوا يعبدون وأنهم على الشرك في المستقبل، كما كانوا عليه في الماضي..تفسير الآية رقم (19): {وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)}لما ذكر تعالى الدلالة على فساد عبادة الأصنام، ذكر الحامل على ذلك وهو الاختلاف الحادث بين الناس، والظاهر عموم الناس. ويتصور في آدم وبينه إلى أنْ وقع الاختلاف بعد قتل أحد ابنيه الآخر، وقاله: أبي بن كعب. وقال الضحاك: المراد أصحاب سفينة نوح، اتفقوا على الحنيفية ودين الإسلام. وعن ابن عباس: من كان من ولد آدم إلى زمان إبراهيم ورد بأنه عبد في زمان نوح عليه السلام الأصنام كود، وسواع. وحكى ابن القشيري أنّ الناس قوم إبراهيم إلى أنْ غيّر الدين عمرو بن لحي. وقال ابن زيد: هم الذين أخذ عليهم الميثاق يوم: {ألست بربكم} لم يكونوا أمة واحدة غير ذلك اليوم. وقال الأصم: هم الأطفال المولودون كانوا على الفطرة فاختلفوا بعد البلوغ، وأبعد من ذهب إلى أنّ المراد بالناس هنا آدم وحده، وهو مروي عن: مجاهد، والسدّي، وعبر عنه بالأمة لأنه جامع لأنواع الخير. وهذه الأقوال هي على أنّ المراد بأمة واحدة في الإسلام والإيمان. وقيل: في الشرك. وأريد قوم إبراهيم كانوا مجتمعين على الكفر، فآمن بعضهم، واستمر بعضهم على الكفر. أو من كان قبل البعث من العرب وأهل الكتاب كانوا على الكفر والتبديل والتحريف، حتى بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم فآمن بعضهم، أو العرب خاصة، أقوال ثالثها للزجاج. والظاهر أنّ المراد بقوله: أمة واحدة في الإسلام، لأنّ هذا الكلام جاء عقيب إبطال عبادة الأصنام، فلا يناسب أنْ يقوي عباد الأصنام. فإنّ الناس كانوا على ملة الكفر، إنما المناسب أن يقال: إنهم كانوا على الإسلام حتى تحصل النفرة من اتباع غير ما كان الناس عليه. وأيضاً فقوله: ولولا كلمة، هو وعيد، فصرفه إلى أقرب مذكور وهو الاختلاف، هو الوجه والاختلاف بسبب الكفر، هو المقتضى للوعيد، لا الاختلاف الذي هو بسبب الإيمان، إذ لا يصلح أن يكون سبباً للوعيد، وقد تقدم الكلام على نحو هذا في البقرة في قوله: {كان الناس أمة واحدة} ولكنْ أعدنا الكلام فيه لبعده.والكلمة هنا هو القضاء، والتقدير: لبني آدم بالآجال المؤقتة. قال ابن عطية: ويحتمل أن يريد الكلمة في أمر القيامة، وأنّ العقاب والثواب إنما يكون حينئذ. وقال الزمخشري: هو تأخير الحكم بينهم إلى يوم القيامة يقضي بينهم عاجلاً فيما اختلفوا فيه، وتمييز المحق من المبطل. وسبقت كلمة الله بالتأخير لحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار دار تكليف، وتلك دار ثواب وعقاب. وقال الكلبي: الكلمة أنّ الله أخبر هذه الأمة لا يهلكهم بالعذاب في الدنيا إلى يوم القيامة، فلولا هذا التأخير لقضى بينهم بنزول العذاب، أو بإقامة الساعة. وقيل: الكلمة السابقة أنْ لا يأخذ أحداً إلا بحجة وهو إرسال الرسل. وقيل: الكلمة قوله: {سبقت رحمتى غضبى} ولولا ذلك ما أخر العصاة إلى التوبة..تفسير الآية رقم (20): {وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)}هذا من اقتراحهم. قال الزمخشري: وكانوا لا يعتدون بما أنزل عليه من الآيات العظام المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، وكفى بالقرآن وحده آية باقية على وجه الدهر بديعة غريبة في الآيات، دقيقة المسلك من بين المعجزات. وجعلوا نزولها كلا نزول، فكأنه لم ينزل عليه قط حتى قالوا: لولا أنزل عليه آية واحدة من ربه، وذلك لفرط عنادهم وتماديهم في التمرد وإنهماكهم في الغي فقل: إنما الغيب لله أي: هو المختص بعلم الغيب المستأثر به، لا علم لي ولا لأحدٍ به. يعني: أنّ الصارف عن إنزال الآيات المقترحة أمر مغيب لا يعلمه إلا هو سبحانه، فانتظروا نزول ما اقترحتموه إني معكم من المنتظرين بما يفعل الله تعالى بكم لعنادكم وجحدكم الآيات. وقال ابن عطية: آية من ربه، آية تضطر الناس إلى الإيمان، وهذا النوع من الآيات لم يأت بها نبي قط، ولا من المعجزات اضطرارية، وإنما هي معرضة النظر ليهتدي قوم ويضل آخرون، فقل: إنما الغيب لله إن شاء فعل، وإن شاء لم يفعل، لا يطلع على غيبه في ذلك أحد. وقوله: فانتظروا، وعيد وقد صدقه الله تعالى بنصرته محمداً صلى الله عليه وسلم. وقيل: الآية التي اقترحوا أن ينزل ما تضمنه قوله تعالى: {وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا} الآية وقيل: آية كآية موسى وعيسى كالعصا واليد البيضاء، وإحياء الموتى، طلبوا ذلك على سبيل التعنت..تفسير الآية رقم (21): {وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آَيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21)}لما ذكر تعالى قوله: {وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قال الذين لا يرجون} الآية ثم ذكر قوله: {وقالوا لولا أنزل عليه آية} وذلك على سبيل التعنت أخبر أنّ هؤلاء إنما يصيرون لهذه المقالات عندما يكونون في رخاء من العيش وخلو بال، وأنّ إحسان الله تعالى قابلوه بما لا يجوز من ابتغاء المكر لآياته، وكان خليقاً بهم أن يكونوا أول من صدق بآياته. وإعراضهم عن الآيات نظير قوله: {فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم يدعنا إلى ضر مسه}. وسبب نزولها أنه لما دعا على أهل مكة الرسول بالجدب قحطوا سبع سنين، فأتاه أبو سفيان فقال: إدع لنا بالخصب، فإنّ أخصبنا صدقنا، فسأل الله لهم فسقوا ولم يؤمنوا، وهذه وإن كانت في الكفار فهي تتناول من العاصين من لا يؤدّي شكر الله عند زوال المكروه عنه، ولا يرتدع بذلك عن معاصيه، وذلك في الناس كثير. تجد الإنسان يعقد عند مس الضر التوبة والتنصل من سائر المعاصي، فإذا زال عنه رجع إلى أقبح عاداته. والرحمة هنا الغيث بعد القحط، والأمن بعد الخوف، والصحة بعد المرض، والغنى بعد الفقر، وما أشبه ذلك. ومعنى مستهم خالطتهم حتى أحسوا بسوء أثرها فيهم، ومعنى مكر في آياتنا التكذيب بالقرآن، والشك فيه قاله الجماعة. وقال مجاهد ومقاتل: الاستهزاء والتكذيب. وقال أبو عبيدة: الرد والجحود. وحكى الماوردي النفاق لأنه إظهار الإيمان وإبطان الكفر، وهو شبيه بما قال الزمخشري: إنّ المكر أخفى الكيد. وقال ابن عطية: والمكر الاستهزاء والطعن عليها من الكفار، واطراح الشكر والخوف من العصاة انتهى. والإذاقة والمس هنا مجازان، وفي هذه الجملة دليل على سرعة تقلب ابن آدم من حالة الخير إلى حالة الشر، وذلك بلفظ أذقنا، كأنه قيل: أول ذوقه الرحمة قبل أن يدوام استطعامها مكروه بلفظ من المشعرة بابتداء الغاية أي: ينشئ المكر إثر كشف الضراء لا يمهل ذلك. وبلفظ إذا الفجائية الواقعة جواباً لإذا الشرطية، أي في وقت إذاقة الرحمة فاجأوا بالمكر. ولما كانت هذه الجملة كما قلنا تتضمن سرعة المكر منهم قيل: قل الله أسرع مكراً فجاءت أفعل التفضيل. ومعنى وصف المكر بالأسرعية: أنه تعالى قبل أن يدبروا مكائدهم قضى بعقابكم، وهو موقعه بكم، واستدرجكم بإمهاله. قال ابن عطية: أسرع من سرع، ولا يكون من أسرع يسرع، حكى ذلك أبو علي. ولو كان من أسرع لكان شاذاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في نار جهنم لهي أسود من القار» وما حفظ من النبي صلى الله عليه وسلم فليس بشاذ انتهى. وقيل: أسرع هنا ليست للتفضيل، وحكاية ذلك عن أبيّ على هو مذهب.وفي بناء التعجب وأفعل التفضيل من أفعل ثلاثة مذاهب: المنع مطلقاً وما ورد من ذلك فهو شاذ، والجواز مطلقاً، والتفصيل بين أن تكون الهمزة فيه للنقل فيمنع، أو لغير النقل فيجوز، نحو: أشكل الأمر وأظلم الليل، وتقرير الصحيح من ذلك هو في علم النحو وأما تنظير أسود من القار بأسرع ففاسد، لأن أسود ليس فعله على وزن أفعل، وإنما هو على وزن فعل نحو سود فهو أسود، ولم يمتنع التعجب ولا بناء أفعل التفضيل عند البصريين من نحو: سود وحمر وأدم إلاّ لكونه لوناً، وقد أجاز ذلك بعض الكوفيين في الألوان مطلقاً، وبعضهم في السواد والبياض فقط.والرسل هنا الحفظة بلا خلاف. والمعنى: أن ما تظنونه خافياً مطوياً عن الله لا يخفى عليه، وهو منتقم منكم. وقرأ الحسن وابن أبي إسحاق، وأبو عمر: رسلنا بالتخفيف. وقرأ الحسن، وقتادة، ومجاهد، والأعرج، ورويت عن نافع: يمكرون على الغيبة جرياً على ما سبق. وقرأ أبو رجاء، وشيبة، وأبو جعفر، وابن أبي إسحاق، وعيسى، وطلحة، والأعمش، والجحدري، وأيوب بن المتوكل، وابن محيصن، وشبل، وأهل مكة، والسبعة: بالتاء على الخطاب مبالغة لهم في الإعلام بحال مكرهم، والتفاتاً لقوله: قل الله أي: قل لهم، فناسب الخطاب. وفي قوله: إنّ رسلنا التفات أيضاً، إذ لم يأت أنّ رسله. وقال أيوب بن المتوكل في مصحف أبي: يا أيها الناس إنّ الله أسرع مكراً، وإن رسله لديكم يكتبون ما تمكرون، وينبغي أن يحمل هذا على التفسير، لأنه مخالف لما أجمع عليه المسلمون من سواد المصحف، والمحفوظ عن أبي القراءة والإقراء بسواد المصحف..تفسير الآية رقم (22): {هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22)}العاصف الشديدة يقال: عصفت الريح. قال الشاعر:وأعصف الريح. قال الشاعر: وقال أبو تمام: الموج: ما ارتفع من الماء عند هبوب الهواء، سمى موجاً لاضطرابه.{هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك جرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كلّ مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكون من الشاكرين}: مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه لما ذكر تعالى أنّ الناس إذا أصابهم الضر لجأوا إلى الله تعالى فإذا أذاقهم الرحمة، عادوا إلى عادتهم من إهمال جانب الله والمكر في آياته. وكان قبل ذلك قد ذكر نحواً من هذا في قوله: {وإذا مس الإنسان الضرّ} الآية. وكان المذكور في الآيتين أمراً كلياً، أوضح تعالى ذلك الأمر الكلي بمثال جلي كاشف عن حقيقة ذلك المعنى الكلي ينقطع فيه رجاء الإنسان عن كل متعلق به إلا الله تعالى، فيخلص له الدعاء وحده في كشف هذه النازلة التي لا يكشفها إلا هو تعالى، ويتبين بطلان عبادته ما لا يضر ولا ينفع، ودعواه أنه شفيعه عند الله، ثم بعد كشف هذه النازلة عاد إلى عادته من بغيه في الأرض، فإنجاؤه تعالى إياهم هو مثال من أذاقه الرحمة وما كانوا فيه قبل من إشرافهم على الهلاك هو مثال من الضر الذي مسهم. وقرأ زيد بن ثابت، والحسن، وأبو العالية، وزيد بن علي، وأبو جعفر، وعبد الله بن جبير، وأبو عبد الرحمن، وشيبة، وابن عامر: ينشركم من النشر والبث. وقرأ الحسن أيضاً: ينشركم من الإنشار وهو الإحياء، وهي قراءة عبد الله. وقرأ بعض الشاميين ينشركم بالتشديد للتكثير من النشر الذي هو مطاوعة الانتشار. وقرأ باقي السبعة والجمهور: يسيركم من التسيير. قال أبو علي: هو تضعيف مبالغة، لا تضعيف تعدية، لأن العرب تقول: سرت الرجل وسيرته، ومنه قول الهذلي: قال ابن عطية: وعلى هذا البيت اعتراض حتى لا يكون شاهداً في هذا، وهو أن يكون الضمير كالظرف كما تقول: سرت الطريق انتهى. وما ذكره أبو علي لا يتعين، بل الظاهر أنّ التضعيف فيه للتعدية، لأنّ سار الرجل لازماً ما أكثر من سرت الرجل متعدياً فجعله ناشئاً عن الأكثر أحسن من جعله ناشئاً عن الأقل. وأما جعل ابن عطية الضمير كالظرف قال كما تقول: سرت الطريق، فهذا لا يجوز عند الجمهور، لأن الطريق عندهم ظرف مختص كالدار والمسجد، فلا يصل إليه الفعل غيره.دخلت عند سيبويه، وانطلقت، وذهبت عند الفراء إلا بوساطة في إلا في ضرورة، وإذا كان كذلك فضميره أحرى أنْ لا يتعدى إليه الفعل. وإذا كان ضمير الظرف الذي يصل إليه الفعل بنفسه يصل إليه بوساطة في إلا إن اتسع فيه فلأن يكون الضمير الذي يصل الفعل إلى ظاهره بفي أولى أن يصل إليه الفعل بوساطة في. وزعم أبن الطراوة أن الطريق ظرف غير مختص، فيصل إليه الفعل بغير وساطة في، وهو زعم مردود في النحو.ومعنى يسيركم: يجعلكم تسيرون، والسير معروف، وفي قوله: والبحر دلالة على جواز ركوب البحر. ولما كان الخوف في البحر أغلب على الإنسان منه في البر وقع المثال به لذلك المعنى الكلي به من التجاء العبد لربه تعالى حالة الشدة والإهمال لجانبه حالة الرخاء. قال الزمخشري: (فإن قلت): كيف جعل الكون في الفلك غاية التسيير في البحر، والتسيير في البحر إنما هو بالكون في الفلك؟ (قلت): لم يجعل الكون في الفلك غاية التسيير، ولكن مضمون الجملة الشرطية الواقعة بعد حتى بما في خبرها كأنه قال: يسيركم حتى إذا وقعت هذه الحادثة فكان كيت وكيت من مجيء الريح العاصف، وتراكم الأمواج، والظن للهلاك، والدعاء للانجاء انتهى. وهو حسن، وقرأ أبو الدرداء وأم الدرداء: في الفلكي بزيادة ياء النسب، وخرج ذلك على زيادتها، كما زادوها في الصفة في نحو: أحمرّيّ وزواريّ، وفي العلم كقول الصلتان: أنا الصلتاني الذي قد علمتم. وعلى إرادة النسب مراداً به اللج كأنه قيل في اللج الفلكي وهو الماء الغمر الذي لا تجري الفلك إلا فيه، والضمير في وجرين عائد على الفلك على معنى الجمع، إذ الفلك كما تقدم في سورة البقرة يكون مفرداً وجمعاً، والضمير في بهم عائد على الكائنين في الفلك. وهو التفات، إذ هو خروج من خطاب إلى غيبة. وفائدة صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة قال الزمخشري: المبالغة، كأنه يذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها، ويستدعي منهم الإنكار والتقبيح انتهى. والذي يظهر والله أعلم أنّ حكمة الالتفات هنا هي أنّ قوله: هو الذي يسيركم في البر والبحر، خطاب فيه امتنان وإظهار نعمة للمخاطبين، والمسيرون في البر والبحر مؤمنون وكفار، والخطاب شامل، فحسن خطابهم بذلك ليستديم الصالح على الشكر. ولعل الطالح يتذكر هذه النعمة فيرجع، فلما ذكرت حالة آل الأمر في آخرها إلى أنْ الملتبس بها هو باغ في الأرض بغير الحق، عدل عن الخطاب إلى الغيبة حتى لايكون المؤمنون يخاطبون بصدور مثل هذه الحالة التي آخرها البغي. وقال ابن عطية: بهم خروج من الحضور إلى الغيبة، وحسن ذلك لأن قوله: كنتم في الفلك، هو بالمعنى المعقول، حتى إذا حصل بعضكم في السفن انتهى.فكأنه قدر مفرداً غائباً يعاد الضمير عليه فيصير كقوله تعالى: {أو كظلمات في بحر لجيّ يغشاه} أي، أو كذي ظلمات، فعاد الضمير غائباً على اسم غائب، فلا يكون ذلك من باب الالتفات. والباء في بهم وبريح قال العكبري: تتعلق الباءان بجرين انتهى. والذي يظهر أن الباء في بهم متعلقة بجرين تعلقها بالمفعول نحو: مررت بزيد. وأنّ الباء في بريح يجوز أن تكون للمسبب، فاختلف المدلول في الباءين، فجاز أن يتعلقا بفعل واحد، ويجوز أن تكون الباء للحال أي: وجرين بهم ملتبسة بريح طيبة، فتتعلق بمحذوف كما تقول: جاء زيد بثيابه أي ملتبساً بها. وفرحوا بها يحتمل أن يكون معطوفاً على قوله: وجرين بهم، ويحتمل أن يكون حالاً أي: وقد فرحوا بها. كما احتمل قوله: وجرين أن يكون معطوفاً على كنتم، وأن يكون حالاً. والظاهر أنّ قوله: جاءتها ريح عاصف، هو جواب إذا. والظاهر عود الضمير في جاءتها على الفلك، لأنه هو المحدث عنه في قوله: وجرين بهم، وقاله مقاتل. وجوزوا أن يعود على الريح الطيبة وقاله الفراء، وبدأ به الزمخشري. ومعنى طيب الريح لين هبوبها وكونها موافقة.وقرأ ابن أبي عبلة: جاءتهم، ومعنى من كل من مكان من أمكنة الموج. والظن هنا على بابه الأصلي من ترجيح أحد الجائزين. وقيل: معناها التيقن، ومعنى أحيط بهم أي للهلاك، كما يحيط العدو بمن يريد إهلاكه، وهي كناية عن استيلاء أسباب الهلاك. وقرأ زيد بن علي: حيط بهم ثلاثياً والجملة من قوله: دعوا الله قال أبو البقاء: هي جواب ما اشتمل عليه المعنى من معنى الشرط تقديره: لما ظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى، وهو كلام لا يتحصل منه شيء. وقال الطبري: جواب حتى إذا كنتم في الفلك جاءتها ريح عاصف، وجواب قوله: وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله انتهى. وهو مخالف للظاهر، لأنّ قوله: وظنوا ظاهره العطف على جواب إذا، لأنه معطوف على كنتم، لكنه محتمل. كما تقول: إذا زارك فلان فأكرمه، وجاءك خالد فأحسن إليه، وكأن أداة الشرط مذكورة. وقال الزمخشري: هي بدل من ظنوا لادعائهم من لوازم ظنهم الهلاك، فهو ملتبس به انتهى. وكان أستاذنا أبو جعفر بن الزبير يخّرج هذه الآية على غير ما ذكروا ويقول: هو جواب سؤال مقدّر، كأنه قيل: فما كان حالهم إذ ذاك؟ فقيل: دعوا الله مخلصين له الدين انتهى. ومعنى الإخلاص إفراده بالدعاء من غير إشراك أصنام ولا غيرها، قال معناه: ابن عباس وابن زيد. وقال الحسن: مخلصين لا إخلاص إيمان، لكنْ لأجل العلم بأنه لا ينجيهم من ذلك إلا الله، فيكون ذلك جارياً مجرى الإيمان الاضطراري انتهى. والاعتراف بالله مركوز في طبائع العالم، وهم مجبولون على أنه المتصرف في الأشياء، ولذلك إذا حقت الحقائق رجعوا إليه كلهم مؤمنهم وكافرهم، لئن أنجيتنا ثم قسم محذوف، وذلك القسم وما بعده محكيّ بقول أي: قائلين. أو أجرى دعوا مجرى قالوا، لأنه نوع من القول، والإشارة بهذه إلى الشدائد التي هم فيها. وقال الكلبي: إلى الريح العاصف.
|