فصل: تفسير الآيات (10- 12):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الجواهر الحسان في تفسير القرآن المشهور بـ «تفسير الثعالبي»



.تفسير سورة القتال:

وهي مدنية.
بسم الله الرحمن الرحيم

.تفسير الآيات (1- 3):

{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآَمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)}
قوله عزَّ وجلَّ: {الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أعمالهم} {الذين كَفَرُواْ}: إشارةٌ إلى أَهْلِ مَكَّةَ الذين أَخْرَجُوا النبيَّ صلى الله عليه وسلم.
وقوله: {والذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات...} الآية: إشارةٌ إلى الأنصار الذين آووا، ونصروا، وفي الطائفتين نزلتِ الآيتان؛ قاله ابن عباس ومجاهد، ثم هي بَعْدُ تَعُمّ كُلَّ مَنْ دخل تحت ألفاظها.
وقوله: {أَضَلَّ أعمالهم} أيْ: أَتْلَفَهَا، ولم يجعلْ لها نَفْعاً.
* ت *: وقد ذكَرْنا في سورة الصف أنَّ اسم محمد صلى الله عليه وسلم لم يَتَسَمَّ به أحدٌ قبله إلاَّ قَوْمٌ قليلُونَ، رجاءَ أَنْ تكونَ النُّبُوَّةُ في أبنائهم، واللَّهُ أَعْلَمُ حيثُ يَجْعَلُ رسالاته، قال ابن القَطَّانِ: وعن خَلِيفَةَ وَالِدِ أَبِي سُوَيْدٍ قال: سألْتُ محمَّدَ بْنَ عَدِيِّ بن أبي رَبِيعَةَ: كيف سَمَّاكَ أبوك محمَّداً؟ قال: سأَلتُ أبي عَمَّا سَأَلْتَنِي عَنْهُ، فقال لي: كُنْتَ رَابِعَ أربعةٍ من بني غَنْمٍ أنا فيهم، وسفيانُ بْنُ مُجَاشِعِ بْنِ جَرِيرٍ، وأُمَامَةُ بْنُ هِنْدِ بْنِ خِنْدِف. ويزيدُ بنُ رَبِيعَةَ، فخرجْنا في سَفْرَةٍ نُرِيدُ ابنَ جَفْنَةَ مَلِكَ غَسَّانَ، فلما شارفنا الشام، نزلنا على غَدِيرٍ فيه شجراتٌ، وقُرْبَهُ شَخْصٌ نائمٌ، فتحدَّثْنَا فاستمع كلاَمَنَا، فَأَشْرَفَ علَيْنَا، فقال: إنَّ هذه لُغَةٌ، ما هي لغة هذه البلاد، فقلنا: نَحْنُ قومٌ من مُضَرَ، فقال: مِنْ أَيَّ المُضَرِيِّينَ؟ قلنا: من خِنْدِف، قال: إنَّهُ يُبْعَثُ فيكم خاتَمُ النبيِّين، فَسَارِعُوا إلَيْه، وخُذُوا بحظِّكُمْ منه تَرْشُدُوا، قلنا: ما اسمه؟ قال: محمَّد، فَرَجَعْنَا، فَوُلِدَ لِكُلِّ واحدٍ مِنَّا ابْنٌ سَمَّاه محمَّداً، وذكره المدائنيُّ، انتهى.
وقوله تعالى في المؤمنين: {وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ} قال قتادة: معناه: حالهم، وقال ابن عباس: شأنهم.
وتحريرُ التفسيرِ في اللفظة أَنَّها بمعنى الفِكْرِ والموضعِ الذي فيه نظرُ الإنْسَانِ، وهو القلب، فإذا صَلُحَ ذلك منه، فقد صَلُحَ حالُهُ، فكأَنَّ اللفظة مُشِيرَةٌ إلى صلاح عقيدتهم، وغيرُ ذلك من الحال تَابِعٌ، فقولك: خَطَرَ في بالي كذا، وقولك: أصْلَحَ اللَّهُ بَالَكَ: المرادُ بهما واحدٌ؛ ذكره المُبَرِّدُ،، والبَالُ: مصدر كالحال والشأن، ولا يُسْتَعْمَلُ منه فِعْلٌ، وكذلك عُرْفُهُ لا يثنى ولا يُجْمَعُ، وقد جاء مجموعاً شاذًّا في قولهم: بَالاَت.
و{الباطل} هنا: الشيطانُ، وكُلُّ ما يأمر به؛ قاله مجاهد، و{الحق} هنا: الشَّرْعُ ومحمَّد عليه السلام.
وقوله: {كذلك يَضْرِبُ الله}: الإشارة إلى الأتباع المذكورينَ من الفريقَيْنِ.

.تفسير الآيات (4- 9):

{فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)}
وقوله سبحانه: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب...} الآية: قال أَكْثَرُ العلماءِ: إنَّ هذه الآية وآيةَ السَّيْفِ، وهي قوله تعالى: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} [التوبة: 5] مُحْكَمَتَانِ، فقوله هنا: {فَضَرْبَ الرقاب} بمثابة قوله هنالك: {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ}، وصرَّح هنا بذكر المَنِّ والفداء، ولم يُصَرِّحْ به هنالك، فهذه مُبَيِّنَةٌ لِتِلْكَ، وهذا هو القولُ القويُّ، وقوله: {فَضَرْبَ الرقاب} مصدر بمعنى الفِعْل، أي: فاضربوا رقابهم وعَيَّنَ مِنْ أنواع القَتْلِ أَشْهَرَهُ، والمراد: اقتلوهم بأَيِّ وجه أَمكَنَ؛ وفي صحيح مسلمٍ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «لا يَجْتَمِعُ كَافِرٌ وَقَاتِلهُ في النَّارِ أَبَداً» وفي صحيح البخاري عنه صلى الله عليه وسلم قال: «مَا اغْبَرَّتْ قَدَمَا عَبْدٍ في سَبِيلِ اللَّهِ؛ فَتَمَسَّهُ النَّارُ» انتهى.
والإثخان في القوم أنْ يكثر فيهم القتلى والجرحى، ومعنى: {فَشُدُّواْ الوثاق} أي: بمن لم يُقْتَلْ، ولم يترتَّب فيه إلاَّ الأسْرُ، ومَنًّا وفِدَاءً: مصدران منصوبانِ بفعلَيْن مُضْمَرَيْنِ.
وقوله: {حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا} معناه: حتى تذهبَ الحربُ وتزولَ أثقالُهَا، والأوزار: الأثقال؛ ومنه قول عَمْرِو بنِ مَعْدِ يكرِبَ: [من المتقارب]
وَأَعْدَدْتُ لِلْحَرْبِ أَوْزَارَهَا ** رِمَاحاً طِوَالاً وَخَيْلاً ذُكُورَا

واختلف المتأولون في الغاية التي عندها تضع الحربُ أوزارها، فقال قتادة: حتى يُسَلِّمَ الجميعُ، وقال حُذَّاقُ أهل النظر: حتى تغلبوهم وتَقْتُلُوهُمْ، وقال مجاهد: حتى ينزلَ عيسى ابْنُ مَرْيَمَ، قال * ع*: وظاهر اللفظ أَنَّهُ استعارةٌ يُرَادُ بها التزامُ الأمْرِ أبداً؛ وذلك أَنَّ الحربَ بين المؤمنين والكافرين لا تضع أوزارها، فجاء هذا كما تقول: أنا أفعل كذا وكذا إلى يَوْمِ القيامةِ، وإنَّما تريد أَنَّك تفعله دائماً.
{وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ} أي: بعذابٍ مِنْ عنده، ولكن أراد سبحانه اختبار المؤمنين، وأنْ يَبْلُوَ بعضَ الناس ببعضٍ، وقرأ الجمهور: {قَاتَلُواْ} وقرأ عاصم بخلاف عنه: {قاتلوا} بفتح القاف والتاء، وقرأ أبو عمرو وحَفْصٌ: {قاتلوا} بضم القاف وكسر التاء، قال قتادة: نزلَتْ هذه الآيةُ فيمَنْ قُتِلَ يوم أُحُدٍ من المؤمنين.
وقوله سبحانه: {سَيَهْدِيهِمْ} أي: إلى طريقِ الجَنَّةِ.
* ت *: ذكر الشيخ أبو نُعَيْمٍ الحافظُ أنَّ مَيْسَرَةَ الخادمَ قال: غزونا في بعض الغَزَوَاتِ، فإذا فتًى إلى جانِبي، وإذا هو مُقَنَّعٌ بالحديد، فَحَمَلَ على المَيْمَنَةِ، فَثَنَاها، ثُمَّ على المَيْسَرَةِ حتى ثَنَاهَا، وحَمَلَ عَلَى القَلْبِ حتى ثناه، ثم أنشأ يقول [الرجز]
أَحْسِنْ بِمَوْلاَكَ سَعِيدُ ظَنَّا ** هَذا الَّذِي كُنْتَ لَهُ تمنى

تَنَحِّ يَا حُورَ الْجِنَانِ عَنَّا ** مَالَكِ قَاتَلْنَا وَلاَ قُتِلْنَا

لَكِنْ إلى سَيِّدِكُنَّ اشتقنا ** قَدْ عَلِمَ السِّرَّ وَمَا أَعْلَنَّا

قال: فحمل، فقاتل، فَقَتَلَ منهم عدداً، ثم رَجَعَ إلى مَصَافِّهِ، فتكالَبَ عليه العَدُوُّ، فإذا هو رضي اللَّه تعالى عنه قد حمل على الناس، وأنشأ يقول: [الرجز]
قَدْ كُنْتُ أَرْجُو وَرَجَائِي لَمْ يَخِبْ ** أَلاَّ يَضِيعَ الْيَوْمَ كَدِّي وَالطَّلَبْ

يَا مَنْ مَلاَ تِلْكَ الْقُصُورَ باللُّعَبْ ** لَوْلاَكَ مَا طَابَتْ وَلا طَابَ الطَّرَبْ

ثم حَمَلَ رضي اللَّه عنه فقاتل، فَقَتَلَ منهم عَدَداً، ثم رجع إلى مَصَافِّه، فتكالَبَ عليه العَدُوُّ فحَمَلَ رضي اللَّه عنه في المرة الثالثة، وأنشأ يقول: [الرجز]
يَا لُعْبَةَ الخُلْدِ قِفِي ثُمَّ اسمعي ** مَالَكِ قَاتَلْنَا فَكُفِّي وارجعي

ثُمَّ ارجعي إلَى الْجِنَانِ واسرعي ** لاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي لاَ تَطْمَعِي

فقاتل رضي اللَّه عنه حتى قُتِلَ،، انتهى من ابن عَبَّاد شارح الحِكَم.
وقوله تعالى: {عَرَّفَهَا لَهُمْ} قال أبو سعِيدٍ الْخُدْرِيُّ، وقتادة، ومجاهد: معناه: بَيَّنَهَا لهم، أي: جعلهم يعرفون منازلهم منها، وفي نحو هذا المعنى قولُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «لأَحَدُكُمْ بِمَنْزِلِهِ في الجَنَّة أَعْرَفُ مِنْهُ بِمَنْزِلِهِ في الدّنْيَا» قال القرطبيُّ في التذكرة: وعلى هذا القولِ أكثرُ المفسِّرين قال: وقيل: إنَّ هذا التعريفَ إلى المنازِلِ هو بالدليلِ، وهو المَلَكُ المُوَكَّلُ بِعَمَلِ العَبْدِ، يمشي بين يَدَيْهِ،، انتهى، وقالت فرقة: معناه: سَمَّاها لهم، ورَسَمَهَا كُلُّ منزل باسم صاحبه، فهذا نحو من التعريف، وقالت فرقة: معناه شَرَّفَهَا لهم ورفعها وعلاَّها، وهذا من الأَعْرَافِ التي هي الجبال، ومنه أعرافُ الخَيْلِ، وقال مُؤَرِّجٌ وغيره: معناه: طَيَّبَهَا؛ مأخوذٌ من العَرْفِ، ومنه طَعَامٌ مُعَرَّفٌ، أي: مُطَيَّبٌ، وعَرَّفْتُ القِدْرَ: طَيَّبْتُها بالمِلْحِ والتَّابِلِ، قال أبو حيَّان: وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ البال: الفِكْرُ ولا يُثَنَّى ولا يُجْمَعُ، انتهى.
وقوله سبحانه: {إِن تَنصُرُواْ الله} أي: دينَ اللَّه {يَنصُرْكُمْ} بخلق القوَّةِ لكم وغَيْرِ ذلك من المعاون، {وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} أي: في مواطن الحَرْبِ، وقيل: على الصراط في القيامة.
وقوله: {فَتَعْساً لَّهُمْ} معناه: عِثَاراً وهَلاَكاً لهم، وهي لفظة تقالُ للعَاثِرِ، إذا أُرِيدَ به الشَّرُّ؛ قال ابن السِّكِّيتِ: التَّعْسُ: أنْ يَخِرَّ على وجهه.
وقوله تعالى: {كَرِهُواْ مَا أَنزَلَ الله} يريد: القرآن {فَأَحْبَطَ أعمالهم} قال * ع *: ولا خلافَ أَنَّ الكافر له حَفَظَةٌ يكتبون سَيِّئاتِهِ، واختلف الناسُ في حَسَنَاتِهِمْ، فقالت فرقة: هي مُلْغَاةٌ يثابُونَ عليها بِنِعَمِ الدنيا فقَطْ، وقالت فرقة: هي مُحْصَاةٌ من أجل ثواب الدنيا، ومن أجل أَنَّهُ قد يُسْلِمُ فينضافُ ذلك إلى حسناته في الإسلام، وهذا أحدُ التأويلَيْنِ في قوله صلى الله عليه وسلم لِحَكِيمِ بْنِ حِزَامٍ: «أَسْلَمْتَ على مَا سَلَفَ لَكَ مِنْ خَيْرٍ».

.تفسير الآيات (10- 12):

{أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آَمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12)}
وقوله عز وجل: {أَفَلَمْ يَسِيرُواْ في الأرض}: توقيف لقريش، وتوبيخٌ و{الذين مِن قَبْلِهِمْ} يريدُ: ثمودَ وقَوْمَ شُعَيْبٍ وغيرهم، والدمار: الإفساد، وهَدْمُ البناء، وإذهابُ العُمْرَانِ، والضميرُ في قوله: {أمثالها} يَصِحُّ أَنْ يعودَ على العَاقِبَةِ، ويَصِحُّ أَنْ يعود على الفَعْلَةِ التي يتضمَّنها قوله: {دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ}.
وقوله تعالى: {ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين ءَامَنُواْ...} الآية، المَوْلَى: الناصِرُ المُوَالِي، قال قتادة: نزلَتْ هذه الآيةُ يَوْمَ أُحُدٍ، ومنها انتزع النبيُّ صلى الله عليه وسلم رَدَّهُ على أبي سُفْيَانَ حينَ قال: «قُولُوا: اللَّهُ مَوْلاَنَا، وَلاَ مولى لَكُمْ».
وقوله سبحانه: {والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام} أي: أكلاً مجرَّداً عن الفِكْرِ والنظر، وهذا كما تقول: الجاهلُ يعيشُ كما تعيشُ البهيمةُ، والمعنى: يعيشُ عَدِيمَ الفَهْمِ والنَّظَرِ في العَوَاقِبِ.

.تفسير الآيات (13- 15):

{وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13) أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آَسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)}
وقوله سبحانه: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هي أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ} يعني: مَكَّة {التى أَخْرَجَتْكَ} معناه: وَقْتَ الهِجْرَةِ، ويقال: إنَّ هذه الآيةَ نزلَتْ إثْرَ خُرُوجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم من مَكَّةَ، وقيل غَيْرُ هذا.
وقوله سبحانه: {أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ...} الآية، توقيفٌ وتقريرٌ، وهي معادلةٌ بين هذَيْن الفريقَيْن، اللفظ عامٌّ لأهل هاتين الصفتين غابرَ الدَّهْرِ، و{على بَيِّنَةٍ} أي: على يقين وطريق واضحةٍ وعقيدة نَيِّرَةٍ بَيِّنَةٍ.
وقوله سبحانه: {مَّثَلُ الجنة...} الآية، قال النَّضْرُ بن شُمَيْلٍ وغيره {مَثَلُ} معناه: صفةٌ؛ كأَنَّهُ قال: صفة الجنة: ما تسمَعُونَ فيها كذا وكذا.
وقوله: {فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ ءَاسِنٍ} معناه: غيرُ مُتَغَيِّرٍ؛ قاله ابن عباس وقتادة، وسواءٌ أنتن أو لم يُنْتِنْ.
وقوله في اللبن: {لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ}: نَفْيٌ لجميعِ وجوهِ الفَسَادِ فيه.
وقوله: {لَذَّةٍ للشاربين} جمعتْ طِيبَ الطَّعْمِ وَزَوالَ الآفاتِ من الصُّدَاعِ وغيره، وتصفيةُ العَسَلِ مُذْهِبَةٌ لمومه وَضَرَره.
* ت *: ورُوِّينَا في كتاب التِّرْمِذِيِّ عن حَكِيمِ بن مُعَاوِيَةَ عنِ أبيه عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قال: «إنَّ في الجَنَّةِ بَحْرَ المَاءِ، وَبَحْرَ الْعَسَلِ، وَبَحْرَ اللَّبَنِ، وَبَحْرَ الخَمْرِ، ثُمَّ تَشَقَّقُ الأَنْهَارُ بَعْدُ» قال أبو عيسى: هذا حديث حسنٌ صحيحٌ، انتهى.
وقوله: {وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات} أي: من هذه الأنواع لكنها بعيدة الشبه؛ تلك لا عَيْبَ فيها ولا تَعَبَ.
وقوله: {وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ} معناه: وتنعيمٌ أعطته المغفرةُ وَسَّبَّبَتْهُ، وإلاَّ فالمغفرة إنَّما هي قبل دخول الجَنَّةِ.
وقوله سبحانه: {كَمَنْ هُوَ خالد في النار...} الآية، قبله محذوفٌ، تقديره: أَسُكَّانُ هذه، أو تقديره: أهؤلاءِ المتقون كَمَنْ هو خالد في النار.

.تفسير الآيات (16- 21):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آَنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآَتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19) وَيَقُولُ الَّذِينَ آَمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21)}
وقوله سبحانه: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ} يعني بذلك: المنافقين {حتى إِذَا خَرَجُواْ مِنْ عِندِكَ قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم مَاذَا قَالَ ءَانِفاً}؛ عَلَى جِهَةِ الاسْتِخْفَاف، ومنهم مَنْ يقوله جهالةً ونسياناً، و{ءَانِفاً} معناه: مبتدئاً، كأَنَّه قال: ما القولُ الذي ائتنفه الآنَ قَبْلَ انفصالنا عَنْهُ، والمفسِّرون يقولون: {ءَانِفاً} معناه: الساعةَ الماضيةَ، وهذا تفسيرٌ بالمعنى.
* ت *: وقال الثعلبيُّ: {ءَانِفاً} أي: الآنَ، وأصله الابتداء، قال أبو حَيَّان: {ءَانِفاً} بالمدِّ والقَصْرِ: اسمُ فاعِل، والمُسْتَعْمَلُ من فعله: ائتنفت، ومعنى: {ءَانِفاً} مبتدئاً، فهو منصوبٌ على الحال، وأعربه الزَّمْخَشْرِيُّ ظَرْفاً، أي: الساعةَ، قال أبو حَيَّان: ولا أعلم أحداً من النحاة عَدَّه مِنَ الظُّرُوفِ، انتهى، وقال العِرَاقِيُّ: {ءَانِفاً} أي: الساعة.
وقوله تعالى: {والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى} أي: زادهم اللَّه هدى، ويحتمل: زادهم استهزاءُ المنافقين هُدًى، قال الثعلبيُّ: وقيل: زَادَهُمْ ما قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم هُدًى؛ قال * ع *: الفاعل في {وأتاهم} يتصرَّفُ القولُ فيه بحسب التأويلاتِ المذكورةِ، وأقواها أنَّ الفاعِلَ اللَّهُ تعالى، {وأتاهم} معناه: أعطَاهُمْ، أي: جعلهم مُتَّقِينَ.
وقوله تعالى: {فَهَلْ يَنظُرُونَ} يريد: المنافقين، والمعنى: فهل يَنْتَظِرُونَ؟ و{بَغْتَةً} معناه فجأة.
وقوله: {فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا} أي: فينبغي الاستعدادُ والخوفُ منها، والذي جاء من أشراط الساعة: محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم؛ لأَنَّه آخر الأنبياء، وقال عليه السلام: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةُ كَهَاتَيْنِ» والأحاديثُ كثيرةٌ في هذا الباب.
وقوله تعالى: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله...} الآية: إضرابٌ عن أمْرِ هؤلاء المنافقين، وذكر الأَهَمِّ من الأمر، والمعنى: دُمْ على عِلْمِكَ، وهذا هو القانُونُ في كُلَّ مَنْ أُمِرَ بشيْء هو مُتَلَبِّسٌ به، وكُلُّ واحدٍ مِنَ الأُمَّةِ داخلٌ في هذا الخِطابِ، وعن أبي هريرةَ قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: «مَا قَالَ عَبْدُ: لاَ إله إلاَّ اللَّهُ مُخْلِصاً، إلاَّ فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ، حتى تُفْضِيَ إلَى الْعَرْشِ مَا اجتنبت الكَبَائِرُ»، رواه الترمذي والنسائيُّ، وقال الترمذيُّ واللفظ له: حديث حسن غريب، انتهى من السلاح.
وقوله تعالى: {واستغفر لِذَنبِكَ} أي: لِتَسْتَنَّ أُمَّتُكَ بِسُنَّتِكَ.
* ت *: هذا لفظ الثعلبيِّ، وهو حَسَنٌ، وقال عِيَاضٌ: قال مَكِّيٌّ: مخاطبةُ النبيِّ صلى الله عليه وسلم هاهنا هي مخاطبةٌ لأُمَّتِهِ، انتهى.
قال * ع *: وروى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قال: «مَنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَا يَتَصَدَّقُ بِهِ، فَليَسْتَغْفِرْ لِلْمُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ» وبَوَّبَ البخاريُّ رحمه اللَّه العِلْمُ قَبْلَ القَوْلِ وَالعَمَلِ؛ لقوله تعالى: {فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله}.
وقوله تعالى: {واستغفر لِذَنبِكَ...} الآية: وواجبٌ على كل مؤمن أنْ يستغفر للمؤمنين والمؤمنات؛ فإنَّها صَدَقَةٌ، وقال الطبريُّ وغيره: {مُتَقَلَّبَكُمْ}: مُتَصَرَّفَكُمْ في يقظتكم {وَمَثْوَاكُمْ} منامكم، وقال ابن عباس: {مُتَقَلَّبَكُمْ} تَصَرُّفُكُمْ في حياتكم الدنيا {وَمَثْوَاكُمْ}: إقامتكم في قبوركم، وفي آخرتكم.
وقوله عز وجل: {وَيَقُولُ الذين ءَامَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ...} الآية: هذا ابتداءُ وَصْفِ حالِ المؤمنينَ؛ على جهة المَدْحِ لهم، ووصفِ حالِ المنافقين؛ على جهة الذَّمِّ؛ وذلك أَنَّ المؤمنين كان حرصهم على الدين يبعثهم على تَمَنِّي ظهور الإسلامِ وتمنِّي قتال العدوِّ، وكانوا يأنسونَ بالوحي، ويستوحشون إذا أبطأ، وكان المنافقون على العكس من ذلك.
وقوله: {مُّحْكَمَةٌ} معناه: لا يقعُ فيها نسخ، وأَمَّا الإحكام الذي هو الإتقان، فالقرآن كلُّه سواءٌ فيه، والمرض الذي في قلوب المنافقين هو فَسَادُ مُعْتَقَدِهِمْ، ونظر الخائف المولَّه قريبٌ من نظر المَغْشِيِّ عليه، وَخَسَّسَهُمْ هذا الوصف والتشبيه.
وقوله تعالى: {فأولى لَهُمْ * طَاعَةٌ} أولى: وزنها أَفْعَلُ، من وَلِيَكَ الشَّيْءُ يَلِيكَ، والمشهورُ من استعمال أولى أَنَّك تقول: هذا أولى بك من هذا، أي: أَحَقُّ، وقد تَسْتَعْمِلُ العرب أولى لكِ فقطْ على جهة الاختصار، لما معها من القول على جهة الزَّجْرِ والتَّوَعُّدِ، فتقول: أولى لَكَ يا فُلاَنُ، وهذه الآية من هذا الباب؛ ومنه قوله تعالى: {أولى لَكَ فأولى} [القيامة: 34] وقالت فرقة: {فأولى} رُفِعَ بالابتداء، و{طَاعَةٌ} خبره، قال * ع *: وهذا هو المشهورُ منِ استعمال أولى، وقيل غير هذا، قال أبو حيَّان: قال صاحب الصِّحَاحِ: {أولى لَكَ}: تهديدٌ ووعيدٌ، قال أبو حَيَّان: والأكثر على أَنَّه اسم مُشْتَقٌّ من الوَلي، وهو القُرْبُ، وقال الجُرْجَانِيُّ: هو مأخوذ من الوَيْلِ، فَقُلِبَ، فوزنه أَفْلَعْ، انتهى.
{فَإِذَا عَزَمَ الأمر}: ناقضوا وعصَوْا، قال البخاريُّ: قال مجاهد: {عَزَمَ الأمر} جَدَّ الأَمْرُ. انتهى.