الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
وقيل: إنما قال: عدوانًا وظلمًا ليخرج منه السهو والغلط، وما كان طريقه الاجتهاد في الأحكام.وأما تقييد قتل الأنفس على تفسير قتل بعضنا بعضًا بقوله: عدوانًا وظلمًا، فإنما ذلك لأنّ القتل يقع كذلك، ويقع خطأ واقتصاصًا.وقيل الإشارة بذلك إلى أقرب مذكور وهو: قتل الأنفس، وهو قول عطاء، واختيار الزمخشري.قال: ذلك إشارة إلى القتل أي: ومن يقدم على قتل الأنفس عدوانًا وظلمًا لا خطأ ولا اقتصاصًا انتهى.ويكون نظير قوله: {ومن يقتل مؤمنًا متعمدًا فجزاؤه جهنم} وذهب الطبري: إلى أنّ ذلك إشارة إلى ما سبق من النهي الذي لم يقترن به وعيد وهو من قوله: {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهًا ولا تعضلوهن} إلى هذا النهي الذي هو ولا تقتلوا أنفسكم، فأما ما قبل ذلك من النهي فقد اقترن به الوعيد.وما ذهب إليه الطبري بعيد جدًا لأن كل جملة قد استقلت بنفسها، ولا يظهر لها تعلق بما بعدها إلا تعلق المناسبة، ولا تعلق اضطرار المعنى.وأبعد من قول الطبري ما ذهب إليه جماعة من أن ذلك إشارة إلى كل ما نهى عنه من القضايا، من أول السورة إلى النهي الذي أعقبه قوله: {ومن يفعل ذلك}.وجوز الماتريدي أن يكون ذلك إشارة إلى أكل المال بالباطل، قال: وذلك يرجع إلى ما سبق من أكل المال بالباطل، أو قتل النفس بغير حق، أو إليهما جميعًا انتهى.فعلى هذا القول يكون في المشار إليه بذلك خمسة أقوال.وانتصاب عدوانًا وظلمًا على المفعول من أجله، وجوزوا أن يكونا مصدرين في موضع الحال، أي: معتدين وظالمين. اهـ.
.قال الفخر: قالت المعتزلة: هذه الآية دالة على القطع بوعيد أهل الصلاة.قالوا: وقوله: {فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا} وإن كان لا يدل على التخليد إلا أن كل من قطع بوعيد الفساق قال: بتخليدهم، فيلزم من ثبوت أحدهما ثبوت الآخر، لأنه لا قائل بالفرق.والجواب عنه بالاستقصاء قد تقدم في مواضع، إلا أن الذي نقوله ههنا: إن هذا مختص بالكفار، لأنه قال: {وَمَن يَفْعَلْ ذلك عدوانا وَظُلْمًا} ولابد من الفرق بين العدوان وبين الظلم دفعا للتكرير، فيحمل الظلم على ما إذا كان قصده التعدي على تكاليف الله، ولا شك أن من كان كذلك كان كافرًا لا يقال: أليس أنه وصفهم بالإيمان فقال: {يا أيها الذين آمنوا} فكيف يمكن أن يقال: المراد بهم الكفار؟ لأنا نقول: مذهبكم أن من دخل تحت هذا الوعيد لا يكون مؤمنا ألبتة، فلابد على هذا المذهب أن تقولوا: أنهم كانوا مؤمنين، ثم لما أتوا بهذه الأفعال ما بقوا على وصف الإيمان، فإذا كان لابد لكم من القول بهذا الكلام.فلم لا يصح هذا الكلام منا أيضا في تقرير ما قلناه؟ والله أعلم. اهـ.قال الفخر:اعلم أن جميع الممكنات بالنسبة إلى قدرة الله على السوية، وحينئذ يمتنع أن يقال: إن بعض الأفعال أيسر عليه من بعض، بل هذا الخطاب نزل على القول المتعارف فيما بيننا كقوله تعالى: {وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} [الروم: 27] أو يكون معناه المبالغة في التهديد، وهو أن أحدًا لا يقدر على الهرب منه ولا على الامتناع عليه. اهـ..قال أبو حيان: {وكان ذلك على الله يسيرًا} ذلك إشارة إلى إصلائه النار، ويسره عليه تعالى سهولته، لأن حجته بالغة وحكمه لا معقب له.وقال الزمخشري: لأن الحكمة تدعو إليه، ولا صارف عنه من ظلم أو نحوه، وفيه دسيسة الاعتزال. اهـ..قال النيسابوري في الآيات السابقة: {يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30)}.{يريد الله ليبين لكم}.أقيمت اللام مقام أن في قولك أريد أن يقوم. وقيل: زيدت اللام وقدر أن وذلك لتأكيد إرادة التبيين كما زيدت في لا أبا لك لتأكيد إضافة الأب. وقيل: في الآية إضمار والأصل يريد الله إنزال هذه الأحكام ليبين لكم دينكم وشرعكم.وما هو خفي عنكم من مصالحكم وأفاضل أعمالكم ويهديكم مناهج من كان قبلكم. قيل: المراد أن كل ما بيّن لنا من التحريم والتحليل في شأن النساء فقد كان الحكم كذلك في جميع الشرائع والملل. وقيل: بل المراد أن الشرائع والتكاليف وإن كانت مختلفة في نفسها إلاّ أنها متفقة في باب المصالح، وقيل: المعنى سنن من كان قبلكم من أهل الحق لتقتدوا بهم ويتوب عليكم. قال القاضي: معناه كما أراد منا نفس الطاعة فلا جرم بينها وأزاح الشبه عنها، كذلك يريد أن يتوب علينا إن وقع تقصير وتفريط. وفي الآية إشعار بأنه تعالى هو الذي يخلق التوبة فينا، فيرد عليه أنه إذا أراد التوبة منا وجب أن تحصل التوبة لكلنا وليس كذلك. وأجيب بأنّ المراد التوبة في باب نكاح الأمهات والبنات وسائر المنهيات المذكورة في هذه الآيات وقد حصلت هذه التوبة، وكذا الكلام في قوله: {والله يريد أن يتوب عليكم} وقالت المعتزلة: يريد أن تفعلوا ما تستوجبون به أن يتوب عليكم {ويريد} الفجرة {الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا} عن الحق والقصد {ميلًا عظيمًا} وقيل: هم اليهود، وقيل: المجوس كانوا يحلون نكاح الأخوات من الأب وبنات الأخ وبنات الأخت، فلما حرمهن الله قالوا: فإنكم تحلّون بنت الخالة والعمة والخالة والعمة حرام عليكم فانكحوا بنات الأخ والأخت فنزلت. يقول: يريدون أن تكونوا زناة مثلهم. {يريد الله أن يخفف عنكم} بإحلال نكاح الأمة وغيره من الرخص. {وخلق الإنسان ضعيفًا} فلضعفه خفف تكليفه ولم يثقل. أما ضعف خلقته بالنسبة إلى كثير من المخلوقات بل الحيوانات فظاهر ولهذا اشتد احتياجه إلى التعاون والتمدن والأغذية والأدوية والمساكن والملابس والذخائر والمعاملات إلى غير ذلك من الضرورات، وأما ضعف عزائمه ودواعيه فأظهر ولهذا لا يصبر على مشاق الطاعات ولا عن الشهوات ولاسيما عن النساء. عن سعيد بن المسيب: ما أيس الشيطان من بني آدم قط إلاّ أتاهم من قبل النساء، لقد أتى عليّ ثمانون سنة وذهبت إحدى عيني وأنا أعشو بالأخرى وإن أخوف ما أخاف علي النساء. عن ابن عباس: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت. {يريد الله ليبين لكم} {ويريد الله أن يتوب عليكم} {يريد الله أن يخفف عنكم}.{إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه} [النساء: 31] {إنّ الله لا يغفر أن يشرك به} [النساء: 48] {إن الله لا يظلم مثقال ذرة} [النساء: 40] {من يعمل سوءًا أو يظلم نفسه} [النساء: 110] {ما يفعل الله بعذابكم} [النساء: 147] اللهم لا تحرمنا مواعيدك إنك لا تخلف الميعاد.ثم إنه لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهر والنفقات بيَّن عقيب ذلك أنه كيف يتصرف في الأموال فقال: {يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} بما لا يبيحه الشرع بوجه وقد مر تفسيره في البقرة في قوله: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} [البقرة: 188] {إلاّ أن تكون تجارة عن تراض منكم} وقد سبق مثله في آخر البقرة. وخص التجارة بالذكر وإن كان غير ذلك من الأموال المستفادة بنحو الهبة والإرث وأخذ الصدقات والمهور وأروش الجنايات حلالًا، لأنّ أكثر أسباب الرزق يتعلق بالتجارة. ويدخل تحت هذا النهي أكل مال الغير بالباطل، وأكل مال نفسه بالباطل كما أن قوله تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه. قال أبو حنيفة: النهي في المعاملات لا يدل على البطلان. وقال الشافعي: يدل لأن الوكيل إذا تصرف على خلاف قول المالك فذلك غير منعقد بالإجماع فالتصرف الواقع على خلاف قول المالك الحقيقي وهو الله سبحانه أولى أن يكون باطلًا. وأي فرق بين قوله: «لا تبيعوا الدرهم بالدرهمين» وبين قوله: «لا تبيعو الحر» وإذا كان الثاني غير منعقد بالاتفاق فكذا الأول. وقال أبو حنيفة: خيار المجلس غير ثابت في عقود المعاوضات المحضة لأن التراضي المذكور في الآية قد حصل. وقال الشافعي: لا شك أن هذا التراضي يقتضي الحل إلاّ أنا نثبت بعد ذلك للمتبايعين الخيار بقوله صلى الله عليه وسلم: «المتبايعان كل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا» {ولا تقتلوا أنفسكم} من كان من جنسكم من المؤمنين لأنّ المؤمنين كنفس واحدة، أو لا يقتل الرجل نفسه كما يفعله بعض الجهلة حينما يعرضه غم أو خوف أو مرض شديد يرى قتل نفسه أسهل عليه. عن الحسن البصري قال: حدثنا جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كان رجل جرح فقتل نفسه فقال الله: بدرني عبدي بنفسه فحرمت عليه الجنة».وعن أبي هريرة قال: شهدنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر فقال لرجل ممن يدعي الإسلام: هذا من أهل النار. فلما حضر القتال قاتل الرجل قتالًا شديدًا فأصابته جراح. فقيل له: يا رسول الله الذي قلت له آنفًا إنه من أهل النار فإنه قاتل اليوم قتالًا شديدًا وقد مات. فقال النبي صلى الله عليه وسلم إلى النار. فكاد بعض المسلمين أن يرتاب. فبيناهم على ذلك إذ قيل له: إنه لم يمت ولكن به جراحات شديدة، فلما كان من الليل لم يصبر على الجراح فقتل نفسه فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الله أكبر أشهد أني عبد الله ورسوله.وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تردّى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيها خالدًا مخلدًا فيها أبدًا. ومن تحسى سمًا فقتل نفسه فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا. ومن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يتوجأ بها في بطنه في نار جهنم خالدًا مخلدًا فيها أبدًا» وعن عمرو بن العاص قال: احتلمت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فتيممت ثم صلّيت بأصحابي الصبح فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا عمرو صلّيت بأصحابك وأنت جنب؟ فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال وقلت: إني سمعت الله تعالى يقول: {ولا تقتلوا أنفسكم} فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا. وقيل: معنى الآية لا تفعلوا ما تستحقون به القتل من القتل والردة والزنا بعد الإحصان {إنّ الله كان بكم رحيمًا} ولأجل رحمته نهاكم عما يضركم عاجلًا وآجلًا. وقيل من رحمته أنه لم يأمركم بقتل أنفسكم كما أمر بني إسرائيل بذلك توبة لهم وتمحيصًا لخطاياهم. {ومن يفعل ذلك} القتل {عدوانًا وظلمًا} لا خطأ ولا قصاصًا. هذا قول عطاء. وقال الزجاج: ذلك إشارة إلى القتل والأكل بالباطل. وعن ابن عباس أنه عائد إلى كل ما نهى الله تعالى عنه من أول السورة. وتنكير النار للتعظيم أو للنوع. {وكان ذلك على الله يسيرًا} مثل على وفق المتعارف كقوله: {وهو أهون عليه} [الروم: 27] وإلاّ فلا مانع له عن حكمه ولا منازع له في ملكه. اهـ..من لطائف وفوائد المفسرين: .من فوائد الألوسي في الآيتين: قال رحمه الله:{يَا أَيُّهَا الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} بيان لبعض المحرمات المتعلقة بالأموال والأنفس إثر بيان تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة، وفيه إشارة إلى كمال العناية بالحكم المذكور، والمراد من الأكل سائر التصرفات، وعبر به لأنه معظم المنافع، والمعنى لا يأكل بعضكم أموال بعض، والمراد بالباطل ما يخالف الشرع كالربا والقمار والبخس والظلم قاله السدي وهو المروي عن الباقر رضي الله تعالى عنه، وعن الحسن هو ما كان بغير استحقاق من طريق الأعواض.
|