الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
ولما نهى عن الأكل بالباطل، استدرك ما ليس كذلك فقال: {إلا أن تكون} أي المعاملة المدارة المتداولة بينكم {تجارة} هذا في قراءة الكوفيين بالنصب، وعلى قراءة غيرهم: إلا أن توجد تجارة كائنة {عن تراض منكم} أي غير منهي عنه من الشارع، ولعل الإتيان بأداة الاستثناء المتصل- والمعنى على المنقطع- للإشارة إلى أن تصرفات الدنيا كلها جديرة بأن يجري عليها اسم الباطل ولو لم يكن إلا معنيًا بها تزهيدًا فيها وصدًّا عن الاستكثار منها، وترغيبًا فيما يدوم نفعه ببقائه، وهكذا كل استثناء منقطع في القرآن، من تأمله حق التأمل وجد للعدول عن الحرف الموضوع له- وهو لكن- إلى صورة الاستثناء حكمة بالغة- والله الموفق.ولما كان المال عديل الروح ونهى عن إتلافه بالباطل، نهى عن إتلاف النفس، لكون أكثر إتلافهم لها بالغارات لنهب الأموال وما كان بسببها وتسبيبها على أن من أكل ماله ثارت نفسه فأدى ذلك إلى الفتن التي ربما كان آخرها القتل، فكان النهي عن ذلك أنسب شيء لما بنيت عليه السورة من التعاطف والتواصل فقال تعالى: {ولا تقتلوا أنفسكم} أي حقيقة بأن يباشر الإنسان قتل نفسه، أو مجازًا بأن يقتل بعضكم بعضًا، فإن الأنفس واحدة، وذلك أيضًا يؤدي إلى قتل نفس القاتل، فلا تغفلوا عن حظ أنفسكم من الشكر فمن غفل عن حظها فكأنما مثلها، ثم علله بما يلين أقسى الناس فقال: {إن الله} أي مع ما له من صفات العظمة التي لا تدانيها عظمة {كان بكم} أي خاصة حيث خفف عليكم ما شدده على من كان قبلكم {رحيمًا} أي بليغ الرحمة حيث يسر لكم الطاعة ووفقكم لها فأبلغ سبحانه الترغيب في الامتثال؛ ثم قال ترهيبًا من مواقعة الضلال: {ومن يفعل ذلك} أي المنهي عنه من القتل وغيره العظيم الإبعاد عن حضرات الإله {عدوانًا وظلمًا} أي بغير حق، وعطفه للوصف بالواو يدل على تناهي كل منهما، هذا مع ما أفهمه صفة الفعلان من المبالغة، فكان المراد العدو الشديد المفرط المتجاوز للحدود الناشيء عن العهد وتناهي الظلم الذي لا شائبة فيه للحق {فسوف نصليه نارًا} أي ندخله إياها بوعيد لا خلف فيه وإن طال إمهاله {وكان ذلك} أي الأمر العظيم الذي توعد به {على الله} أي الذي له الجلال والجمال {يسيرًا} أي لأنه لا ينقصه من مكله شيئًا، ولا يمنع منه مانع. اهـ.
.قال الفخر: اعلم أن في كيفية النظم وجهين:الأول: أنه تعالى لما شرح كيفية التصرف في النفوس بسبب النكاح ذكر بعده كيفية التصرف في الأموال.والثاني: قال القاضي: لما ذكر ابتغاء النكاح بالأموال وأمر بإيفاء المهور والنفقات، بين من بعد كيف التصرف في الأموال فقال: {يا أيها الذين ءامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل}. اهـ..من أقوال المفسرين: .قال القرطبي: قوله تعالى: {بالباطل} أي بغير حق.ووجوه ذلك تكثر على ما بيناه؛ وقد قدّمنا معناه في البقرة.ومِن أكل المال بالباطل بَيْعُ العُربَان؛ وهو أن يأخذ منك السلعة أو يكتَري منك الدابة ويعطيك درهمًا فما فوقه، على أنه إن اشتراها أو ركب الدابة فهو من ثمن السلعة أو كِراء الدابة؛ وإن ترك ابتياع السلعة أو كِراء الدابة فما أعطاك فهو لك.فهذا لا يصلح ولا يجوز عند جماعة فقهاء الأمصار من الحجازيين والعراقيين، لأنه من باب بيع القِمار والغَرَر والمخاطرة، وأكلِ المال بالباطل بغير عِوض ولا هبة، وذلك باطل بإجماع.وبيع العُرْبان مفسوخ إذا وقع على هذا الوجه قبل القبض وبعده، وتردّ السلعة إن كانت قائمة، فإن فاتت ردّ قيمتها يوم قبضها.وقد رُوي عن قوم منهم ابن سِيرين ومجاهد ونافع بن عبد الحارث وزيد بن أسلم أنهم أجازوا بيع العربان على ما وصفنا.وكان زيد بن أسلم يقول: أجازه رسول الله صلى الله عليه وسلم.قال أبو عمر: هذا لا يُعرف عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من وجه يصحّ، وإنما ذكره عبد الرزاق عن الأسلمي عن زيد بن أسلم مُرْسَلًا؛ وهذا ومثله ليس حجة.ويحتمل أن يكون بيع العربان الجائز على ما تأوّله مالك والفقهاء معه؛ وذلك أن يُعَرْبِنه ثم يحسب عُرْبانه من الثمن إذا اختار تمام البيع.وهذا لا خلاف في جوازه عن مالك وغيره؛ وفي موطّأ مالك عن الثقة عنده عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: نهى عن بيع العربان قال أبو عمر: قد تكلم الناس في الثقة عنده في هذا الموضع، وأشبه ما قيل فيه: أنه أخذه عن ابن لَهِيعة أو عن ابن وهب عن ابن لهيعة؛ لأن ابن لَهِيعة سمعه من عمرو بن شعيب ورواه عنه.حدّث به عن ابن لهيعة ابن وهب وغيره، وابن لهيعة أحد العلماء إلا أنه يقال: إنه احترقت كتبه فكان إذا حدّث بعد ذلك من حفظه غَلِط.وما رواه عنه ابن المبارك وابن وهب فهو عند بعضهم صحيح.ومنهم من يضعّفَ حديثه كلّه، وكان عنده علم واسع وكان كثير الحديث، إلا أن حاله عندهم كما وصفنا. اهـ..قال الفخر: إنه تعالى خص الأكل هاهنا بالذكر وإن كانت سائر التصرفات الواقعة على الوجه الباطل محرمة، لما أن المقصود الأعظم من الأموال: الأكل، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْمًا} [النساء: 10]. اهـ..قال القرطبي: قوله تعالى: {تِجَارَةً} التجارة في اللغة عبارة عن المعاوضة؛ ومنه الأجر الذي يعطيه البارئ سبحانه العبد عِوضًا عن الأعمال الصالحة التي هي بعض مِن فعله؛ قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على تِجَارَةٍ تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} [الصف: 10].وقال تعالى: {يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ} [فاطر: 29].وقال تعالى: {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} [التوبة: 111] الآية.فسمى ذلك كله بيعًا وشراء على وجه المجاز، تشبيهًا بعقود الأشِرية والبِياعات التي تحصل بها الأغراض، وهي نوعان: تقلُّب في الحضر من غير نُقلة ولا سفر، وهذا تربُّص واحتكار قد رغِب عنه أولو الأقدار، وزهِد فيه ذوو الأخطار.والثاني تقلّب المال بالأسفار ونقله إلى الأمصار، فهذا أليق بأهل المروءة، وأعمّ جدوى ومنفعة، غير أنه أكثر خطرًا وأعظم غررًا.وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن المسافر وماله لعلَى قَلَتٍ إلاّ مَا وَقَى الله» يعني على خطر.وقيل: في التوراة يابن آدم، أحدِث سفرًا أحدِث لك رزقًا. اهـ..قال الفخر: ذكروا في تفسير الباطل وجهين:الأول: أنه اسم لكل ما لا يحل في الشرع، كالربا والغصب والسرقة والخيانة وشهادة الزور وأخذ المال باليمين الكاذبة وجحد الحق.وعندي أن حمل الآية على هذا الوجه يقتضي كونها مجملة، لأنه يصير تقدير الآية: لا تأكلوا أموالكم التي جعلتموها بينكم بطريق غير مشروع، فإن الطرق المشروعة لما لم تكن مذكورة هاهنا على التفصيل صارت الآية مجملة لا محالة.والثاني: ما روي عن ابن عباس والحسن رضي الله عنهم: أن الباطل هو كل ما يؤخذ من الإنسان بغير عوض، وبهذا التقدير لا تكون الآية مجملة، لكن قال بعضهم: إنها منسوخة، قالوا: لما نزلت هذه الآية تحرج الناس من أن يأكلوا عند أحد شيئا، وشق ذلك على الخلق، فنسخه الله تعالى بقوله في سورة النور: {لَّيْسَ عَلَى الاعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الاعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] الآية.وأيضا: ظاهر الآية إذا فسرنا الباطل بما ذكرناه، تحرم الصدقات والهبات، ويمكن أن يقال: هذا ليس بنسخ وإنما هو تخصيص، ولهذا روى الشعبي عن علقمة عن ابن مسعود أنه قال: هذه الآية محكمة ما نسخت، ولا تنسخ إلى يوم القيامة. اهـ..قال القرطبي: اعلم أن كلّ معاوضة تجارةٌ على أيّ وجه كان العِوَض، إلا أن قوله: {بالباطل} أخرج منها كل عوضٍ لا يجوز شرعًا من رِبًا أو جهالة أو تقدير عِوَض فاسد كالخمر والخنزير وغير ذلك.وخرج منها أيضًا كلّ عقد جائز لا عِوَض فيه؛ كالقرض والصدقة والهبة لا للثواب.وجازت عقود التبرّعات بأدلة أُخرى مذكورةٍ في مواضعها.فهذان طرفان متفّق عليهما.وخرج منها أيضًا دعاء أخِيك إياك إلى طعامه.روى أبو داود عن ابن عباس في قوله تعالى: {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ} فكان الرجل يَحْرَج أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية؛ فنسخ ذلك بالآية الأُخرى التي في النور؛ فقال: {لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ وَلاَ عَلَى الأعرج حَرَجٌ وَلاَ عَلَى المريض حَرَجٌ وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ} [النور: 61] إلى قوله: {أَشْتَاتًا} [النور: 99]؛ فكان الرجل الغنيّ يدعو الرجلَ من أهله إلى طعامه فيقول: إنّي لأجْنَح أن آكل منه والتجَنُّح الحَرَج ويقول: المسكين أحقّ به مِنّي.فأحلّ في ذلك أن يأكلوا مما ذكر اسم الله عليه، وأحلّ طعام أهل الكتاب. اهـ..قال الفخر: قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل} يدخل تحته أكل مال الغير بالباطل، وأكل مال نفسه بالباطل؛ لأن قوله: {أموالكم} يدخل فيه القسمان معا، كقوله: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ} يدل على النهي عن قتل غيره وعن قتل نفسه بالباطل.أما أكل مال نفسه بالباطل.فهو إنفاقه في معاصي الله، وأما أكل مال غيره بالباطل فقد عددناه. اهـ..قال القرطبي: لو اشتريت من السوق شيئًا؛ فقال لك صاحبه قبل الشراء: ذقْه وأنت في حل؛ فلا تأكل منه؛ لأن إذنه بالأكل لأجل الشراء؛ فرُبّما لا يقع بينكما شراء فيكون ذلك الأكل شبهة، ولكن لو وصف لك صفة فاشتريته فلم تجده على تلك الصفة فأنت بالخيار.والجمهور على جواز الغَبْن في التجارة؛ مثل أن يبيع رجل ياقوتة بدرهم وهي تساوي مائة فذلك جائز، وأن المالك الصحيح الملك جائز له أن يبيع ماله الكثير بالتافه اليسير، وهذا ما لا اختلاف فيه بين العلماء إذا عرف قدر ذلك كما تجوز الهبة لو وهب.واختلفوا فيه إذا لم يعرِف قدر ذلك؛ فقال قوم: عرف قدر ذلك أو لم يعرِف فهو جائز إذا كان رشيدًا حُرًّا بالغًا.وقالت فرقة: الغَبْن إذا تجاوز الثلث مردود، وإنما أُبيح منه المتقاربُ المتعارَف في التجارات، وأما المتفاحش الفادح فلا؛ وقاله ابن وهب من أصحاب مالك رحمه الله والأوّل أصح؛ لقوله عليه السلام في حديث الأَمَة الزانية: «فلْيبعها ولو بضفِير» وقوله عليه السلام لعمر: «لا تبتعه يعني الفرس ولو أعطاكه بدرهم واحد» وقوله عليه السلام: «دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض» وقوله عليه السلام: «لا يَبِعْ حاضرٌ لِبادٍ» وليس فيها تفصيل بين القليل والكثير من ثلث ولا غيره. اهـ. بتصرف يسير.
|