الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
المسألة الثانية:قَوْله تَعَالَى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ} فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ كَانَ مَعَهُ يَخْدُمُهُ.وَالثَّانِي: أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ وَهُوَ يُوشَعُ بْنُ نُونِ بْنِ أَفْرَائِيمَ بْنِ يُوسُفَ بْنِ يَعْقُوبَ.وَإِنَّمَا سَمَّاهُ فَتَاهُ؛ لِأَنَّهُ قَامَ مَقَامَ الْفَتَى، وَهُوَ الْعَبْدُ؛ قال تعالى: {وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ} وَقَالَ: {تُرَاوِدُ فَتَاهَا} وَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ عَبْدِي وَأَمَتِي، وَلْيَقُلْ فَتَايَ وَفَتَاتِي».فَظَاهِرُ الْقُرْآنِ يَقْتَضِي أَنَّهُ عَبْدٌ. وَفِي الْحَدِيثِ أَنَّهُ كَانَ يُوشَعُ بْنُ نُونٍ. وَفِي التَّفْسِيرِ أَنَّهُ ابْنُ أُخْتِهِ.وَهَذَا كُلُّهُ مَا لَا يُقْطَعُ بِهِ، فَالْوَقْفُ فِيهِ أَسْلَمُ.المسألة الثالثة:فِيهِ الرِّحْلَةُ فِي طَلَبِ الْعِلْمِ الَّذِي لَيْسَ بِفَرْضٍ، وَقَدْ رَحَلَتْ الصَّحَابَةُ فِيهِ وَأُذِنَ لَهُمْ فِي التَّرَحُّلِ فِي طَلَبِ الدُّنْيَا فَضْلًا عَنْ الدِّينِ، وَقَدْ بَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةُ مِنْ الْآيَةِ الثَّامِنَةِ:{فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا}.جَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى النِّسْيَانَ سَبَبًا لِلزِّيَادَةِ عَلَى مِقْدَارِ الْحَاجَةِ فِي الْمَسِيرِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ كَانَ كَتَبَ لَهُ لِقَاءَهُ، وَكَتَبَ الزِّيَادَةَ فِي السَّيْرِ عَلَى مَوْضِعِ اللِّقَاءِ، فَنَفَذَ الْكُلُّ؛ وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ النِّسْيَانِ عَلَى الْأَنْبِيَاءِ، وَكَذَلِكَ عَلَى الْخَلْقِ فِي مَعَانِي الدِّينِ، وَهُوَ عَفْوٌ عِنْدَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ، كَمَا تَقَدَّمَ.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةُ مِنْ الْآيَةِ التَّاسِعَةِ:قَوْله تَعَالَى: {قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا} بَيَّنَ ذَلِكَ جَوَازَ الِاسْتِخْدَامِ لِلْأَصْحَابِ أَوْ الْعَبِيدِ فِي أُمُورِ الْمَعَاشِ وَحَاجَةِ الْمَنَافِعِ، لِفَضْلِ الْمَنْزِلَةِ، أَوْ لِحَقِّ السَّيِّدِيَّةِ.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةُ مِنْ الْآيَةِ الْعَاشِرَةِ:قَوْله تَعَالَى: {وَمَا أَنْسَانِيهِ إلَّا الشَّيْطَانُ}: نَسِيَهُ يُوشَعُ، وَنَسِيَهُ أَيْضًا مُوسَى، وَنِسْبَةُ الْفَتَى نِسْيَانَهُ إلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ مُتَمَكِّنٌ مِنْهُ.وَلَا يُنْسَبُ نِسْيَانُ الْأَنْبِيَاءِ إلَى الشَّيْطَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَكَّنُ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا نِسْيَانُهُمْ أُسْوَةٌ لِلْخَلْقِ وَسُنَّةٌ فِيهِمْ.المسألة السابعة:قَوْله تَعَالَى: {وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا} قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فَصَارَ الْمَاءُ عَلَى الْحُوتِ مِثْلَ الطَّاقِ، لِيَكُونَ ذَلِكَ عَلَامَةً لِمُوسَى، وَلَوْلَاهُ مَا عَلِمَ أَيْنَ فَقَدَ الْحُوتَ، وَلَا وَجَدَ إلَى لِقَاءِ الْمَطْلُوبِ سَبِيلًا.الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ مِنْ الْآيَةِ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:قَوْله تَعَالَى: {هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ}: وَهُوَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمُتَعَلِّمَ تَبَعٌ لِلْعَالِمِ، وَلَوْ تَفَاوَتَتْ الْمَرَاتِبُ.الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةُ مِنْ الْآيَةِ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:قَوْله تَعَالَى: {إنَّك لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِي صَبْرًا}.حَكَمَ عَلَيْهِ بِعَادَةِ الْخَلْقِ فِي عَدَمِ الصَّبْرِ عَمَّا يَخْرُجُ مِنْ الِاعْتِيَادِ، وَهُوَ أَصْلٌ فِي الْحُكْمِ بِالْعَادَةِ.الْمَسْأَلَةُ الْعَاشِرَةُ مِنْ الْآيَةِ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ: قَوْله تَعَالَى: {سَتَجِدُنِي إنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَك أَمْرًا}.قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ: اسْتَثْنَى فِي التَّصَبُّرِ، وَلَمْ يَسْتَثْنِ فِي امْتِثَالِ الْأَمْرِ، فَلَا جَرَمَ وَجَّهَ مَا اسْتَثْنَى فِيهِ، فَكَانَ إذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرِقَ السَّفِينَةَ أَوْ يَقْتُلَ الْغُلَامَ لَمْ يَقْبِضْ يَدَهُ، وَلَا نَازَعَهُ، وَخَالَفَهُ فِي الْأَمْرِ، فَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ، وَسَأَلَهُ.الْمَسْأَلَةُ الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:قَوْله تَعَالَى: {لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ}.ذَكَرَ أَنَّ النِّسْيَانَ لَا يَقْتَضِي الْمُؤَاخَذَةَ؛ وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّكْلِيفِ، وَلَا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ فِي طَلَاقٍ وَلَا غَيْرِهِ.الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ:قَوْله تَعَالَى: {إنْ سَأَلْتُك عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي}.فَهَذَا شَرْطٌ، وَهُوَ لَازِمٌ، وَالْمُسْلِمُونَ عِنْدَ شُرُوطِهِمْ، وَأَحَقُّ الشُّرُوطِ أَنْ يُوَفَّى بِهِ مَا الْتَزَمَهُ الْأَنْبِيَاءُ، أَوْ اُلْتُزِمَ لِلْأَنْبِيَاءِ، فَهَذَا أَصْلٌ مِنْ الْقَوْلِ بِالشُّرُوطِ وَارْتِبَاطِ الْأَحْكَامِ بِهَا، وَهُوَ يُسْتَدَلُّ بِهِ فِي الْأَيْمَانِ وَغَيْرِهَا.الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:قَوْله تَعَالَى: {قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا} هَذَا يَدُلُّ عَلَى قِيَامِ الِاعْتِذَارِ بِالْمَرَّةِ الْوَاحِدَةِ مُطْلَقًا، وَبِقِيَامِ الْحُجَّةِ مِنْ الْمَرَّةِ الثَّانِيَةِ بِالْقَطْعِ.الْمَسْأَلَةُ الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:صَبَرَ مُوسَى عَلَى قَتْلِ مَنْ لَا يَسْتَحِقُّ عِنْدَهُ الْقَتْلَ، وَلَمْ يَغْتَرَّ لَمَّا كَانَ أَعْلَمَهُ مِنْ أَنَّ عِنْدَهُ عِلْمًا لَيْسَ عِنْدَهُ، وَلَوْلَا ذَلِكَ مَا صَبَرَ عَلَى حَالٍ ظَاهِرُهَا الْمُحَالُ، وَكَانَ هُوَ أَعْلَمُ بِبَاطِنِهَا فِي الْمَآلِ.الْمَسْأَلَةُ الْخَامِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ:قَوْله تَعَالَى: {فَانْطَلَقَا حَتَّى إذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا}.وَصَلَا إلَى الْقَرْيَةِ مُحْتَاجَيْنِ إلَى الطَّعَامِ، فَعَرَضُوا أَنْفُسَهُمْ عَلَيْهِمْ، وَكَانُوا ثَلَاثَةً، فَأَبَوْا عَنْ قَبُولِ ذَلِكَ مِنْهُمْ، وَهَذَا سُؤَالٌ، وَهُوَ عَلَى مَرَاتِبَ فِي الشَّرْعِ، وَمَنَازِلَ بَيَّنَّاهَا فِي كِتَابِ شَرْحِ الصَّحِيحَيْنِ.وَهَذَا السُّؤَالُ مِنْ تِلْكَ الْأَقْسَامِ هُوَ سُؤَالُ الضِّيَافَةِ، وَهِيَ فَرْضٌ أَوْ سُنَّةٌ كَمَا بَيَّنَّاهُ هُنَالِكَ، وَسُؤَالُهَا جَائِزٌ، فَقَدْ تَقَدَّمَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ أَنَّهُمْ نَزَلُوا بِقَوْمٍ فَاسْتَضَافُوهُمْ، فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمْ، فَلُدِغَ سَيِّدُهُمْ، فَسَأَلُوهُمْ: هَلْ مِنْ رَاقٍ، فَجَعَلُوهُمْ عَلَى قَطِيعٍ مِنْ الْغَنَمِ. الْحَدِيثَ إلَى آخِرِهِ.وَذَكَرُوا ذَلِكَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَجَوَّزَ الْكُلَّ، وَقَدْ كَانَ مُوسَى حِينَ سَقَى لِبِنْتَيْ شُعَيْبٍ أَجْوَعَ مِنْهُ حِينَ أَتَى الْقَرْيَةَ مَعَ الْخَضِرِ، وَلَمْ يَسْأَلْ قُوتًا؛ بَلْ سَقَى ابْتِدَاءً، وَفِي الْقَرْيَةِ سَأَلَا الْقُوتَ، وَفِي ذَلِكَ لِلْعُلَمَاءِ انْفِصَالَاتٌ كَثِيرَةٌ، مِنْهَا أَنَّ مُوسَى كَانَ فِي حَدِيثِ مَدْيَنَ مُنْفَرِدًا، وَفِي قِصَّةِ الْقَرْيَةِ تَبَعًا لِغَيْرِهِ.وَقِيلَ: كَانَ هَذَا سَفَرَ تَأْدِيبٍ فَوُكِلَ إلَى تَكْلِيفِ الْمَشَقَّةِ، وَكَانَ ذَلِكَ سَفَرَ هِجْرَةٍ فَوُكِلَ إلَى الْعَوْنِ وَالْقُوَّةِ.الْمَسْأَلَةُ السَّادِسَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ:قَوْله تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْت أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا}.فَاسْتَدَلَّ بِهِ مَنْ قَالَ: إنَّ الْمِسْكِينَ هُوَ الَّذِي لَيْسَ لَهُ شَيْءٌ، وَفَرَّ مِنْ ذَلِكَ قَوْمٌ حَتَّى قَرَءُوهَا لِمَسَّاكِينَ بِتَشْدِيدِ السِّينِ مِنْ الِاسْتِمْسَاكِ، وَهَذَا لَا حَاجَةَ إلَيْهِ؛ فَإِنَّهُ إنَّمَا نَسَبَهُمْ إلَى الْمَسْكَنَةِ لِأَجْلِ ضَعْفِ الْقُوَّةِ، بَلْ عَدَمِهَا فِي الْبَحْرِ، وَافْتِقَارِ الْعَبْدِ إلَى الْمَوْلَى كَسْبًا وَخَلْقًا.وَمَنْ أَرَادَ أَنْ يَعْلَمَ يَقِينًا أَنَّ الْحَوْلَ وَالْقُوَّةَ لِلَّهِ فَلْيَرْكَبْ الْبَحْرَ.الْمَسْأَلَةُ السَّابِعَةَ عَشْرَةَ مِنْ الْآيَةِ الثَّامِنَةَ عَشْرَةَ:قَوْله تَعَالَى: {وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّك أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}. اهـ.
.التفسير الإشاري: قال نظام الدين النيسابوري:التأويل: {وإذ قال موسى لفتاه} فيه أن المسافر لابد له في الطريق من الرفيق، وفيه أن من شرطهما أن يكون أحدهما أميرًا والآخر مأمورًا، وأن يعلم الرفيق عزيمته ومقصده حتى يكون على بصيرة من صحبته، وأن لا يسأم من متاعب السفر حتى يظفر بمقصوده، وأن تكون نيته طلب شيخ يقتدي به فإن طلب الشيخ في الحقيقة هو طلب الحق. ومجمع البحرين هو مجمع ولاية الشيخ وولاية المريد وعنده عين الحياة الحقيقية، فإذا وقعت قطرة منها على حوت قلب المريد حيي واتخذ سبيله في بحر الولاية سربا. {فلما جاوزا} فيه إشارة إلى أن المريد في أثناء السلوك لو تطرقت إليه الملالة أصاب قلبه الكلالة وسولت له نفسه التجاوز عن صحبة الشيخ ظانًا أن مقصوده يحصل من غير وساطة الشيخ. هيهات فإنه ظن فاسد ومتاع كاسد إلا إن أدركته العناية الأزلية ورد إليه صدق الإرادة فيقول: الرفيق التوفيق. {آتنا غداءنا} وهو همة الشيخ وبركة صحبته {لقد لقينا في سفرنا هذا} الذي جاوزنا صحبة الشيخ {نصبًا} فقال رفيقه {أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة} صخرة النفس وتسويلها {فإني نسيت} حوت القلب {قال ذلك ما كنا نبغي} من حوت القلب الميت المملح بملح حب الدنيا وزينتها أن يتخذ سبيله في بحر ولاية شيخ كامل {فوجدا عبدًا من عبادنا} حرًا من رق غيرنا. وفي قوله: {وعلمناه من لدنّا علمًا} إشارة إلى أنه تعالى أطلعه على بواطن الأشياء وحقائقها، وهذا النوع من العلم لا يمكن تعلمه وإنما يحصل بتصفية النفس وتجريد القلب عن العلائق الجسمانية، وقد ذهب موسى إلى تعلم العلم فكان من الواجب على الخضر أن يظهر له علمًا يمكن تعلمه، فبين علم الخضر وبين مقصد موسى تباين وتنافٍ فلهذا قال الخضر: {إنك لن تستطيع معي صبرًا} وفي إظهار المسائل الثلاثة إشارة إلى ما قلنا من أن العلم الظاهر يباين العلم اللدني وليس من التعليم والتعلم في شيء، وإذا تأمل العاقل السالك في قول موسى: {هل أتبعك} إلخ في قول الخضر. {فإن اتبعتني فلا تسألني} إلخ. وجد أصول الشرائط التي شرطها الصوفية للمريد وللشيخ مودعة فيها، وفي تفصيلها طول وقد أشرنا في التفسير إلى طرف منها، ومن أراد الكل فعليه بمطالعة كتاب آداب المريدين للشيخ المحقق أبي النجيب السهروردي تغمده الله بغفرانه {حتى إذا ركبا في السفينة} هي سفينة الشريعة {خرقها} بهدم الناموس في الظاهر مع صلاح الحال في الباطن وفيما بينه وبين علام الغيوب، ومثل هذا قد يفعله كثير من المحققين طردًا للعوام وحذرًا من التباهي والعجب {أخرقتها لتغرق أهلها} في أودية الضلال إذا اقتدوا بك {حتى إذا لقيا غلامًا} هو النفس الأمارة {فقتله} بسكين الرياضة وسيف المجاهدة {حتى إذا أتيا أهل قرية} هي الجسد وهم القوى الإنسانية من الحواس وغيرها {استطعما أهلها} بطلب أفاعليها التي تختص بها {فأبوا أن يضيفوهما} بإعطاء خواصها كما ينبغي لكلالها وضعفها {فوجدا فيها جدارًا} هو التعلق الحائل بين النفس الناطقة وبين عالم المجردات {يريد أن ينقض} بقطع العلاقة {فأقامه} بتقوية البدن والرفق بالقوى والحواس كما قيل: نفسك مطيتك فارفق بها.{لو شئت لاتخذت عليه أجرًا} ثوابًا جزيلًا أي لو شئت لصبرت على شدة الرياضة إلى إفاضة الأنوار ونيل الكشوف. {أما السفينة فكانت لمساكين} هم العوام الذين {يعملون في} بحر الدنيا وليس لهم في بر عالم الربوبية سير وسلوك حتى يصلوا إلى ملوك تحت أطمار {فأردت أن أعيبها} في الظاهر لتسلطهم بالإخلاص في البواطن {وكان وراءهم ملك} هو الشيطان {يأخذ كل سفينة} عبادة {غصبًا} لأن كل عبادة تخلو عن الانكسار والذل والخشوع فإنها للشيطان لا للرحمن {وأما الغلام فكان أبواه} وهما القلب والروح {مؤمنين فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرًا منه زكاة} هو النفس المطمئنة {وأقرب رحمًا} أي نسبة إلى الأبوين. {وأما الجدار فكان لغلامين يتيمين} هما النفس المطمئنة والملهمة {وكان تحته كنز لهما} هو حصول الكمالات النظرية والعملية {وكان أبوهما} وهو العقل المفارق {صالحًا} كاملًا بالفعل فلهذا ادخر لأجلهما ما ادخر {فأراد ربك أن يبلغا أشدّهما} بتربية الشيخ وإرشاده على سبيل الرفق والمداراة {ويستخرجا} ما كان كامنًا فيهما. اهـ..تفسير الآيات (83- 92): قوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84) فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92)}..مناسبة الآيات لما قبلها: قال البقاعي:ولما فرغ من هذه القصة التي حاصلها أنها طواف في الأرض لطلب العلم، عقبها بقصة من طاف الأرض لطلب الجهاد، وقدم الأولى إشارة إلى علو درجة العلم لأنه أساس كل سعادة، وقوام كل أمر، فقال عاطفًا على {ويجادل الذين كفروا بالباطل} [الكهف: 56] {ويسألونك عن} الرجل الصالح المجاهد {ذي القرنين} سمي لشجاعته أو لبلوغه قرني مغرب الشمس ومشرقها، أو لانقراض قرنين من الناس في زمانه، أو لأنه كان له ضفيرتان من الشعر أو لتاجه قرنان، وهو الإسكندر الأول- نقل ابن كثير عن الأزرقي أنه كان على زمن الخليل عليه السلام، وطاف معه بالبيت، ومن المناسبات الصورية أن في قصة كل منهما ثلاثة أشياء آخرها بناء جدار لا سقف له، وإنما هو لأجل حفظ ما يهتم به خوف المفسد، وصدّرها بالإخبار عن سؤالهم إشارة إلى أنهم لم يسألوا عن التي قبلها على ما فيها من العجائب واللطائف، والأسرار والمعارف، تبكيتًا لليهود في إغفال الأمر بالسؤال عنها إن كان مقصودهم الحق، وإن لم يكن مقصودًا لهم كانوا بالتبكيت أجدر، أو تكون معطوفة على مسألتهم الأولى وهي الروح، وصدرها بالإخبار بالسؤال تنبيهًا على ذلك لطول الفصل، إشارة إلى أن ذلك كله مرتبط بجوابهم ارتباط الدر بالسلك.
|