الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: المواعظ (نسخة منقحة)
.الفصل الثالث عشر: عليك بحب الله: يا هذا: عليك بإدمان الذكر، لعل ذكرك القليل ينمي ذكره الجليل {ولذكر الله أكبر}، أنا جليس من ذكرني. لا تعجز عن حفر ساقية وإن ربت، فإنك إذ ألحقتها بساحل البحر فاض من ماء البحر إليها فصارت دجلة، أخلص في ذكرك لعله يذكرك. روى البخاري ومسلم في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يسير في طريق مكة فمر على جبل يقال له: حمدان، فقال صلى الله عليه وسلم: «سيروا سبق المفردون، قالوا: وما المفردون يا رسول الله؟ قال: الذاكرون لله كثيراً والذاكرات». روى أبو الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يقول: «أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه». وقال أبو الدرداء: الذين ألسنتهم رطبة بذكر الله تعالى يدخل أحدهم الجنة وهو يضحك. يا هذا: من علامات المحب انزعاجه عند ذكر محبوبه. لو أحببت شخصاً من أهل الدنيا فسمعت باسمه لانزعج باطنك، أما سمعت أن مجنوناً أحب مخلوقاً فلما ذكر انزعج، فقال: وهذا ذكر الله يتلى عليك وما تتغير، وكم تسمع من أوامره ونواهيه ولا تتدبر، وقد يسره الكريم على من اجتهد فيه، وما عسر، وكم من نظر فيه حقيقة النظر وتبصر، وعمل ما أمره وترك ما نهى عنه في العمل والقول وتحرر، وكلما نظر في عمله رأى أنه مقصر فيه تفكر، لا يلتذ بطعام ولا شراب ولا نوم إلا ذكر وتذكر، أما سمعت قوله في الكتاب العزيز مسطراً إخباراً عنهم في ذكرهم له قولاً بليغاً مفسر: {إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم} {والصابرين على ما أصابهم} فشكرهم على ذلك وستر، بأنه راض عنهم يوم تشقق السماء وتتفطر: {ينبأ الإنسان يومئذ بما قدم وأخر} ويبقى العاصي نادماً على تفريطه محسر، مثقل بحمل خطاياه وفي ذيل ذنوبه معثر، فإذا دعى لقراءة كتابه رأى ما فيه من السيئات تحير ويرى غيره قد أمر به إلى النار مسحوب مجرجر، فيندم فلا ينفع، ويبكي فلا يسمع ولا يرحم، ولا يعذر، فالعذاب الشديد لمن كد وطغى وتجبر، ونصحتك، فالتوبة التوبة.. فعسى بعد الكسر تجبر، فهو المعين لمن لجأ إليه، فله الحمد على ما قضى وقدر. .الفصل الرابع عشر: تفاوت النفوس في الخير والشر: وجاء في حديث آخر: «إن الله خلقهم في ظلمة، فرش عليهم من نوره، فمن أصابه ذلك النور اهتدى، ومن أخطأه ضل». فهذا يدل على أن من خلق من الصفا صفا له، ومن خلق من الكدر كدر عليه فلم يصلح للقرب والرياضة، وإنما يصلح عبد نجيب. خلق إبليس من ماء غير طاهر، فكانت خلعة العبادة عليه عارية، فسخن ماء معاملته بإيقاد نار الخوف، فلما أعرض عنه الموقد عاد إلى برودة الغفلة. وخلق عمر من أصل نقي، فكانت أعمال الشرك عليه كالعارية، فلما عجت نيران حمية الجاهلية أثرت في طبعه إلى أن فنى مدد حظها بفناء مدة تقدير إعراضه، فعاد سخنه إلى برد العرفان: يا هذا: لا حت عقبة المعصية لآدم وإبليس، فقال لهما لسان الحال: لا بد من سلوكها، فسلكا يتخبطان في ظلامها، فأما آدم فانكسر قلبه في طريقه، وبكى لصعوبة مضيقه، فهتف به هاتف اللطف: لا تجزع معجباً أنا عند المنكسرة قلوبهم من أجلى، وأما إبليس فجاء ضاحكاً معجباً بنفسه، فثار الكبر من قلبه، فتكاثرت ظلمة طريقه، فلما ارتفعا إلى رأس العقبة ضرب {بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة وظاهره من قبله العذاب}، فقال إبليس: يا آدم كنا رفيقين في عقبة المعصية، فكيف افترقنا؟ فنادى منادي الأزل: نحن قسمنا. .الفصل الخامس عشر: روض نفسك: .الفصل السادس عشر: خالف هواك: .الفصل السابع عشر: تبصر في نفسك: ما جالسوك في مكان، فارجع إلي في ذلك فأنا المعروف بالإحسان: يا مبارزاً بالقبيح مهد عذرك، يا مواصلاً نقض العهود جانب غدرك، يا مديماً للتواني تدبر أمرك، يا مؤثراً ما يفنى على ما يبقى خالفت خبرك، يا لاهياً في أيام العوافي والله ما تترك، يا واقفاً مع الأماني ضيعت عمرك، يا فارحاً بقصره تذكر قبرك، يا حاملاً أثقال الذنوب هلا خففت ظهرك؟ سار الصالحون إلى ذكرنا وآثرت هجرك، وسمعت سيرهم وضيعت أجرك. إن أردت صحبة المتقين فاشرح لليقين صدرك، وإن أحببت حلاوة العواقب فاستعمل صبرك، إن حلا شراب مناجانتا فبدد خمرك، إن طاب لك سماع ذكرنا فاكسر زمرك، اعتبر عن خل الثرى والكفان، وتفكر في البلا، وتذكر ذاك الرفاق فما بينك وبين هذا الآفات إلا أن تعاين الوفا وفات. .الفصل الثامن عشر: تذكر يا عامل: رئى سمنون يوماً على شاطىء دجلة وبيده قضيب يضرب به فخذه حتى تبدد لحمه وهو يقول: كان لي قلب أعيش به ضاع مني في تقلبه، رب فاردده على، فقد عيل صبري في تطلبه، وأغث ما دام لي رمق يا غياث المستغاث به، ابك على وقت كان قد صفا، وعلى قلب صار كالصفا، وعلى زمان تبدل فيه الوصل بالجفا، وعلى ربع خلا من اليقظة وعفا: ما تتوقى في سمين بدنك حتى نسيت إدراجك في كفنك، ولا متعت نفسك بمواعيد المنى إلا بعد أن أسرك حب الهوى، أما وعظك الزمان من بسطه وقبضه؟ أما أجد لك بجديد بعد الاعتبار ببعضه، أما تدرك الحين من طوله وعرضه، ياعجباً كيف التذ حامل بغمضة؟ وكم طيل يوم ما أدى بعض فرضه، أما تعلم أن الممات والحساب أمامك فتهيأ للرحيل، وأصلح خيامك، واحفظ مقالتي واقطع قطع المدى مدامك، واجتهد أن تنشر الإخلاص في المحل إلا على أعلامك، وصل صلاتك في الدجي، واهجر للمنام منامك، ولا تترك ولو بت الليل عاصياً صيامك، وأحضر قلبك وسمعك، وإن قلا من لامك، وأفق في زمان الإمكان قبل انثات العرى غرامك، واقطع بسيف التقى كما يقطع الكلام كلامك، وإياك والقتور فإني أرى الدواء دوامك. .الفصل التاسع عشر: الفائزون: بعض العبادات كانت تقول: والله لقد سئمت الحياة حتى لو وجدت الموت يباع لا شتريته شوقاً إلى الله وحباً للقائه، فقيل لها: على ثقة أنت من عملك؟ قالت: لا والله، لحبي إياه وحسن ظني به، أفتراه يعذبني وأنا أحبه: لله در أرواح تشتاق إلى روح قربة، وتلتذ عند ابتلائه بوقع ضربة، ويطول عليها الزمان شوقاً إليه لحبه، إن سألت عن صفاتهم، فكل منهم مخلص لربه مجتهد في طاعته، خائف من عتبه، قائم على نفسه باستيفاء الحق منها على قلبه وأنشد: .الفصل العشرون: سارع إلى التوبة والإنابة: قال سري: الشوق والأنس يرفرفان على قلب فكان هناك الإجلال والهبية حلاً ولارحلاً، ومن ظهر الخشوع على قلبه دخل الوقار على جوارحه. قال حاتم الأصم: إذا علمت فانظر نظر الله إليك، وإذا شكرت فاذكر علم الله فيك. وقال أبو الفوارس الكرماني: من غض بصره عن المحارم وأمسك نفسه عن الشهوات، وعمر باطنه بدوام المراقبة، وظاهره باتباع السنة، وعود نفسه أكل الحلال لم تخطىء، له فراسة: .الفصل الحادي والعشرون: ابتعد عن المعاصي: .الفصل الثاني والعشرون: بعض ثمرات الطاعة: روى أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «قال ربكم عز وجل: لو أن عبادي أطاعوني لسقيتهم المطر بالليل، وأطلعت عليهم الشمس بالنهار، ولم أسمعهم صوت الرعد». قال أبو سليمان الداراني: من صفا صفا له، ومن كدر كدر عليه، ومن أحسن في ليله كفى في نهاره. وقال الفضيل بن عياض: إني لأعصي الله فأعرف ذلك في خلق دابتي وجاريتي. فيامن من يريد دوام العيش على البقاء، دم على الإخلاص والنقاء، وإياك والمعاصي، فالعاصي في شقاء المعاصي، والمعاصي تذل الإنسان وتخرس اللسان، وتغير الحال المستقيم، وتحمل الاعوجاج مكان التقويم. قال يحيى بن أبي كثير: لما أصاب داود الخطيئة نفرت الوحوش من حوله، فنادى: إلهي رد على الوحوش كي أستأنس بها، فردها الله عليه، فأحطن به واصطففن إليه فرفع صوته بقرآنه الزبور، فنادته هيهات هيهات يا داود قد ذهبت الخطيئة بحلاوة صوتك، فكان يقول: بح صوتي في صفا أصوات الصديقين، وأصبحت كالبازي المنتف ريشه يرى حسران كلما طار طائر: .الفصل الثالث والعشرون: الصلاة: قد روى مسلم في صحيحه من حديث جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «بين العبد وبين الكفر ترك الصلاة». وروى في صحيحه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «عليك بكثرة السجود فإنك لا تسجد لله سجدة إلا رفعك الله بها درجة وحط عنك بها خطيئة». وروى أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «جعلت قرة عيني في الصلاة». وقد كان لله عز وجل عباد يحبون خدمته لشدة محبتهم إياه فيحضرون في الصلاة قلوبهم ويجمعون لأدائها هممهم. وروى عن ابن زبير أنه كان إذ قام في الصلاة فكأنه عود من الخشوع، وكان يسجد فتنزل العصافير على ظهره لا تحسبه إلا جزعاً أو حائطاً أو وجه حجر أو رحل فدقه وهو في الصلاة فذهبت ببعض ثوبه فما التفت، وكان إذا دخل بيته سكت أهل البيت، فإذا قام إلى الصلاة تحدثوا وضحكوا. واعلموا- إخواني- أن من أحب المخدوم أحب الخدمة له، لو عرف العبد من يناجي، لم يقبل على غيره، والصلاة صلة بين العبد وبين ربه. الستر الأول: الأذان، كالإذن في الدخول. وستر التقريب الإقامة: فإذا كشف ذلك الغطاء لاح للمتقي قرة العي، فدخل في دائرة دار المناجاة «أرحنا بها يا بلال»، فقد «جعلت قرة عيني في الصلاة» اكشف يا بلال ستر التقريب عن الحبيب. يا بطال: لو سافرت بلداً لم تربح فيه حزنت على فوات [ربحك] وضياع وقتك، أفلا يبكي من دخل في الصلاة على قرة العين ثم خرج بغير فائدة. إخواني: لا تقنعوا بالحركات، فإن الله لا ينظر إلى صوركم. يا هذا: إنما يصاد الطائر بمحبوبه من الحب، ومحبوب القلب الطاهر ذكر الله عز وجل، فحرام على قلبك، على قلبك الحائم حول جيف الهوى، الق له حب الذكر على فخ الصدق في حديقة الصور لعله يقع في شبكة المعرفة. .الفصل الرابع والعشرون: عد إلى ربك: كتب الحسن إلى عمر بن عبد العزيز: أما بعد، فكأنك بالدنيا لم تكن وبالآخرة لم تزل. ووعظ أعرابي ابنه، فقال: لا الدهر يعظك، ولا الأيام تنذرك، والساعات تعد عليك، والأنفاس تعد منك، أحب أمريك إليك أردهما بالمضرة عليك. ووجد على حجر مكتوب: ابن آدم، لو رأيت ما بقي من أجلك لزهدت في طول أملك، ولرغبت في الزيادة في عملك، ولقصرت من جهلك وحيلك، وإنما يلقاك ندمك إذا زلت قدمك، وأسلمك أهلك وحشمك، وباعدك الولد القريب، ورفضك الولد والنسيب، فلا أنت إلى دنياك عائد، ولا في حسناتك زائد فاعمل ليوم القيامة. قبل الحسرة والندامة. وقف قوم على راهب فقالوا: إنا سائلوك، أفمجيبنا أنت؟ فقال: لا تكثروا فإن النهار لم يرجع، والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، ذو اجتهاد، فقالوا: ما على الخلق غداً عند مليكهم؟ قال: على نياتهم، قالوا: فأنى الموئل؟ فقال: إلى المقدم، قالوا: فأوصنا، قال: تزودوا على قدر سفركم، فإن خير الزاد ما بلغ البغية. يا هذا: لا تجزع لرؤية ملك الموت، وائت وأنت تشاهد فيها عملك، عمرك قليل، وقد ضيعت أكثره، فكيف شعورك في البقية، ولعل هذا اليوم الآخر، والليلة الأخيرة ما أرخص ما يباع عمرك، وما أغفلك عن السرى، إنما المرض نهاية الصحة، والفرق قرين الوصلة، والأيام ترحل، ولابد من مسة بدن والحبيب مفارق، والمرء رهن مصائب. الأيام تنقضي حتى يواري جسمه في رمسه فمؤجل يلقي الردي في غيره، ومعجل يلقي الردي في نفسه، الدنيا لمن فهم، قنطرة العبور وسوق التزود ومتطهرة التنظيف وزرعت للحصاد، فأما للعاقل فهي مفرقة المجامع، ومحزنة الربوع، ومجربة الدموع، من نال من دنياه أمنيته اسقطت الأيام منها الإلف، اطلب فيها قدر بلغتك، وخذ مقدار حاجتك خصها خصوص المسافر في طلب علف بعيره، اطلب الدنيا قدر الحاجة، واطلب الآخرة على حسب الطاقة، هذا ولو أنك بلغت إلى الحمى التوكل لاستراح قلبك، وغذاك الله كما يغذي الطير، تغدو خماصاً، وتروح بطاناً. |