الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الموافقات ***
الِاجْتِهَادُ إِنْ تَعَلَّقَ بِالِاسْتِنْبَاطِ مِنَ النُّصُوصِ; فَلَا بُدَّ مِنَ اشْتِرَاطِ الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنْ تَعَلَّقَ بِالْمَعَانِي مِنَ الْمَصَالِحِ وَالْمَفَاسِدِ مُجَرَّدَةً عَنِ اقْتِضَاءِ النُّصُوصِ لَهَا أَوْ مُسَلَّمَةً مِنْ صَاحِبِ الِاجْتِهَادِ فِي النُّصُوصِ، فَلَا يَلْزَمُ فِي ذَلِكَ الْعِلْمُ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ الْعِلْمُ بِمَقَاصِدِ الشَّرْعِ مِنَ الشَّرِيعَةِ جُمْلَةً وَتَفْصِيلًا خَاصَّةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى عَدَمِ الِاشْتِرَاطِ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ أَنَّ عِلْمَ الْعَرَبِيَّةِ إِنَّمَا يُفِيدُ مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ بِحَسَبِ مَا يُفْهَمُ مِنَ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ، وَأَلْفَاظُ الشَّارِعِ الْمُؤَدِّيَةُ لِمُقْتَضَيَاتِهَا عَرَبِيَّةٌ، فَلَا يُمْكِنُ مَنْ لَيْسَ بِعَرَبِيٍّ أَنْ يَفْهَمَ لِسَانَ الْعَرَبِ كَمَا لَا يُمْكِنُ التَّفَاهُمُ فِيمَا بَيْنَ الْعَرَبِيِّ وَالْبَرْبَرِيِّ أَوِ الرُّومِيِّ أَوِ الْعِبْرَانِيِّ حَتَّى يَعْرِفَ كُلُّ وَاحِدٍ مُقْتَضَى لِسَانِ صَاحِبِهِ. وَأَمَّا الْمَعَانِي مُجَرَّدَةً; فَالْعُقَلَاءُ مُشْتَرِكُونَ فِي فَهْمِهَا، فَلَا يَخْتَصُّ بِذَلِكَ لِسَانٌ دُونَ غَيْرِهِ، فَإِذًا مَنْ فَهِمَ مَقَاصِدَ الشَّرْعِ مِنْ وَضْعِ الْأَحْكَامِ، وَبَلَغَ فِيهَا رُتْبَةَ الْعِلْمِ بِهَا، وَلَوْ كَانَ فَهْمُهُ لَهَا مِنْ طَرِيقِ التَّرْجَمَةِ بِاللِّسَانِ الْأَعْجَمِيِّ; فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَنْ فَهِمَهَا مِنْ طَرِيقِ اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ، وَلِذَلِكَ يُوقِعُ الْمُجْتَهِدُونَ الْأَحْكَامَ الشَّرْعِيَّةَ عَلَى الْوَقَائِعِ الْقَوْلِيَّةِ الَّتِي لَيْسَتْ بِعَرَبِيَّةٍ وَيَعْتَبِرُونَ الْمَعَانِيَ وَلَا يَعْتَبِرُونَ الْأَلْفَاظَ فِي كَثِيرٍ مِنَ النَّوَازِلِ. وَأَيْضًا; فَإِنَّ الِاجْتِهَادَ الْقِيَاسِيَّ غَيْرُ مُحْتَاجٍ فِيهِ إِلَى مُقْتَضَيَاتِ الْأَلْفَاظِ إِلَّا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِالْمَقِيسِ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْأَصْلُ وَقَدْ يُؤْخَذُ مُسَلَّمًا أَوْ بِالْعِلَّةِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهَا أَوِ الَّتِي أُومِئَ إِلَيْهَا وَيُؤْخَذُ ذَلِكَ مُسَلَّمًا، وَمَا سِوَاهُ فَرَاجِعٌ إِلَى النَّظَرِ الْعَقْلِيِّ. وَإِلَى هَذَا النَّوْعِ يَرْجِعُ الِاجْتِهَادُ الْمَنْسُوبُ إِلَى أَصْحَابِ الْأَئِمَّةِ الْمُجْتَهِدِينَ; كَابْنِ الْقَاسِمِ وَأَشْهَبَ فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَأَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ وَالْمُزَنِيِّ وَالْبُوَيْطِيِّ فِي مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ فَإِنَّهُمْ عَلَى مَا حُكِيَ عَنْهُمْ يَأْخُذُونَ أُصُولَ إِمَامِهِمْ، وَمَا بُنِيَ عَلَيْهِ فِي فَهْمِ أَلْفَاظِ الشَّرِيعَةِ، وَيُفَرِّعُونَ الْمَسَائِلَ، وَيُصْدِرُونَ الْفَتَاوَى عَلَى مُقْتَضَى ذَلِكَ. وَقَدْ قَبِلَ النَّاسُ أَنْظَارَهُمْ وَفَتَاوِيَهُمْ، وَعَمِلُوا عَلَى مُقْتَضَاهَا، خَالَفَتْ مَذْهَبَ إِمَامِهِمْ أَوْ وَافَقَتْهُ، وَإِنَّمَا كَانَ كَذَلِكَ لِأَنَّهُمْ فَهِمُوا مَقَاصِدَ الشَّرْعِ فِي وَضْعِ الْأَحْكَامِ وَلَوْلَا ذَلِكَ; لَمْ يَحِلَّ لَهُمُ الْإِقْدَامُ عَلَى الِاجْتِهَادِ وَالْفَتْوَى، وَلَا حَلَّ لِمَنْ فِي زَمَانِهِمْ أَوْ مَنْ بَعْدَهُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنْ يُقِرَّهُمْ عَلَى ذَلِكَ، وَلَا يَسْكُتَ عَنِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ عَلَى الْخُصُوصِ، فَلَمَّا لَمْ يَكُنْ شَيْءٌ مِنْ ذَلِكَ; دَلَّ عَلَى أَنَّ مَا أَقْدَمُوا عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ كَانُوا خُلَقَاءَ بِالْإِقْدَامِ فِيهِ، فَالِاجْتِهَادُ مِنْهُمْ وَمِمَّنْ كَانَ مِثْلَهُمْ وَبَلَغَ فِي فَهْمِ مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ مَبَالِغَهُمْ صَحِيحٌ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، هَذَا عَلَى فَرْضِ أَنَّهُمْ لَمْ يَبْلُغُوا فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَبْلَغَ الْمُجْتَهِدِينَ، فَأَمَّا إِذَا بَلَغُوا تِلْكَ الرُّتْبَةَ فَلَا إِشْكَالَ أَيْضًا فِي صِحَّةِ اجْتِهَادِهِمْ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
قَدْ يَتَعَلَّقُ الِاجْتِهَادُ بِتَحْقِيقِ الْمَنَاطِ، فَلَا يُفْتَقَرُ فِي ذَلِكَ إِلَى الْعِلْمِ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ، كَمَا أَنَّهُ لَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى مَعْرِفَةِ عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ; لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ هَذَا الِاجْتِهَادِ إِنَّمَا هُوَ الْعِلْمُ بِالْمَوْضُوعِ عَلَى مَا هُوَ عَلَيْهِ، وَإِنَّمَا يُفْتَقَرُ فِيهِ إِلَى الْعِلْمِ بِمَا لَا يُعْرَفُ ذَلِكَ الْمَوْضُوعُ إِلَّا بِهِ، مِنْ حَيْثُ قُصِدَتِ الْمَعْرِفَةُ بِهِ; فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ الْمُجْتَهِدُ عَارِفًا وَمُجْتَهِدًا مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ الَّتِي يَنْظُرُ فِيهَا لِيَتَنَزَّلَ الْحُكْمُ الشَّرْعِيُّ عَلَى وَفْقِ ذَلِكَ الْمُقْتَضَى، كَالْمُحَدِّثِ الْعَارِفِ بِأَحْوَالِ الْأَسَانِيدِ وَطُرُقِهَا، وَصَحِيحِهَا مِنْ سَقِيمِهَا، وَمَا يُحْتَجُّ بِهِ مِنْ مُتُونِهَا مِمَّا لَا يُحْتَجُّ بِهِ; فَهَذَا يُعْتَبَرُ اجْتِهَادُهُ فِيمَا هُوَ عَارِفٌ بِهِ، كَانَ عَالِمًا بِالْعَرَبِيَّةِ أَمْ لَا، وَعَارِفًا بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ أَمْ لَا، وَكَذَلِكَ الْقَارِئُ فِي تَأْدِيَةِ وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ، وَالصَّانِعُ فِي مَعْرِفَةِ عُيُوبِ الصِّنَاعَاتِ، وَالطَّبِيبُ فِي الْعِلْمِ بِالْأَدْوَاءِ وَالْعُيُوبِ، وَعُرَفَاءُ الْأَسْوَاقِ فِي مَعْرِفَةِ قِيَمِ السِّلَعِ وَمَدَاخِلِ الْعُيُوبِ فِيهَا، وَالْعَادُّ فِي صِحَّةِ الْقِسْمَةِ، وَالْمَاسِحُ فِي تَقْدِيرِ الْأَرَضِينَ وَنَحْوِهَا، كُلُّ هَذَا، وَمَا أَشْبَهَهُ مِمَّا يُعْرَفُ بِهِ مَنَاطُ الْحُكْمِ الشَّرْعِيِّ غَيْرَ مُضْطَرٍّ إِلَى الْعِلْمِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَلَا الْعِلْمِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَإِنْ كَانَ اجْتِمَاعُ ذَلِكَ كَمَالًا فِي الْمُجْتَهِدِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهُ لَوْ كَانَ لَازِمًا لَمْ يُوجَدْ مُجْتَهِدٌ إِلَّا فِي النُّدْرَةِ، بَلْ هُوَ مُحَالٌ عَادَةً، وَإِنْ وُجِدَ ذَلِكَ فَعَلَى جِهَةِ خَرْقِ الْعَادَةِ، كَآدَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ حِينَ عَلَّمَهُ اللَّهُ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا، وَلَا كَلَامَ فِيهِ. وَأَيْضًا إِنْ لَزِمَ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ الْعِلْمُ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ لَزِمَ فِي كُلِّ عِلْمٍ وَصِنَاعَةٍ أَلَّا تُعْرَفَ إِلَّا بَعْدَ الْمَعْرِفَةِ بِذَلِكَ; إِذْ فُرِضَ مِنْ لُزُومِ الْعِلْمِ بِهَا الْعِلْمُ بِمَقَاصِدِ الشَّارِعِ، وَذَلِكَ بَاطِلٌ; فَمَا أَدَّى إِلَيْهِ مِثْلُهُ; فَقَدْ حَصَلَتِ الْعُلُومُ وَوَجَدْتَ مِنَ الْجُهَّالِ بِالشَّرِيعَةِ وَالْعَرَبِيَّةِ، وَمِنَ الْكُفَّارِ الْمُنْكِرِينَ لِلشَّرِيعَةِ. وَوَجْهٌ ثَالِثٌ أَنَّ الْعُلَمَاءَ لَمْ يَزَالُوا يُقَلِّدُونَ فِي هَذِهِ الْأُمُورِ مَنْ لَيْسَ مِنَ الْفُقَهَاءِ، وَإِنَّمَا اعْتُبِرُوا أَهْلَ الْمَعْرِفَةِ بِمَا قُلِّدُوا فِيهِ خَاصَّةً، وَهُوَ التَّقْلِيدُ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ. فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إِنَّمَا يَلْزَمُ فِي هَذَا الِاجْتِهَادِ الْمَعْرِفَةُ بِمَقَاصِدِ الْمُجْتَهِدِ فِيهِ، كَمَا أَنَّهُ فِي الْأَوَّلِينَ كَذَلِكَ; فَالِاجْتِهَادُ فِي الِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْأَلْفَاظِ الشَّرْعِيَّةِ يَلْزَمُ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ بِمَقَاصِدِ الْعَرَبِيَّةِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي الْمَعَانِي الشَّرْعِيَّةِ يَلْزَمُ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ، وَالِاجْتِهَادُ فِي مَنَاطِ الْأَحْكَامِ يَلْزَمُ فِيهِ الْمَعْرِفَةُ بِمَقَاصِدِ ذَلِكَ الْمَنَاطِ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ الْحُكْمُ لَا مِنْ وَجْهٍ غَيْرِهِ، وَهُوَ ظَاهِرٌ.
الِاجْتِهَادُ الْوَاقِعُ فِي الشَّرِيعَةِ ضَرْبَان: أَحَدُهُمَا: الِاجْتِهَادُ الْمُعْتَبَرُ شَرْعًا، وَهُوَ الصَّادِرُ عَنْ أَهْلِهِ الَّذِينَ اضْطَلَعُوا بِمَعْرِفَةِ مَا يَفْتَقِرُ إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ، وَهَذَا هُوَ الَّذِي تَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِيهِ. وَالثَّانِي: غَيْرُ الْمُعْتَبَرِ، وَهُوَ الصَّادِرُ عَمَّنْ لَيْسَ بِعَارِفٍ بِمَا يَفْتَقِرُ الِاجْتِهَادُ إِلَيْهِ; لِأَنَّ حَقِيقَتَهُ أَنَّهُ رَأْيٌ بِمُجَرَّدِ التَّشَهِّي وَالْأَغْرَاضِ، وَخَبْطٌ فِي عِمَايَةٍ، وَاتِّبَاعٌ لِلْهَوَى فَكُلُّ رَأْيٍ صَدَرَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ، فَلَا مِرْيَةَ فِي عَدَمِ اعْتِبَارِهِ; لِأَنَّهُ ضِدُّ الْحَقِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [الْمَائِدَة: 49] وَقَالَ تَعَالَى: {يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} الْآيَةَ [ص: 26]. وَهَذَا عَلَى الْجُمْلَةِ لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَكِنْ قَدْ يَنْشَأُ فِي كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْقِسْمَيْنِ قِسْمٌ آخَرُ; فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ وَهِيَ:
فَيَعْرِضُ فِيهِ الْخَطَأُ فِي الِاجْتِهَادِ; إِمَّا بِخَفَاءِ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ حَتَّى يُتَوَهَّمَ فِيهِ مَا لَمْ يُقْصَدْ مِنْهُ، وَإِمَّا بِعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ جُمْلَةً. وَحُكْمُ هَذَا الْقِسْمِ مَعْلُومٌ مِنْ كَلَامِ الْأُصُولِيِّينَ إِنْ كَانَ فِي أَمْرٍ جُزْئِيٍّ، وَأَمَّا إِنْ كَانَ الْخَطَأُ فِي أَمْرٍ كُلِّيٍّ; فَهُوَ أَشَدُّ، وَفِي هَذَا الْمَوْطِنِ حَذَرٌ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، فَإِنَّهُ جَاءَ فِي بَعْضِ الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ التَّحْذِيرُ مِنْهَا; فَرُوِيَ عَنْهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ قَالَ: «إِنِّي لَأَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعْدِي مِنْ أَعْمَالٍ ثَلَاثَةٍ قَالُوا: وَمَا هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: أَخَافُ عَلَيْهِمْ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَمِنْ حُكْمٍ جَائِرٍ، وَمِنْ هَوًى مُتَّبَعٍ». وَعَنْ عُمَرَ: ثَلَاثٌ يَهْدِمْنَ الدِّينَ: زَلَّةُ الْعَالِمِ، وَجِدَالُ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَأَئِمَّةٌ مُضِلُّونَ. وَعَنْ أَبِي الدَّرْدَاء: إِنَّ مِمَّا أَخْشَى عَلَيْكُمْ زَلَّةُ الْعَالِمِ، أَوْ جِدَالُ الْمُنَافِقِ بِالْقُرْآنِ، وَالْقُرْآنُ حَقٌّ، وَعَلَى الْقُرْآنِ مَنَارٌ كَمَنَارِ الطَّرِيقِ. وَكَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ يَقُولُ فِي خُطْبَتِهِ كَثِيرًا: وَإِيَّاكُمْ وَزَيْغَةَ الْحَكِيمِ; فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَتَكَلَّمُ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ بِكَلِمَةِ الضَّلَالَةِ، وَقَدْ يَقُولُ الْمُنَافِقُ الْحَقَّ; فَتَلَقَّوُا الْحَقَّ عَمَّنْ جَاءَ بِهِ; فَإِنَّ عَلَى الْحَقِّ نُورًا، قَالُوا: وَكَيْفَ زَيْغَةُ الْحَكِيمِ؟ قَالَ: هِيَ كَلِمَةٌ تُرَوِّعُكُمْ وَتُنْكِرُونَهَا، وَتَقُولُونَ مَا هَذِهِ؟ فَاحْذَرُوا زَيْغَتَهُ، وَلَا تَصُدَّنَّكُمْ عَنْهُ; فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَفِيءَ وَأَنْ يُرَاجِعَ الْحَقَّ. وَقَالَ سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ: كَيْفَ أَنْتُمْ عِنْدَ ثَلَاثٍ: زَلَّةِ عَالِمٍ، وَجِدَالِ مُنَافِقٍ بِالْقُرْآنِ، وَدُنْيَا تَقْطَعُ أَعْنَاقَكُمْ، فَأَمَّا زَلَّةُ الْعَالِمِ; فَإِنِ اهْتَدَى، فَلَا تُقَلِّدُوهُ دِينَكُمْ، تَقُولُونَ: نَصْنَعُ مِثْلَ مَا يَصْنَعُ فُلَانٌ، وَنَنْتَهِي عَمَّا يَنْتَهِي عَنْهُ فُلَانٌ، وَإِنْ أَخْطَأَ; فَلَا تَقْطَعُوا إِيَاسَكُمْ مِنْهُ، فَتُعِينُوا عَلَيْهِ الشَّيْطَانَ، الْحَدِيثَ. وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: وَيْلٌ لِلْأَتْبَاعِ مِنْ عَثَرَاتِ الْعَالِمِ، قِيلَ: كَيْفَ ذَلِكَ؟ قَالَ: يَقُولُ الْعَالِمُ شَيْئًا بِرَأْيِهِ، ثُمَّ يَجِدُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُ; فَيَتْرُكُ قَوْلَهُ ثُمَّ يَمْضِي الْأَتْبَاعُ. وَعَنِ ابْنِ الْمُبَارَك: أَخْبَرَنِي الْمُعْتَمِرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، قَالَ: رَآنِي أَبِي وَأَنَا أُنْشِدُ الشِّعْرَ، فَقَالَ لِي: يَا بُنَيَّ لَا تُنْشِدِ الشِّعْرَ، فَقُلْتُ لَهُ: يَا أَبَتِ كَانَ الْحَسَنُ يُنْشِدُ، وَكَانَ ابْنُ سِيرِينَ يُنْشِدُ، فَقَالَ لِي: أَيْ بُنَيَّ إِنْ أَخَذْتَ بِشَرِّ مَا فِي الْحَسَنِ وَبِشَرِّ مَا فِي ابْنِ سِيرِينَ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ. وَقَالَ مُجَاهِدٌ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ وَمَالِكٌ: لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ إِلَّا يُؤْخَذُ مِنْ قَوْلِهِ وَيُتْرَكُ إِلَّا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَقَالَ سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ: إِنْ أَخَذْتَ بِرُخْصَةِ كُلِّ عَالِمٍ اجْتَمَعَ فِيكَ الشَّرُّ كُلُّهُ. قَالَ ابْنُ عَبْدِ الْبَرّ: هَذَا إِجْمَاعٌ لَا أَعْلَمُ فِيهِ خِلَافًا. وَهَذَا كُلُّهُ وَمَا أَشْبَهَهُ دَلِيلٌ عَلَى طَلَبِ الْحَذَرِ مِنْ زَلَّةِ الْعَالِمِ، وَأَكْثَرُ مَا تَكُونُ عِنْدَ الْغَفْلَةِ عَنِ اعْتِبَارِ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ فِي ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي اجْتَهَدَ فِيهِ، وَالْوُقُوفِ دُونَ أَقْصَى الْمُبَالَغَةِ فِي الْبَحْثِ عَنِ النُّصُوصِ فِيهَا، وَهُوَ وَإِنْ كَانَ عَلَى غَيْرِ قَصْدٍ، وَلَا تَعَمُّدٍ وَصَاحِبُهُ مَعْذُورٌ وَمَأْجُورٌ، لَكِنْ مِمَّا يَنْبَنِي عَلَيْهِ فِي الِاتِّبَاعِ لِقَوْلِهِ فِيهِ خَطَرٌ عَظِيمٌ، وَقَدْ قَالَ الْغَزَالِيُّ: إِنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ بِالذَّنْبِ قَدْ تَصِيرُ كَبِيرَةً وَهِيَ فِي نَفْسِهَا صَغِيرَةٌ وَذَكَرَ مِنْهَا أَمْثِلَةً، ثُمَّ قَالَ: فَهَذِهِ ذُنُوبٌ يُتَّبَعُ الْعَالِمُ عَلَيْهَا; فَيَمُوتُ الْعَالِمُ وَيَبْقَى شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا فِي الْعَالَمِ آمَادًا مُتَطَاوِلَةً; فَطُوبَى لِمَنْ إِذَا مَاتَ مَاتَتْ مَعَهُ ذُنُوبُهُ، وَهَكَذَا الْحُكْمُ مُسْتَمِرٌّ فِي زَلَّتِهِ فِي الْفُتْيَا مِنْ بَابٍ أَوْلَى; فَإِنَّهُ رُبَّمَا خَفِيَ عَلَى الْعَالِمِ بَعْضُ السُّنَّةِ أَوْ بَعْضُ الْمَقَاصِدِ الْعَامَّةِ فِي خُصُوصِ مَسْأَلَتِهِ; فَيُفْضِي ذَلِكَ إِلَى أَنْ يَصِيرَ قَوْلُهُ شَرْعًا يُتَقَلَّدُ، وَقَوْلًا يُعْتَبَرُ فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ، فَرُبَّمَا رَجَعَ عَنْهُ وَتَبَيَّنَ لَهُ الْحَقُّ; فَيَفُوتُهُ تَدَارُكُ مَا سَارَ فِي الْبِلَادِ عَنْهُ، وَيَضِلُّ عَنْهُ تَلَافِيهِ; فَمِنْ هُنَا قَالُوا: زَلَّةُ الْعَالِمِ مَضْرُوبٌ بِهَا الطَّبْلُ.
إِذَا ثَبَتَ هَذَا; فَلَا بُدَّ مِنَ النَّظَرِ فِي أُمُورٍ تَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْل: - مِنْهَا أَنَّ زَلَّةَ الْعَالِمِ لَا يَصِحُّ اعْتِمَادُهَا مِنْ جِهَةٍ، وَلَا الْأَخْذُ بِهَا تَقْلِيدًا لَهُ، وَذَلِكَ لِأَنَّهَا مَوْضُوعَةٌ عَلَى الْمُخَالَفَةِ لِلشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ عُدَّتْ زَلَّةً، وَإِلَّا فَلَوْ كَانَتْ مُعْتَدًّا بِهَا; لَمْ يُجْعَلْ لَهَا هَذِهِ الرُّتْبَةُ، وَلَا نُسِبَ إِلَى صَاحِبِهَا الزَّلَلُ فِيهَا، كَمَا أَنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُنْسَبَ صَاحِبُهَا إِلَى التَّقْصِيرِ، وَلَا أَنْ يُشَنَّعَ عَلَيْهِ بِهَا، وَلَا يُنْتَقَصَ مِنْ أَجْلِهَا أَوْ يُعْتَقَدُ فِيهِ الْإِقْدَامُ عَلَى الْمُخَالَفَةِ بَحْتًا; فَإِنَّ هَذَا كُلَّهُ خِلَافُ مَا تَقْتَضِي رُتْبَتُهُ فِي الدِّينِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِنْ كَلَامِ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ وَغَيْرِهِ مَا يُرْشِدُ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى. وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا فِي الْكُوفَةِ فَنَاظَرُونِي فِي ذَلِكَ- يَعْنِي فِي النَّبِيذِ الْمُخْتَلَفِ فِيهِ- فَقُلْتُ لَهُمْ: تَعَالَوْا فَلْيَحْتَجَّ الْمُحْتَجُّ مِنْكُمْ عَمَّنْ شَاءَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالرُّخْصَةِ; فَإِنْ لَمْ نُبَيِّنِ الرَّدَّ عَلَيْهِ عَنْ ذَلِكَ الرَّجُلِ بِشِدَّةٍ صَحَّتْ عَنْهُ فَاحْتَجُّوا فَمَا جَاءُوا عَنْ وَاحِدٍ بِرُخْصَةٍ إِلَّا جِئْنَاهُمْ بِشِدَّةٍ، فَلَمَّا لَمْ يَبْقَ فِي يَدِ أَحَدٍ مِنْهُمْ إِلَّا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ، وَلَيْسَ احْتِجَاجُهُمْ عَنْهُ فِي رُخْصَةِ النَّبِيذِ بِشَيْءٍ يَصِحُّ عَنْهُ، قَالَ ابْنُ الْمُبَارَك: فَقُلْتُ لِلْمُحْتَجِّ عَنْهُ فِي الرُّخْصَة: يَا أَحْمَقُ عُدَّ أَنَّ ابْنَ مَسْعُودٍ لَوْ كَانَ هَاهُنَا جَالِسًا، فَقَالَ هُوَ لَكَ حَلَالٌ، وَمَا وَصَفْنَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ فِي الشِّدَّةِ، كَانَ يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تَحْذَرَ أَوْ تُحَيَّرَ أَوْ تَخْشَى، فَقَالَ قَائِلُهُمْ: يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ فَالنَّخَعِيُّ وَالشَّعْبِيُّ وَسَمَّى عِدَّةً مَعَهُمَا كَانُوا يَشْرَبُونَ الْحَرَامَ؟ فَقُلْتُ لَهُمْ: دَعُوا عِنْدَ الِاحْتِجَاجِ تَسْمِيَةَ الرِّجَالِ; فَرُبَّ رَجُلٍ فِي الْإِسْلَامِ مَنَاقِبُهُ كَذَا وَكَذَا، وَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنْهُ زَلَّةٌ أَفَلِأَحَدٍ أَنْ يَحْتَجَّ بِهَا؟ فَإِنْ أَبَيْتُمْ; فَمَا قَوْلُكُمْ فِي عَطَاءٍ وَطَاوُسٍ وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ وَسَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَعِكْرِمَةَ؟ قَالُوا: كَانُوا خِيَارًا، قَالَ: فَقُلْتُ: فَمَا قَوْلُكُمْ فِي الدِّرْهَمِ بِالدِّرْهَمَيْنِ يَدًا بِيَدٍ؟ فَقَالُوا: حَرَامٌ، فَقَالَ ابْنُ الْمُبَارَك: إِنَّ هَؤُلَاءِ رَأَوْهُ حَلَالًا فَمَاتُوا وَهُمْ يَأْكُلُونَ الْحَرَامَ، فَبَقُوا وَانْقَطَعَتْ حُجَّتُهُمْ. هَذَا مَا حُكِيَ. وَالْحَقُّ مَا قَالَ ابْنُ الْمُبَارَكِ; فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَقُولُ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 59]. فَإِذَا كَانَ بَيِّنًا ظَاهِرًا أَنَّ قَوْلَ الْقَائِلِ مُخَالِفٌ لِلْقُرْآنِ أَوْ لِلسُّنَّةِ; لَمْ يَصِحَّ الِاعْتِدَادُ بِهِ، وَلَا الْبِنَاءُ عَلَيْهِ، وَلِأَجْلِ هَذَا يُنْقَضُ قَضَاءُ الْقَاضِي إِذَا خَالَفَ النَّصَّ أَوِ الْإِجْمَاعَ، مَعَ أَنَّ حُكْمَهُ مَبْنِيٌّ عَلَى الظَّوَاهِرِ مَعَ إِمْكَانِ خِلَافِ الظَّاهِرِ، وَلَا يُنْقَضُ مَعَ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ وَإِنْ تَبَيَّنَ; لِأَنَّ مَصْلَحَةَ نَصْبِ الْحَاكِمِ تُنَاقِضُ نَقْضَ حُكْمِهِ، وَلَكِنْ يُنْقَضُ مَعَ مُخَالَفَةِ الْأَدِلَّةِ; لِأَنَّهُ حُكْمٌ بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ.
- وَمِنْهَا: أَنَّهُ لَا يَصِحُّ اعْتِمَادُهَا خِلَافًا فِي الْمَسَائِلِ الشَّرْعِيَّةِ؛ لِأَنَّهَا لَمْ تَصْدُرْ فِي الْحَقِيقَةِ عَنِ اجْتِهَادِهِ، وَلَا هِيَ مِنْ مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، وَإِنْ حَصَلَ مِنْ صَاحِبِهَا اجْتِهَادٌ; فَهُوَ لَمْ يُصَادِفْ فِيهَا مَحَلًّا، فَصَارَتْ فِي نِسْبَتِهَا إِلَى الشَّرْعِ كَأَقْوَالِ غَيْرِ الْمُجْتَهِدِ، وَإِنَّمَا يُعَدُّ فِي الْخِلَافِ الْأَقْوَالُ الصَّادِرَةُ عَنْ أَدِلَّةٍ مُعْتَبَرَةٍ فِي الشَّرِيعَةِ، كَانَتْ مِمَّا يَقْوَى أَوْ يَضْعُفُ، وَأَمَّا إِذَا صَدَرَتْ عَنْ مُجَرَّدِ خَفَاءِ الدَّلِيلِ أَوْ عَدَمِ مُصَادَفَتِهِ فَلَا; فَلِذَلِكَ قِيلَ: إِنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَدَّ بِهَا فِي الْخِلَافِ، كَمَا لَمْ يَعْتَدَّ السَّلَفُ الصَّالِحُ بِالْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةِ رِبَا الْفَضْلِ وَالْمُتْعَةِ، وَمَحَاشِي النِّسَاءِ، وَأَشْبَاهِهَا مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي خَفِيَتْ فِيهَا الْأَدِلَّةُ عَلَى مَنْ خَالَفَ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَبِمَاذَا يُعْرَفُ مِنَ الْأَقْوَالِ مَا هُوَ كَذَلِكَ مِمَّا لَيْسَ كَذَلِكَ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ مِنْ وَظَائِفِ الْمُجْتَهِدِينَ; فَهُمُ الْعَارِفُونَ بِمَا وَافَقَ أَوْ خَالَفَ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ فَلَا تَتَمَيَّزُ لَهُمْ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَيُعَضِّدُ هَذَا أَنَّ الْمُخَالَفَةَ لِلْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى مَرَاتِبَ; فَمِنَ الْأَقْوَالِ مَا يَكُونُ خِلَافًا لِدَلِيلٍ قَطْعِيٍّ مِنْ نَصٍّ مُتَوَاتِرٍ أَوْ إِجْمَاعٍ قَطْعِيٍّ فِي حُكْمٍ كُلِّيٍّ وَمِنْهَا مَا يَكُونُ خِلَافًا لِدَلِيلٍ ظَنِّيٍّ، وَالْأَدِلَّةُ الظَّنِّيَّةُ مُتَفَاوِتَةٌ كَأَخْبَارِ الْآحَادِ وَالْقِيَاسِ الْجُزْئِيَّةِ، فَأَمَّا الْمُخَالِفُ لِلْقَطْعِيِّ، فَلَا إِشْكَالَ فِي اطِّرَاحِهِ، وَلَكِنَّ الْعُلَمَاءَ رُبَّمَا ذَكَرُوهُ لِلتَّنْبِيهِ عَلَيْهِ وَعَلَى مَا فِيهِ، لَا لِلِاعْتِدَادِ بِهِ، وَأَمَّا الْمُخَالِفُ لِلظَّنِّيِّ; فَفِيهِ الِاجْتِهَادُ بِنَاءً عَلَى التَّوَازُنِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مَا اعْتَمَدَهُ صَاحِبُهُ مِنَ الْقِيَاسِ أَوْ غَيْرِهِ. فَإِنْ قِيلَ: فَهَلْ لِغَيْرِ الْمُجْتَهِدِ مِنَ الْمُتَفَقِّهِينَ فِي ذَلِكَ ضَابِطٌ يَعْتَمِدُهُ أَمْ لَا؟ فَالْجَوَابُ: إِنَّ لَهُ ضَابِطًا تَقْرِيبِيًّا، وَهُوَ أَنَّ مَا كَانَ مَعْدُودًا فِي الْأَقْوَالِ غَلَطًا وَزَلَلًا قَلِيلٌ جِدًّا فِي الشَّرِيعَةِ، وَغَالِبُ الْأَمْرِ أَنَّ أَصْحَابَهَا مُنْفَرِدُونَ بِهَا، قَلَّمَا يُسَاعِدُهُمْ عَلَيْهَا مُجْتَهِدٌ آخَرُ، فَإِذَا انْفَرَدَ صَاحِبُ قَوْلٍ عَنْ عَامَّةِ الْأُمَّةِ; فَلْيَكُنِ اعْتِقَادُكَ أَنَّ الْحَقَّ فِي الْمَسْأَلَةِ مَعَ السَّوَادِ الْأَعْظَمِ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ لَا مِنَ الْمُقَلِّدِينَ.
وَقَدْ عَدَّ ابْنُ السَّيِّدِ هَذَا الْمَكَانَ مِنْ أَسْبَابِ الْخِلَافِ، حِينَ عَدَّ جِهَةَ الرِّوَايَةِ وَأَنَّ لَهَا ثَمَانِيَ عِلَلٍ: فَسَادُ الْإِسْنَادِ، وَنَقْلُ الْحَدِيثِ عَلَى الْمَعْنَى، أَوْ مِنَ الْمُصْحَفِ، وَالْجَهْلُ بِالْإِعْرَابِ، وَالتَّصْحِيفُ، وَإِسْقَاطُ جُزْءِ الْحَدِيثِ، أَوْ سَبَبِهِ، وَسَمَاعُ بَعْضِ الْحَدِيثِ وَفَوْتُ بَعْضِهِ، وَهَذِهِ الْأَشْيَاءُ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنَى مَا تَقَدَّمَ إِذَا صَحَّ أَنَّهَا فِي الْمَوَاضِعِ الْمُخْتَلَفِ فِيهَا عِلَلٌ حَقِيقَةٌ; فَإِنَّهُ قَدْ يَقَعُ الْخِلَافُ بِسَبَبِ الِاجْتِهَادِ فِي كَوْنِهَا مَوْجُودَةً فِي مَحَلِّ الْخِلَافِ، وَإِذَا كَانَ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ; فَالْخِلَافُ مُعْتَدٌّ بِهِ بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي، وَهِيَ:
فَيَعْرِضُ فِيهِ أَنْ يُعْتَقَدَ فِي صَاحِبِهِ أَوْ يَعْتَقِدَ هُوَ فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ مِنْ أَهْلِ الِاجْتِهَادِ وَأَنَّ قَوْلَهُ مُعْتَدٌّ بِهِ، وَتَكُونُ مُخَالَفَتُهُ تَارَةً فِي جُزْئِيٍّ، وَهُوَ أَخَفُّ، وَتَارَةً فِي كُلِّيٍّ مِنْ كُلِّيَّاتِ الشَّرِيعَةِ وَأُصُولِهَا الْعَامَّةِ، كَانَتْ مِنْ أُصُولِ الِاعْتِقَادَاتِ أَوِ الْأَعْمَالِ; فَتَرَاهُ آخِذًا بِبَعْضِ جُزْئِيَّاتِهَا فِي هَدْمِ كُلِّيَّاتِهَا حَتَّى يَصِيرَ مِنْهَا إِلَى مَا ظَهَرَ لَهُ بِبَادِئِ رَأْيِهِ مِنْ غَيْرِ إِحَاطَةٍ بِمَعَانِيهَا، وَلَا رَاجِعٌ رُجُوعَ الِافْتِقَارِ إِلَيْهَا، وَلَا مُسَلِّمٌ لِمَا رُوِيَ عَنْهُمْ فِي فَهْمِهَا، وَلَا رَاجِعٌ إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ فِي أَمْرِهَا كَمَا قَالَ: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 59]. وَيَكُونُ الْحَامِلُ عَلَى ذَلِكَ بَعْضَ الْأَهْوَاءِ الْكَامِنَةِ فِي النُّفُوسِ، الْحَامِلَةِ عَلَى تَرْكِ الِاهْتِدَاءِ بِالدَّلِيلِ الْوَاضِحِ، وَاطِّرَاحِ النَّصَفَةِ، وَالِاعْتِرَافِ بِالْعَجْزِ فِيمَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْهِ عِلْمُ النَّاظِرِ، وَيُعِينُ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ بِمَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ وَتَوَهُّمِ بُلُوغِ دَرَجَةِ الِاجْتِهَادِ بِاسْتِعْجَالِ نَتِيجَةِ الطَّلَبِ; فَإِنَّ الْعَاقِلَ قَلَّمَا يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ فِي اقْتِحَامِ الْمَهَالِكِ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ مُخَاطِرٌ. وَأَصْلُ هَذَا الْقِسْمَ مَذْكُورٌ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 7]. وَفِي الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَرَأَ هَذِهِ الْآيَةَ، ثُمَّ قَالَ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ; فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ». وَالتَّشَابُهُ فِي الْقُرْآنِ لَا يَخْتَصُّ بِمَا نَصَّ عَلَيْهِ الْعُلَمَاءُ مِنَ الْأُمُورِ الْإِلَهِيَّةِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ، وَلَا الْعِبَارَاتِ الْمُجْمَلَةِ، وَلَا مَا يَتَعَلَّقُ بِالنَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ، وَلَا غَيْرَ ذَلِكَ مِمَّا يَذْكُرُونَ، بَلْ هُوَ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ مُقْتَضَى الْآيَةِ إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى الْحَصْرِ، وَإِنَّمَا يَذْكُرُونَ مِنْ ذَلِكَ مَا يَذْكُرُونَ عَلَى عَادَتِهِمْ فِي الْقَصْدِ إِلَى مُجَرَّدِ التَّمْثِيلِ بِبَعْضِ الْأَمْثِلَةِ الدَّاخِلَةِ تَحْتَ النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ; فَإِنَّ الشَّرِيعَةَ إِذَا كَانَ فِيهَا أَصْلٌ مُطَّرِدٌ فِي أَكْثَرِهَا مُقَرَّرٌ وَاضِحٌ فِي مُعْظَمِهَا ثُمَّ جَاءَ بَعْضُ الْمَوَاضِعِ فِيهَا مِمَّا يَقْتَضِي ظَاهِرُهُ مُخَالَفَةَ مَا اطَّرَدَ; فَذَلِكَ مِنَ الْمَعْدُودِ فِي الْمُتَشَابِهَاتِ الَّتِي يُتَّقَى اتِّبَاعُهَا; لِأَنَّ اتِّبَاعَهَا مُفْضٍ إِلَى ظُهُورِ مُعَارَضَةٍ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأُصُولِ الْمُقَرَّرَةِ وَالْقَوَاعِدِ الْمُطَّرِدَةِ، فَإِذَا اعْتُمِدَ عَلَى الْأُصُولِ وَأُرْجِئَ أَمْرُ النَّوَادِرِ وَوُكِّلَتْ إِلَى عَالِمِهَا أَوْ رُدَّتْ إِلَى أُصُولِهَا، فَلَا ضَرَرَ عَلَى الْمُكَلَّفِ الْمُجْتَهِدِ، وَلَا تَعَارُضَ فِي حَقِّهِ. وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] فَجَعَلَ الْمُحْكَمَ- وَهُوَ الْوَاضِحُ الْمَعْنَى الَّذِي لَا إِشْكَالَ فِيهِ، وَلَا اشْتِبَاهَ- هُوَ الْأُمَّ وَالْأَصْلَ الْمَرْجُوعَ إِلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: {وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] يُرِيدُ: وَلَيْسَتْ بِأُمٍّ، وَلَا مُعْظَمٍ; فَهِيَ إِذًا قَلَائِلُ، ثُمَّ أَخْبَرَ أَنَّ اتِّبَاعَ الْمُتَشَابِهِ مِنْهَا شَأْنُ أَهْلِ الزَّيْغِ وَالضَّلَالِ عَنِ الْحَقِّ وَالْمَيْلِ عَنِ الْجَادَّةِ، وَأَمَّا الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ فَلَيْسُوا كَذَلِكَ، وَمَا ذَاكَ إِلَّا بِاتِّبَاعِهِمْ أُمَّ الْكِتَابِ وَتَرْكِهِمْ الِاتِّبَاعَ لِلْمُتَشَابِهِ. وَأُمُّ الْكِتَابِ يَعُمُّ مَا هُوَ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ أَوِ الْعَمَلِيَّةِ إِذْ لَمْ يَخُصَّ الْكِتَابُ ذَلِكَ، وَلَا السُّنَّةُ، بَلْ ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «افْتَرَقَتِ الْيَهُودُ عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفَرَّقَتِ النَّصَارَى عَلَى إِحْدَى أَوِ اثْنَيْنِ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً» وَفِي التِّرْمِذِيِّ تَفْسِيرُ هَذَا بِإِسْنَادٍ غَرِيبٍ عَنْ غَيْرِ أَبِي هُرَيْرَةَ; فَقَالَ فِي حَدِيثِه: «وَإِنَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ تَفَرَّقَتْ عَلَى ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، وَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ مِلَّةً، كُلُّهُمْ فِي النَّارِ إِلَّا مِلَّةً وَاحِدَةً قَالُوا: مَنْ هِيَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي ». وَالَّذِي عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابُهُ ظَاهِرٌ فِي الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ وَالْعَمَلِيَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ، لَمْ يُخَصَّ مِنْ ذَلِكَ شَيْءٌ دُونَ شَيْءٍ. وَفِي أَبِي دَاوُدَ: «وَإِنَّ هَذِهِ الْمِلَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى ثَلَاثٍ وَسَبْعِينَ، ثِنْتَانِ وَسَبْعُونَ فِي النَّارِ، وَوَاحِدَةٌ فِي الْجَنَّةِ، وَهِيَ الْجَمَاعَةُ» وَهِيَ بِمَعْنَى الرِّوَايَةِ الَّتِي قَبْلَهَا. وَقَدْ رُوِيَ مَا يُبَيِّنُ هَذَا الْمَعْنَى، ذَكَرَهُ ابْنُ عَبْدِ الْبَرِّ بِسَنَدٍ لَمْ يَرْضَهُ، وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ قَدْ هَوَّنَ الْأَمْرَ فِيهِ، أَنَّهُ قَالَ: «سَتَفْتَرِقُ أُمَّتِي عَلَى بِضْعٍ وَسَبْعِينَ فِرْقَةً أَعْظَمُهَا فِتْنَةً الَّذِينَ يَقِيسُونَ الْأُمُورَ بِرَأْيِهِمْ فَيُحِلُّونَ الْحَرَامَ وَيُحَرِّمُونَ الْحَلَالَ» فَهَذَا نَصٌّ عَلَى دُخُولِ الْأُصُولِ الْعَمَلِيَّةِ تَحْتَ قَوْلِه: «مَا أَنَا عَلَيْهِ وَأَصْحَابِي» وَهُوَ ظَاهِرٌ; فَإِنَّ الْمُخَالِفَ فِي أَصْلٍ مِنْ أُصُولِ الشَّرِيعَةِ الْعَمَلِيَّةِ لَا يُقَصِّرُ عَنِ الْمُخَالِفِ فِي أَصْلٍ مِنَ الْأُصُولِ الِاعْتِقَادِيَّةِ فِي هَدْمِ الْقَوَاعِدِ الشَّرْعِيَّةِ.
وَقَدْ وَجَدْنَا فِي الشَّرِيعَةِ مَا يَدُلُّنَا عَلَى بَعْضِ الْفِرَقِ الَّتِي يُظَنُّ أَنَّ الْحَدِيثَ شَامِلٌ لَهَا، وَأَنَّهَا مَقْصُودَةُ الدُّخُولِ تَحْتَهُ; فَإِنَّهُ جَاءَ فِي الْقُرْآنِ أَشْيَاءُ تُشِيرُ إِلَى أَوْصَافٍ يُتَعَرَّفُ مِنْهَا أَنَّ مَنِ اتَّصَفَ بِهَا; فَهُوَ آخِذٌ فِي بِدْعَةٍ، خَارِجٌ عَنْ مُقْتَضَى الشَّرِيعَةِ، وَكَذَلِكَ فِي الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ، فَمَنْ تَتَبَّعَ مَوَاضِعَهَا رُبَّمَا اهْتَدَى إِلَى جُمْلَةٍ مِنْهَا، وَرُبَّمَا وَرَدَ التَّعْيِينُ فِي بَعْضِهَا، كَمَا قَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي الْخَوَارِج: «إِنَّ مِنْ ضِئْضِئِ هَذَا قَوْمًا يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ، يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ، وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ». وَفِي رِوَايَةٍ: «دَعْهُ- يَعْنِي ذَا الْخُوَيْصِرَةِ-؛ فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلَاتَهُ مَعَ صَلَاتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، يَمْرُقُونَ مِنَ الْإِسْلَامِ..» الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: «آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ، إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلُ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ..» إِلَخْ. فَقَدْ عَرَّفَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِهَؤُلَاءِ، وَذَكَرَ لَهُمْ عَلَامَةً فِي صَاحِبِهِمْ، وَبَيَّنَ مِنْ مَذْهَبِهِمْ فِي مُعَانَدَةِ الشَّرِيعَةِ أَمْرَيْنِ كُلِّيَّيْن: أَحَدُهُمَا: اتِّبَاعُ ظَوَاهِرِ الْقُرْآنِ عَلَى غَيْرِ تَدَبُّرٍ، وَلَا نَظَرٍ فِي مَقَاصِدِهِ، وَمَعَاقِدِهِ، وَالْقَطْعُ بِالْحُكْمِ بِهِ بِبَادِئِ الرَّأْيِ وَالنَّظَرِ الْأَوَّلِ، وَهُوَ الَّذِي نَبَّهَ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الْحَدِيث: «يَقْرَءُونَ الْقُرْآنَ لَا يُجَاوِزُ حَنَاجِرَهُمْ» وَمَعْلُومٌ أَنَّ هَذَا الرَّأْيَ يَصُدُّ عَنِ اتِّبَاعِ الْحَقِّ الْمَحْضِ، وَيُضَادُّ الْمَشْيَ عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَمِنْ هُنَا ذَمَّ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ رَأْيَ دَاوُدَ الظَّاهِرِيِّ، وَقَالَ: إِنَّهَا بِدْعَةٌ ظَهَرَتْ بَعْدَ الْمِائَتَيْنِ، أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ جَرَى عَلَى مُجَرَّدِ الظَّاهِرِ تَنَاقَضَتْ عَلَيْهِ السُّوَرُ وَالْآيَاتُ، وَتَعَارَضَتْ فِي يَدَيْهِ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ. وَتَأَمَّلْ مَا ذَكَرَهُ الْقُتْبِيُّ فِي صَدْرِ كِتَابِهِ فِي مُشَكِلِ الْقُرْآنِ وَكِتَابِهِ فِي مُشْكِلِ الْحَدِيثِ يُبَيِّنُ لَكَ صِحَّةَ هَذَا الْإِلْزَامِ; فَإِنَّ مَا ذَكَرَهُ هُنَالِكَ آخِذٌ بِبَادِئِ الرَّأْيِ فِي مُجَرَّدِ الظَّوَاهِرِ. وَالثَّانِي: قَتْلُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَتَرْكُ أَهْلِ الْأَوْثَانِ عَلَى ضِدِّ مَا دَلَّتْ عَلَيْهِ جُمْلَةُ الشَّرِيعَةِ وَتَفْصِيلُهَا; فَإِنَّ الْقُرْآنَ وَالسُّنَّةَ إِنَّمَا جَاءَتْ لِلْحُكْمِ بِأَنَّ أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ نَاجُونَ، وَأَنَّ أَهْلَ الْأَوْثَانِ هَالِكُونَ، وَلِتَعْصِمَ هَؤُلَاءِ وَتُرِيقَ دَمَ هَؤُلَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فِيهِمَا وَالْعُمُومِ، فَإِذَا كَانَ النَّظَرُ فِي الشَّرِيعَةِ مُؤَدِّيًا إِلَى مُضَادَّةِ هَذَا الْقَصْدِ; صَارَ صَاحِبُهُ هَادِمًا لِقَوَاعِدِهَا، وَصَادًّا عَنْ سَبِيلِهَا، وَمَنْ تَأَمَّلَ كَلَامَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ التَّحْكِيمِ مَعَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَفِي غَيْرِهَا ظَهَرَ لَهُ خُرُوجُهُمْ عَنِ الْقَصْدِ، وَعُدُولُهُمْ عَنِ الصَّوَابِ، وَهَدْمُهُمْ لِلْقَوَاعِدِ، وَكَذَلِكَ مُنَاظَرَتُهُمْ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. فَهَذَانِ وَجْهَانِ ذُكِرَا فِي الْحَدِيثِ مِنْ مُخَالَفَتِهِمْ لِقَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ الْكُلِّيَّةِ اتِّبَاعًا لِلْمُتَشَابِهَاتِ. وَقَدْ ذَكَرَ النَّاسُ مِنْ آرَائِهِمْ غَيْرَ ذَلِكَ مِنْ جِنْسِهِ; كَتَكْفِيرِهِمْ لِأَكْثَرِ الصَّحَابَةِ وَلِغَيْرِهِمْ وَمِنْهُ سَرَى قَتْلُهُمْ لِأَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَنَّ الْفَاعِلَ لِلْفِعْلِ إِذَا لَمْ يَعْلَمْ أَنَّهُ حَلَالٌ أَوْ حَرَامٌ فَلَيْسَ بِمُؤْمِنٍ، وَأَلَّا حَرَامَ إِلَّا مَا فِي قَوْلِه: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 145]، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَحَلَالٌ، وَأَنَّ الْإِمَامَ إِذَا كَفَرَ كَفَرَتْ رَعِيَّتُهُ كُلُّهُمْ شَاهِدُهُمْ وَغَائِبُهُمْ، وَأَنَّ التَّقِيَّةَ لَا تَجُوزُ فِي قَوْلٍ، وَلَا فِعْلٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ وَالْعُمُومِ، وَأَنَّ الزَّانِيَ لَا يُرْجَمُ بِإِطْلَاقٍ، وَالْقَاذِفَ لِلرِّجَالِ لَا يُحَدُّ، وَإِنَّمَا يُحَدُّ قَاذِفُ النِّسَاءِ خَاصَّةً، وَأَنَّ الْجَاهِلَ مَعْذُورٌ فِي أَحْكَامِ الْفُرُوعِ بِإِطْلَاقٍ، وَأَنَّ اللَّهَ سَيَبْعَثُ نَبِيًّا مِنَ الْعَجَمِ بِكِتَابٍ يُنَزِّلُهُ اللَّهُ عَلَيْهِ جُمْلَةً وَاحِدَةً وَيَتْرُكُ شَرِيعَةَ مُحَمَّدٍ، وَأَنَّ الْمُكَلَّفَ قَدْ يَكُونُ مُطِيعًا بِفِعْلِ الطَّاعَةِ غَيْرَ قَاصِدٍ بِهَا وَجْهَ اللَّهِ، وَإِنْكَارُهُمْ سُورَةَ يُوسُفَ مِنَ الْقُرْآنِ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ، وَكُلُّهَا مُخَالَفَةٌ لِكُلِّيَّاتٍ شَرْعِيَّةٍ أَصْلِيَّةٍ أَوْ عَمَلِيَّةٍ. وَلَكِنَّ الْغَالِبَ فِي هَذِهِ الْفِرَقِ أَنْ يُشَارَ إِلَى أَوْصَافِهِمْ لِيُحَذَّرَ مِنْهَا، وَيَبْقَى الْأَمْرُ فِي تَعْيِينِهِمْ مُرْجًى كَمَا فَهِمْنَا مِنَ الشَّرِيعَةِ، وَلَعَلَّ عَدَمَ تَعْيِينِهِمْ هُوَ الْأَوْلَى الَّذِي يَنْبَغِي أَنْ يُلْتَزَمَ لِيَكُونَ سِتْرًا عَلَى الْأُمَّةِ، كَمَا سُتِرَتْ عَلَيْهِمْ قَبَائِحُهُمْ; فَلَمْ يُفْضَحُوا فِي الدُّنْيَا بِهَا فِي الْحُكْمِ الْغَالِبِ الْعَامِّ، وَأُمِرْنَا بِالسَّتْرِ عَلَى الْمُذْنِبِينَ مَا لَمْ يَبْدُ لَنَا صَفْحَةُ الْخِلَافِ، لَيْسَ كَمَا ذُكِرَ عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُمْ كَانُوا إِذَا أَذْنَبَ أَحَدُهُمْ لَيْلًا أَصْبَحَ وَعَلَى بَابِهِ مَعْصِيَتُهُ مَكْتُوبَةٌ، وَكَذَلِكَ فِي شَأْنِ قَرَابِينِهِمْ فَإِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قَرَّبُوهَا أَكَلَتِ النَّارُ الْمَقْبُولَ مِنْهَا وَتَرَكَتْ غَيْرَ الْمَقْبُولِ، وَفِي ذَلِكَ افْتِضَاحُ الْمُذْنِبِ، إِلَى مَا أَشْبَهَ ذَلِكَ; فَكَثِيرٌ مِنْ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ خُصَّتْ بِهَا هَذِهِ الْأُمَّةُ، وَقَدْ قَالَتْ طَائِفَةٌ: إِنَّ مِنَ الْحِكْمَةِ فِي تَأْخِيرِ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَنْ سَائِرِ الْأُمَمِ أَنْ تَكُونَ ذُنُوبُهُمْ مَسْتُورَةً عَنْ غَيْرِهِمْ، فَلَا يُطَّلَعُ عَلَيْهَا كَمَا اطَّلَعُوا هُمْ عَلَى ذُنُوبِ غَيْرِهِمْ مِمَّنْ سَلَفَ. وَلِلسَّتْرِ حِكْمَةٌ أَيْضًا وَهِيَ أَنَّهَا لَوْ أُظْهِرَتْ- مَعَ أَنَّ أَصْحَابَهَا مِنَ الْأُمَّةِ- لَكَانَ فِي ذَلِكَ دَاعٍ إِلَى الْفُرْقَةِ وَالْوَحْشَةِ، وَعَدَمِ الْأُلْفَةِ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ بِهَا وَرَسُولُهُ حَيْثُ قَالَ تَعَالَى: {وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 103] وَقَالَ: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ} [الْأَنْفَال: 1] وَقَالَ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ} [آلِ عِمْرَانَ: 105] وَقَالَ: {وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الرُّوم: 31- 32] وَفِي الْحَدِيث: «لَا تَحَاسَدُوا، وَلَا تَدَابَرُوا، وَلَا تَبَاغَضُوا، وَكُونُوا عِبَادَ اللَّهِ إِخْوَانًا» وَأَمَرَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بِإِصْلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ، وَأَخْبَرَ أَنَّ فَسَادَ ذَاتِ الْبَيْنِ هِيَ الْحَالِقَةُ، وَأَنَّهَا تَحْلِقُ الدِّينَ. وَالشَّرِيعَةُ طَافِحَةٌ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَيَكْفِي فِيهِ مَا ذَكَرَهُ الْمُحَدِّثُونَ فِي كِتَابِ الْبِرِّ وَالصِّلَةِ وَقَدْ جَاءَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 159] أَنَّهُ رُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ- وَهَذَا حَدِيثُ عَائِشَةَ- قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «يَا عَائِشَةُ إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دَيْنَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا مَنْ هُمْ؟» قُلْتُ: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: «هُمْ أَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ، وَأَصْحَابُ الْبِدَعِ، وَأَصْحَابُ الضَّلَالَةِ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَا عَائِشَةُ إِنَّ لِكُلِّ ذَنْبٍ تَوْبَةً مَا خَلَا أَصْحَابَ الْأَهْوَاءِ وَالْبِدَعِ لَيْسَ لَهُمْ تَوْبَةٌ، وَأَنَا مِنْهُمْ بَرِيءٌ، وَهُمْ مِنِّيَ بُرَآءُ». فَإِذَا كَانَ مِنْ مُقْتَضَى الْعَادَةِ أَنَّ التَّعْرِيفَ بِهِمْ عَلَى التَّعْيِينِ يُورِثُ الْعَدَاوَةَ وَالْفُرْقَةَ وَتَرْكَ الْمُوَالَفَةِ; لَزِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنْ يَكُونَ مَنْهِيًّا عَنْهُ; إِلَّا أَنْ تَكُونَ الْبِدْعَةُ فَاحِشَةً جِدًّا كَبِدْعَةِ الْخَوَارِجِ، فَلَا إِشْكَالَ فِي جَوَازِ إِبْدَائِهَا وَتَعْيِينِ أَهْلِهَا، كَمَا عَيَّنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْخَوَارِجَ وَذَكَرَهُمْ بِعَلَامَتِهِمْ; حَتَّى يُعْرَفُونَ وَيُحْذَرَ مِنْهُمْ. وَيَلْحَقُ بِذَلِكَ مَا هُوَ مِثْلُهُ فِي الشَّنَاعَةِ أَوْ قَرِيبٌ مِنْهُ بِحَسَبِ نَظَرِ الْمُجْتَهِدِ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ فَالسُّكُوتُ عَنْ تَعْيِينِهِ أَوْلَى. وَخَرَّجَ أَبُو دَاوُدَ عَنْ عَمْرِو بْنِ أَبِي قُرَّةَ; قَالَ: كَانَ حُذَيْفَةُ بِالْمَدَائِنِ، فَكَانَ يَذْكُرُ أَشْيَاءَ قَالَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأُنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فِي الْغَضَبِ، فَيَنْطَلِقُ نَاسٌ مِمَّنْ سَمِعَ ذَلِكَ مِنْ حُذَيْفَةَ فَيَأْتُونَ سَلْمَانَ فَيَذْكُرُونَ لَهُ قَوْلَ حُذَيْفَةَ; فَيَقُولُ سَلْمَانُ: حُذَيْفَةُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُ; فَيَرْجِعُونَ إِلَى حُذَيْفَةَ; فَيَقُولُونَ لَهُ: قَدْ ذَكَرْنَا قَوْلَكَ لِسَلْمَانَ; فَمَا صَدَّقَكَ وَلَا كَذَّبَكَ، فَأَتَى حُذَيْفَةُ سَلْمَانَ وَهُوَ فِي مَبْقَلَةٍ، فَقَالَ: يَا سَلْمَانُ مَا يَمْنَعُكَ أَنْ تُصَدِّقَنِي بِمَا سَمِعْتُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ فَقَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَغْضَبُ فَيَقُولُ فِي الْغَضَبِ لِنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، وَيَرْضَى فَيَقُولُ فِي الرِّضَى لِنَاسٍ مِنْ أَصْحَابِهِ، أَمَا تَنْتَهِي حَتَّى تُورِثَ رِجَالًا حُبَّ رِجَالٍ، وَرِجَالًا بُغْضَ رِجَالٍ، وَحَتَّى تُوقِعَ اخْتِلَافًا وَفُرْقَةً؟ وَلَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ، فَقَالَ: «أَيُّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي سَبَبْتُهُ سُبَّةً أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً فِي غَضَبِي; فَإِنَّمَا أَنَا مِنْ وَلَدِ آدَمَ أَغْضَبُ كَمَا يَغْضَبُونَ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ فَاجْعَلُهَا عَلَيْهِمْ صَلَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ» فَوَاللَّهِ لِتَنْتَهِيَنَّ أَوْ لَأَكْتُبَنَّ إِلَى عُمَرَ. فَهَذَا مِنْ سَلْمَانَ حُسْنٌ مِنَ النَّظَرِ; فَهُوَ جَارٍ فِي مَسْأَلَتِنَا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْبِدَعُ مَأْمُورٌ بِاجْتِنَابِهَا، وَاجْتِنَابِ أَهْلِهَا وَالتَّحْذِيرِ مِنْهُمْ وَالتَّشْرِيدِ بِهِمْ، وَتَقْبِيحِ مَا هُمْ عَلَيْهِ; فَكَيْفَ يَكُونُ ذِكْرُ ذَلِكَ وَالتَّنْبِيهُ عَلَيْهِ غَيْرَ جَائِزٍ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبَّهَ فِي الْجُمْلَةِ عَلَيْهِمْ إِلَّا الْقَلِيلَ مِنْهُمْ كَالْخَوَارِجِ، وَنَبَّهَ عَلَى الْبِدَعِ مِنْ غَيْرِ تَفْصِيلٍ، وَأَنَّ الْأُمَّةَ سَتَفْتَرِقُ عَلَى تِلْكَ الْعُدَّةِ الْمَذْكُورَةِ، وَأَشَارَ إِلَى خَوَاصَّ عَامَّةٍ فِيهِمْ وَخَاصَّةٍ، وَلَمْ يُصَرِّحْ بِالتَّعْيِينِ غَالِبًا تَصْرِيحًا لِقَطْعِ الْعُذْرِ، وَلَا ذَكَرَ فِيهِمْ عَلَامَةً قَاطِعَةً لَا تَلْتَبِسُ; فَنَحْنُ أَوْلَى بِذَلِكَ مَعْشَرَ الْأُمَّةِ. وَمَا ذَكَرَهُ الْمُتَقَدِّمُونَ مِنْ ذَلِكَ فَبِحَسَبِ فُحْشِ تِلْكَ الْبِدَعِ، وَأَنَّهَا لَاحِقَةٌ فِي جَوَازِ ذِكْرِهَا بِالْخَوَارِجِ وَنَحْوِهِمْ، مَعَ أَنَّ التَّعْيِينَ إِذَا كَانَ بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ; فَهُوَ مُمْكِنٌ أَنْ يَكُونَ هُوَ الْمُرَادَ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ أَوْ بَعْضِهِ، فَمَنْ بَلَغَ رُتْبَةَ الِاجْتِهَادِ اجْتَهَدَ، وَالْأَصْلُ مَا تَقَدَّمَ مِنَ السِّتْرِ; حَتَّى يَظْهَرَ أَمْرٌ فَيَكُونُ لَهُ حُكْمُهُ، وَيَبْقَى النَّظَرُ: هَلْ هَذَا الظَّاهِرُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَدْخُلُ تَحْتَ الْحَدِيثِ، أَمْ لَا؟ فَهُوَ مَوْضِعُ اجْتِهَادٍ. وَأَيْضًا; فَإِنَّ الْبِدَعَ الْمُحْدَثَةَ تَخْتَلِفُ; فَلَيْسَتْ كُلُّهَا فِي مَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ فِي الضَّلَالِ، أَلَا تَرَى أَنَّ بِدْعَةَ الْخَوَارِجِ مُبَايِنَةً غَايَةَ الْمُبَايَنَةِ لِبِدْعَةِ التَّثْوِيبِ بِالصَّلَاةِ، الَّتِي قَالَ فِيهَا مَالِكٌ: التَّثْوِيبُ ضَلَالٌ. وَقَدْ قَسَّمَ الْمُتَقَدِّمُونَ الْبِدَعَ إِلَى مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَإِلَى مَا هُوَ مُحَرَّمٌ، وَلَوْ كَانَتْ عِنْدَهُمْ عَلَى سَوَاءٍ; لَكَانَتْ قِسْمًا وَاحِدًا، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ; فَالْبِدَعُ الَّتِي تَفْتَرِقُ بِهَا الْأُمَّةُ مُخْتَلِفَةُ الرُّتَبِ فِي الْقُبْحِ، وَبِسَبَبِ ذَلِكَ يَظْهَرُ أَنَّهَا كَثِيرَةٌ جِدًّا، وَمَا فِي الْحَدِيثِ مَحْصُورٌ; فَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا غَيْرَ دَاخِلٍ فِي الْحَدِيثِ، أَوْ يَكُونُ بَعْضُهَا جُزْءًا مِنْ بِدْعَةٍ فَوْقَهَا أَعَظُمَ مِنْهَا، أَوْ لَا تَكُونُ دَاخِلَةً مِنْ حَيْثُ هِيَ عِنْدَ الْعُلَمَاءِ مِنْ قَبِيلِ الْمَكْرُوهِ; فَصَارَ الْقَطْعُ عَلَى خُصُوصِيَّاتِهَا فِيهِ نَظَرٌ وَاشْتِبَاهٌ، فَلَا يُقْدَمُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا بِبُرْهَانٍ قَاطِعٍ، وَهَذَا كَالْمَعْدُومِ فِيهَا; فَمِنْ هَذِهِ الْجِهَاتِ صَارَ الْأَوْلَى تَرْكَ التَّعْيِينِ فِيهَا. فَإِنْ قِيلَ: فَالْعُلَمَاءُ يَقُولُونَ خِلَافَ هَذَا، وَإِنَّ الْوَاجِبَ هُوَ التَّشْرِيدُ بِهِمْ وَالزَّجْرُ لَهُمْ، وَالْقَتْلُ وَمُنَاصَبَةُ الْقِتَالِ إِنِ امْتَنَعُوا وَإِلَّا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى فَسَادِ الدِّينِ. فَالْجَوَابُ: أَنَّ ذَلِكَ حُكْمٌ فِيهِمْ كَمَا هُوَ فِي سَائِرِ مَنْ تَظَاهَرَ بِمَعْصِيَةٍ صَغِيرَةٍ أَوْ كَبِيرَةٍ أَوْ دَعَا إِلَيْهَا أَنْ يُؤَدَّبَ أَوْ يُزْجَرَ أَوْ يُقْتَلَ إِنِ امْتَنَعَ مِنْ فِعْلِ وَاجِبٍ أَوْ تَرْكِ مُحَرَّمٍ كَمَا يُقْتَلُ تَارِكُ الصَّلَاةِ، وَإِنْ كَانَ مُقِرًّا إِلَى مَا دُونَ ذَلِكَ، وَإِنَّمَا الْكَلَامُ فِي تَعْيِينِ أَصْحَابِ الْبِدَعِ مِنْ حَيْثُ هِيَ بِدَعٌ يَشْمَلُهَا الْحَدِيثُ; فَتَوَجُّهُ الْأَحْكَامِ شَيْءٌ وَالتَّعْيِينُ لِلدُّخُولِ تَحْتَ الْحَدِيثِ شَيْءٌ آخَرُ.
وَلِهَؤُلَاءِ الْفِرَقِ خَوَاصُّ وَعَلَامَاتُ أَهْلِ الْبِدَعِ فِي الْجُمْلَةِ، وَعَلَامَاتٌ أَيْضًا فِي التَّفْصِيلِ. فَأَمَّا عَلَامَاتُ الْجُمْلَةِ; فَثَلَاثٌ: إِحْدَاهَا: الْفُرْقَةُ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الْأَنْعَام: 159] وَقَوْلُهُ: {وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا} [آلِ عِمْرَانَ: 105] وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْأَدِلَّةِ. قَالَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ: صَارُوا فِرَقًا لِاتِّبَاعِ أَهْوَائِهِمْ، وَبِمُفَارَقَةِ الدِّينِ تَشَتَّتْ أَهْوَاؤُهُمْ فَافْتَرَقُوا، وَهُوَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الْأَنْعَام: 159] ثُمَّ بَرَّأَهُ اللَّهُ مِنْهُمْ بِقَوْلِه: {لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ} [الْأَنْعَام: 159] وَهُمْ أَصْحَابُ الْبِدَعِ وَأَصْحَابُ الضَّلَالَاتِ وَالْكَلَامِ فِيمَا لَمْ يَأْذَنِ اللَّهُ فِيهِ، وَلَا رَسُولُهُ. قَالَ: وَوَجَدْنَا أَصْحَابَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ بَعْدِهِ قَدِ اخْتَلَفُوا فِي أَحْكَامِ الدِّينِ، وَلَمْ يَفْتَرِقُوا، وَلَمْ يَصِيرُوا شِيَعًا; لِأَنَّهُمْ لَمْ يُفَارِقُوا الدِّينَ، وَإِنَّمَا اخْتَلَفُوا فِيمَا أُذِنَ لَهُمْ مِنَ اجْتِهَادِ الرَّأْيِ، وَالِاسْتِنْبَاطِ مِنَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ فِيمَا لَمْ يَجِدُوا فِيهِ نَصًّا، وَاخْتَلَفَتْ فِي ذَلِكَ أَقْوَالُهُمْ; فَصَارُوا مَحْمُودِينَ لِأَنَّهُمُ اجْتَهَدُوا فِيمَا أُمِرُوا بِهِ; كَاخْتِلَافِ أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعَلِيٍّ وَزَيْدٍ فِي الْجَدِّ مَعَ الْأُمِّ، وَقَوْلِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ فِي أُمَّهَاتِ الْأَوْلَادِ، وَخِلَافِهِمْ فِي الْفَرِيضَةِ الْمُشْتَرِكَةِ، وَخِلَافِهِمْ فِي الطَّلَاقِ قَبْلَ النِّكَاحِ، وَفِي الْبُيُوعِ.. وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا اخْتَلَفُوا فِيهِ، وَكَانُوا مَعَ هَذَا أَهْلَ مَوَدَّةٍ وَتَنَاصُحٍ، وَأُخُوَّةُ الْإِسْلَامِ فِيمَا بَيْنَهُمْ قَائِمَةٌ، فَلَمَّا حَدَثَتِ الْأَهْوَاءُ الْمُرْدِيَةُ الَّتِي حَذَّرَ مِنْهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَظَهَرَتِ الْعَدَاوَاتُ، وَتَحَزَّبَ أَهْلُهَا فَصَارُوا شِيَعًا; دَلَّ عَلَى أَنَّهُ إِنَّمَا حَدَثَ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الْمُحْدَثَةِ الَّتِي أَلْقَاهَا الشَّيْطَانُ عَلَى أَفْوَاهِ أَوْلِيَائِهِ. قَالَ: فَكُلُّ مَسْأَلَةٍ حَدَثَتْ فِي الْإِسْلَامِ فَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهَا، وَلَمْ يُوَرِّثْ ذَلِكَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمْ عَدَاوَةً، وَلَا بَغْضَاءَ، وَلَا فُرْقَةً; عَلِمْنَا أَنَّهَا مِنْ مَسَائِلِ الْإِسْلَامِ، وَكُلُّ مَسْأَلَةٍ طَرَأَتْ فَأَوْجَبَتِ الْعَدَاوَةَ وَالتَّنَافُرَ وَالتَّنَابُزَ وَالْقَطِيعَةَ عَلِمْنَا أَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ أَمْرِ الدِّينِ فِي شَيْءٍ، وَأَنَّهَا الَّتِي عَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَفْسِيرِ الْآيَةِ، وَهِيَ قَوْلُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا} [الْأَنْعَام: 159] وَقَدْ تَقَدَّمَتْ; فَيَجِبُ عَلَى كُلِّ ذِي دِينٍ وَعَقْلٍ أَنْ يَجْتَنِبَهَا، وَدَلِيلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا} [آلِ عِمْرَانَ: 103] فَإِذَا اخْتَلَفُوا وَتَقَاطَعُوا; كَانَ ذَلِكَ لِحَدَثٍ أَحْدَثُوهُ مِنَ اتِّبَاعِ الْهَوَى. هَذَا مَا قَالَهُ، وَهُوَ ظَاهِرٌ فِي أَنَّ الْإِسْلَامَ يَدْعُو إِلَى الْأُلْفَةِ وَالتَّحَابِّ وَالتَّرَاحُمِ وَالتَّعَاطُفِ; فَكُلُّ رَأْيٍ أَدَّى إِلَى خِلَافِ ذَلِكَ فَخَارِجٌ عَنِ الدِّينِ. وَهَذِهِ الْخَاصِّيَّةُ مَوْجُودَةٌ فِي كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ، أَلَا تَرَى كَيْفَ كَانَتْ ظَاهِرَةً فِي الْخَوَارِجِ الَّذِينَ أَخْبَرَ بِهِمُ النَّبِيُّ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ فِي قَوْلِه: «يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدَعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ» وَأَيُّ فُرْقَةٍ تُوَازِي هَذَا إِلَّا الْفُرْقَةَ الَّتِي بَيْنَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَأَهْلِ الْكُفْرِ؟ وَهَكَذَا تَجِدُ الْأَمْرَ فِي سَائِرِ مَنْ عُرِفَ مِنَ الْفِرَقِ أَوْ مَنِ ادَّعَى ذَلِكَ فِيهِمْ. وَالْخَاصِّيَّةُ الثَّانِيَةُ: هِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ تَعَالَى: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} الْآيَةَ [آلِ عِمْرَانَ: 7]؛ فَجَعَلَ أَهْلَ الزَّيْغِ وَالْمَيْلِ عَنِ الْحَقِّ مِمَّنْ شَأْنُهُمُ اتِّبَاعُ الْمُتَشَابِهَاتِ وَقَدْ تَبَيَّنَ مَعْنَاهُ. وَقَالَ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ: «فَإِذَا رَأَيْتُمُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ; فَأُولَئِكَ الَّذِينَ سَمَّى اللَّهُ فَاحْذَرُوهُمْ». وَالْخَاصِّيَّةُ الثَّالِثَةُ: اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَهِيَ الَّتِي نَبَّهَ عَلَيْهَا قَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [آلِ عِمْرَانَ: 7] وَهُوَ الْمَيْلُ عَنِ الْحَقِّ اتِّبَاعًا لِلْهَوَى. وَقَوْلُهُ: {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ} [الْقَصَص: 50] وَقَوْلُهُ: {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ} الْآيَةَ [الْجَاثِيَة: 23] إِلَّا أَنَّ هَذِهِ الْخَاصِّيَّةَ رَاجِعَةٌ إِلَى كُلِّ أَحَدٍ فِي خَاصَّةِ نَفْسِهِ; لِأَنَّهَا أَمْرٌ بَاطِنٌ، فَلَا يَعْرِفُهَا غَيْرُ صَاحِبِهَا; إِلَّا أَنْ يَكُونَ عَلَيْهَا دَلِيلٌ فِي الظَّاهِرِ، وَالَّتِي قَبْلَهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْعُلَمَاءِ الرَّاسِخِينَ فِي الْعِلْمِ; لِأَنَّ بَيَانَ الْمُحْكَمِ وَالْمُتَشَابِهِ رَاجِعٌ إِلَيْهِمْ، فَهُمْ يَعْرِفُونَهَا وَيَعْرِفُونَ أَهْلَهَا بِمَعْرِفَتِهِمْ لَهَا، وَالَّتِي قَبْلَهَا تَعُمُّ جَمِيعَ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ; لِأَنَّ التَّوَاصُلَ أَوِ التَّقَاطُعَ مَعْرُوفٌ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ، وَبِمَعْرِفَتِهِ يُعْرَفُ أَهْلُهُ. وَأَمَّا الْعَلَامَاتُ التَّفْصِيلِيَّةُ فِي كُلِّ فِرْقَةٍ; مِنَ الْقُرْآنِ فَقَدْ نُبِّهَ عَلَيْهَا وَأُشِيرَ إِلَيْهَا كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} إِلَى قَوْلِه: {وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا} [النِّسَاء: 59، 60] وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ} [الْأَنْعَام: 116، 117]. وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى} [النِّسَاء: 115] إِلَى آخِرِهَا وَقَوْلُهُ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} الْآيَةَ [التَّوْبَة: 37]. وَقَوْلُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ} الْآيَةَ [يس: 47]. وَقَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ} [الْحَجّ: 11] إِلَى آخِرِ الْآيَتَيْنِ. وَقَوْلُهُ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ} إِلَى قَوْلِه: {لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ} [الْمَائِدَة: 101- 105]. وَقَوْلُهُ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 140]. وَقَوْلُهُ: {ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ} إِلَى قَوْلِه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} [الْأَنْعَام: 143- 144]. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا نَبَّهَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ الْحَكِيمُ. وَكَذَلِكَ فِي الْحَدِيثِ كَقَوْلِه: «إِنَّ اللَّهَ لَا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنَ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ الْعُلَمَاءَ، حَتَّى إِذَا لَمْ يَتْرُكْ عَالِمًا اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالًا، فَسُئِلُوا فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ; فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا». وَكَذَلِكَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ فِي قِسْمِ زَلَّةِ الْعَالِمِ وَغَيْرِهِ مِمَّا فِي الْأَحَادِيثِ الْمُخْتَصَّةِ بِهَذَا الْمَعْنَى، وَإِنَّمَا نُبِّهَ عَلَيْهَا لِتَنْبِيهِ الشَّرْعِ عَلَيْهَا، وَلَمْ يُصَرَّحْ بِهَا عَلَى الْإِطْلَاقِ لِمَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، فَمَنْ تَهَدَّى إِلَيْهَا فَذَاكَ، وَإِلَّا فَلَا عَلَيْهِ أَلَّا يُعْلِمَهَا، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
وَمِنْ هَذَا يُعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ مَا يُعْلَمُ مِمَّا هُوَ حَقٌّ يُطْلَبُ نَشْرُهُ، وَإِنْ كَانَ مِنْ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ وَمِمَّا يُفِيدُ عِلْمًا بِالْأَحْكَامِ، بَلْ ذَلِكَ يَنْقَسِمُ; فَمِنْهُ مَا هُوَ مَطْلُوبُ النَّشْرِ، وَهُوَ غَالِبُ عِلْمِ الشَّرِيعَةِ، وَمِنْهُ مَا لَا يُطْلَبُ نَشْرُهُ بِإِطْلَاقٍ، أَوْ لَا يُطْلَبُ نَشْرُهُ بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالٍ أَوْ وَقْتٍ أَوْ شَخْصٍ. وَمِنْ ذَلِكَ تَعْيِينُ هَذِهِ الْفِرَقِ; فَإِنَّهُ وَإِنْ كَانَ حَقًّا فَقَدْ يُثِيرُ فِتْنَةً كَمَا تَبَيَّنَ تَقْرِيرُهُ; فَيَكُونُ مِنْ تِلْكَ الْجِهَةِ مَمْنُوعًا بَثُّهُ. وَمِنْ ذَلِكَ عِلْمُ الْمُتَشَابِهَاتِ وَالْكَلَامُ فِيهَا; فَإِنَّ اللَّهَ ذَمَّ مَنِ اتَّبَعَهَا، فَإِذَا ذُكِرَتْ وَعُرِضَتْ لِلْكَلَامِ فِيهَا; فَرُبَّمَا أَدَّى ذَلِكَ إِلَى مَا هُوَ مُسْتَغْنًى عَنْهُ، وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ عَنْ عَلِيٍّ: حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَفْهَمُونَ أَتُرِيدُونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ. وَفِي الصَّحِيحِ عَنْ مُعَاذٍ أَنَّهُ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ قَالَ: «يَا مُعَاذُ تَدْرِي مَا حَقُّ اللَّهِ عَلَى الْعِبَادِ، وَمَا حَقُّ الْعِبَادِ عَلَى اللَّهِ.. الْحَدِيثَ إِلَى أَنْ قَالَ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُبَشِّرُ النَّاسَ، قَالَ: لَا تُبَشِّرْهُمْ فَيَتَّكِلُوا. وَفِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ مُعَاذٍ فِي مِثْلِهِ قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَفَلَا أُخْبِرُ بِهَا فَيَسْتَبْشِرُوا؟ فَقَالَ: «إِذًا يَتَّكِلُوا»، قَالَ أَنَسٌ: فَأَخْبَرَ بِهَا مُعَاذٌ عِنْدَ مَوْتِهِ تَأَثُّمًا. وَنَحْوٌ مِنْ هَذَا عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ مَعَ أَبِي هُرَيْرَةَ، انْظُرُهُ فِي كِتَابِ مُسْلِمٍ وَالْبُخَارِيِّ; فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ عُمَرُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي، أَبَعَثْتَ أَبَا هُرَيْرَةَ بِنَعْلَيْكَ مَنْ لَقِيَ يَشْهَدُ أَلَّا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ مُسْتَيْقِنًا بِهِ قَلْبُهُ بَشَّرَهُ بِالْجَنَّةِ؟ قَالَ: «نَعَمْ»، قَالَ: فَلَا تَفْعَلْ; فَإِنِّي أَخْشَى أَنْ يَتَّكِلَ النَّاسُ عَلَيْهَا فَخَلِّهِمْ يَعْمَلُونَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «فَخَلِّهِمْ». وَحَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ، قَالَ: لَوْ شَهِدْتُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَتَاهُ رَجُلٌ، فَقَالَ: إِنَّ فُلَانًا يَقُولُ: لَوْ مَاتَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَبَايَعْنَا فُلَانًا، فَقَالَ عُمَرُ: لَأَقُومَنَّ الْعَشِيَّةَ فَأُحَذِّرُ هَؤُلَاءِ الرَّهْطَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَغْصِبُوهُمْ، قُلْتُ: لَا تَفْعَلْ; فَإِنَّ الْمَوْسِمَ يَجْمَعُ رَعَاعَ النَّاسِ وَيَغْلِبُونَ عَلَى مَجْلِسِكَ; فَأَخَافُ أَلَّا يُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا; فَيَطِيرُوا بِهَا كُلَّ مُطَيِّرٍ، وَأَمْهِلْ حَتَّى تَقْدُمَ الْمَدِينَةَ دَارَ الْهِجْرَةِ وَدَارَ السُّنَّةِ، فَتَخْلُصَ بِأَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَيَحْفَظُوا مَقَالَتَكَ وَيُنْزِلُوهَا عَلَى وَجْهِهَا، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَأَقُومَنَّ بِهِ فِي أَوَّلِ مَقَامٍ أَقُومُهُ بِالْمَدِينَةِ. الْحَدِيثَ. وَمِنْهُ حَدِيثُ سَلْمَانَ مَعَ حُذَيْفَةَ وَقَدْ تَقَدَّمَ. وَمِنْهُ أَلَّا يَذْكُرَ لِلْمُبْتَدِئِ مِنَ الْعِلْمِ مَا هُوَ حَظُّ الْمُنْتَهِي، بَلْ يُرَبِّي بِصِغَارِ الْعِلْمِ قَبْلَ كِبَارِهِ، وَقَدْ فَرَضَ الْعُلَمَاءُ مَسَائِلَ مِمَّا لَا يَجُوزُ الْفُتْيَا بِهَا وَإِنْ كَانَتْ صَحِيحَةً فِي نَظَرِ الْفِقْهِ، كَمَا ذَكَرَ عِزُّ الدِّينِ بْنُ عَبْدِ السَّلَامِ فِي مَسْأَلَةِ الدَّوْرِ فِي الطَّلَاقِ لِمَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ مِنْ رَفْعِ حُكْمِ الطَّلَاقِ بِإِطْلَاقٍ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ. مِنْ ذَلِكَ سُؤَالُ الْعَوَامِّ عَنْ عِلَلِ مَسَائِلِ الْفِقْهِ وَحُكْمِ التَّشْرِيعَاتِ، وَإِنْ كَانَ لَهَا عِلَلٌ صَحِيحَةٌ وَحِكَمٌ مُسْتَقِيمَةٌ، وَلِذَلِكَ أَنْكَرَتْ عَائِشَةُ عَلَى مَنْ قَالَتْ: لِمَ تَقْضِي الْحَائِضُ الصَّوْمَ، وَلَا تَقْضِي الصَّلَاةَ؟ وَقَالَتْ لَهَا: أَحَرُورِيَّةٌ أَنْتِ؟ وَقَدْ ضَرَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ صَبِيغًا وَشَرَّدَ بِهِ لَمَّا كَانَ كَثِيرَ السُّؤَالِ عَنْ أَشْيَاءَ مِنْ عُلُومِ الْقُرْآنِ لَا يَتَعَلَّقُ بِهَا عَمَلٌ، وَرُبَّمَا أَوْقَعَ خَبَالًا وَفِتْنَةً وَإِنْ كَانَ صَحِيحًا وَتَلَا قَوْلَهُ تَعَالَى: {وَفَاكِهَةً وَأَبًّا} [عَبَسَ: 31] فَقَالَ هَذِهِ الْفَاكِهَةُ فَمَا الْأَبُّ؟ ثُمَّ قَالَ: مَا أُمِرْنَا بِهَذَا. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ عِلْمٍ يُبَثُّ وَيُنْشَرُ، وَإِنْ كَانَ حَقًّا، وَقَدْ أَخْبَرَ مَالِكٌ عَنْ نَفْسِهِ أَنَّ عِنْدَهُ أَحَادِيثَ وَعِلْمًا مَا تَكَلَّمَ فِيهَا، وَلَا حَدَّثَ بِهَا، وَكَانَ يَكْرَهُ الْكَلَامَ فِيمَا لَيْسَ تَحْتَهُ عَمَلٌ، وَأُخْبِرَ عَمَّنْ تَقَدَّمَهُ أَنَّهُمْ كَانُوا يَكْرَهُونَ ذَلِكَ فَتَنَبَّهْ لِهَذَا الْمَعْنَى. وَضَابِطُهُ أَنَّكَ تَعْرِضُ مَسْأَلَتَكَ عَلَى الشَّرِيعَةِ; فَإِنْ صَحَّتْ فِي مِيزَانِهَا; فَانْظُرْ فِي مَآلِهَا بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَالِ الزَّمَانِ وَأَهْلِهِ; فَإِنْ لَمْ يُؤَدِّ ذِكْرُهَا إِلَى مَفْسَدَةٍ فَاعْرِضْهَا فِي ذِهْنِكَ عَلَى الْعُقُولِ; فَإِنْ قَبِلَتْهَا; فَلَكَ أَنْ تَتَكَلَّمَ فِيهَا إِمَّا عَلَى الْعُمُومِ إِنْ كَانَتْ مِمَّا تَقْبَلُهَا الْعُقُولُ عَلَى الْعُمُومِ، وَإِمَّا عَلَى الْخُصُوصِ إِنْ كَانَتْ غَيْرَ لَائِقَةٍ بِالْعُمُومِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لِمَسْأَلَتِكَ هَذَا الْمَسَاغُ; فَالسُّكُوتُ عَنْهَا هُوَ الْجَارِي عَلَى وَفْقِ الْمَصْلَحَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْعَقْلِيَّةِ.
هَذِهِ الْفِرَقُ، وَإِنْ كَانَتْ عَلَى مَا هِيَ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالِ; فَلَمْ تَخْرُجْ مِنَ الْأُمَّةِ، وَدَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ: «تَفْتَرِقُ أُمَّتِي» فَإِنَّهُ لَوْ كَانَتْ بِبِدْعَتِهَا تَخْرُجُ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يُضِفْهَا إِلَيْهَا. وَقَدْ جَاءَ فِي الْخَوَارِج: «فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ كَذَا» فَأَتَى بِـ فِي الْمُقْتَضِيَةِ أَنَّهَا فِيهَا وَفِي جُمْلَتِهَا. وَقَالَ فِي الْحَدِيث: «وَتَتَمَارَى فِي الْفَوْقِ» وَلَوْ كَانُوا خَارِجِينَ مِنَ الْأُمَّةِ لَمْ يَقَعْ تَمَارٍ فِي كُفْرِهِمْ، وَلَقَالَ: إِنَّهُمْ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي تَكْفِيرِ أَهْلِ الْبِدَعِ; كَالْخَوَارِجُ وَالْقَدَرِيَّةُ وَغَيْرِهِمَا. فَالْجَوَابُ: أَنَّهُ لَيْسَ فِي النُّصُوصِ الشَّرْعِيَّةِ مَا يَدُلُّ دَلَالَةً قَطْعِيَّةً عَلَى خُرُوجِهِمْ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَالْأَصْلُ بَقَاؤُهُ حَتَّى يَدُلَّ دَلِيلٌ عَلَى خِلَافِهِ، وَإِذَا قُلْنَا بِتَكْفِيرِهِمْ; فَلَيْسُوا إِذًا مِنْ تِلْكَ الْفِرَقِ، بَلِ الْفِرَقُ مَنْ لَمْ تُؤَدِّهِمْ بِدْعَتُهُمْ إِلَى الْكُفْرِ، وَإِنَّمَا أَبْقَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوْصَافِ الْإِسْلَامِ مَا دَخَلُوا بِهِ فِي أَهْلِهِ، وَالْأَمْرُ بِالْقَتْلِ فِي حَدِيثِ الْخَوَارِجِ لَا يَدُلُّ عَلَى الْكُفْرِ؛ إِذْ لِلْقَتْلِ أَسْبَابٌ غَيْرُ الْكُفْرِ، كَقَتْلِ الْمُحَارِبِ وَالْفِئَةِ الْبَاغِيَةِ بِغَيْرِ تَأْوِيلٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ; فَالْحَقُّ أَلَّا يُحْكَمَ بِكُفْرِ مَنْ هَذَا سَبِيلُهُ، وَبِهَذَا كُلِّهِ يَتَبَيَّنُ أَنَّ التَّعْيِينَ فِي دُخُولِهِمْ تَحْتَ مُقْتَضَى الْحَدِيثِ صَعْبٌ، وَأَنَّهُ أَمْرٌ اجْتِهَادِيٌّ لَا قَطْعَ فِيهِ; إِلَّا مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْقَاطِعُ لِلْعُذْرِ، وَمَا أَعَزَّ وُجُودُ مِثْلِهِ.
النَّظَرُ فِي مَآلَاتِ الْأَفْعَالِ مُعْتَبَرٌ مَقْصُودٌ شَرْعًا كَانَتِ الْأَفْعَالُ مُوَافِقَةً أَوْ مُخَالِفَةً، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا يَحْكُمُ عَلَى فِعْلٍ مِنَ الْأَفْعَالِ الصَّادِرَةِ عَنِ الْمُكَلَّفِينَ بِالْإِقْدَامِ أَوْ بِالْإِحْجَامِ إِلَّا بَعْدَ نَظَرِهِ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ ذَلِكَ الْفِعْلُ، مَشْرُوعًا لِمَصْلَحَةٍ فِيهِ تُسْتَجْلَبُ، أَوْ لِمَفْسَدَةٍ تُدْرَأُ، وَلَكِنْ لَهُ مَآلٌ عَلَى خِلَافِ مَا قُصِدَ فِيهِ، وَقَدْ يَكُونُ غَيْرَ مَشْرُوعٍ لِمَفْسَدَةٍ تَنْشَأُ عَنْهُ أَوْ مَصْلَحَةٍ تَنْدَفِعُ بِهِ، وَلَكِنْ لَهُ مَآلٌ عَلَى خِلَافِ ذَلِكَ، فَإِذَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي الْأَوَّلِ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ; فَرُبَّمَا أَدَّى اسْتِجْلَابُ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ إِلَى الْمَفْسَدَةِ تُسَاوِي الْمَصْلَحَةَ أَوْ تَزِيدُ عَلَيْهَا; فَيَكُونُ هَذَا مَانِعًا مِنْ إِطْلَاقِ الْقَوْلِ بِالْمَشْرُوعِيَّةِ، وَكَذَلِكَ إِذَا أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي الثَّانِي بِعَدَمِ مَشْرُوعِيَّةٍ رُبَّمَا أَدَّى اسْتِدْفَاعُ الْمَفْسَدَةِ إِلَى مَفْسَدَةٍ تُسَاوِي أَوْ تَزِيدُ، فَلَا يَصِحُّ إِطْلَاقُ الْقَوْلِ بِعَدَمِ الْمَشْرُوعِيَّةِ، وَهُوَ مَجَالٌ لِلْمُجْتَهِدِ صَعْبُ الْمَوْرِدِ إِلَّا أَنَّهُ عَذْبُ الْمَذَاقِ مَحْمُودُ الْغَبِّ جَارٍ عَلَى مَقَاصِدِ الشَّرِيعَةِ. وَالدَّلِيلُ عَلَى صِحَّتِهِ أُمُورٌ: أَحَدُهَا: أَنَّ التَّكَالِيفَ شُرِعَتْ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ- كَمَا تَقَدَّمَ- مَشْرُوعَةٌ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَمَصَالِحُ الْعِبَادِ إِمَّا دُنْيَوِيَّةٌ وَإِمَّا أُخْرَوِيَّةٌ، أَمَّا الْأُخْرَوِيَّةُ فَرَاجِعَةٌ إِلَى مَآلِ الْمُكَلَّفِ فِي الْآخِرَةِ لِيَكُونَ مِنْ أَهْلِ النَّعِيمِ لَا مِنْ أَهْلِ الْجَحِيمِ، وَأَمَّا الدُّنْيَوِيَّةُ; فَإِنَّ الْأَعْمَالَ- إِذَا تَأَمَّلْتَهَا- مُقَدِّمَاتٌ لِنَتَائِجِ الْمَصَالِحِ; فَإِنَّهَا أَسْبَابٌ لِمُسَبَّبَاتٍ هِيَ مَقْصُودَةٌ لِلشَّارِعِ، وَالْمُسَبَّبَاتُ هِيَ مَآلَاتُ الْأَسْبَابِ; فَاعْتِبَارُهَا فِي جَرَيَانِ الْأَسْبَابِ مَطْلُوبٌ، وَهُوَ مَعْنَى النَّظَرِ فِي الْمَآلَاتِ. لَا يُقَالُ: إِنَّهُ قَدْ مَرَّ فِي كِتَابِ الْأَحْكَامِ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ لَا يَلْزَمُ الِالْتِفَاتُ إِلَيْهَا عِنْدَ الدُّخُولِ فِي الْأَسْبَابِ، لِأَنَّا نَقُولُ- وَتَقَدَّمَ أَيْضًا-: أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنَ اعْتِبَارِ الْمُسَبَّبَاتِ فِي الْأَسْبَابِ، وَمَرَّ الْكَلَامُ فِي ذَلِكَ وَالْجَمْعِ بَيْنَ الْمَطْلَبَيْنِ، وَمَسْأَلَتُنَا مِنَ الثَّانِي لَا مِنَ الْأَوَّلِ; لِأَنَّهَا رَاجِعَةٌ إِلَى الْمُجْتَهِدِ النَّاظِرِ فِي حُكْمِ غَيْرِهِ عَلَى الْبَرَاءَةِ مِنَ الْحُظُوظِ; فَإِنَّ الْمُجْتَهِدَ نَائِبٌ عَنِ الشَّارِعِ فِي الْحُكْمِ عَلَى أَفْعَالِ الْمُكَلَّفِينَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الشَّارِعَ قَاصِدٌ لِلْمُسَبَّبَاتِ فِي الْأَسْبَابِ، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ لَمْ يَكُنْ لِلْمُجْتَهِدِ بُدٌّ مِنَ اعْتِبَارِ الْمُسَبَّبِ، وَهُوَ مَآلُ السَّبَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ مَآلَاتِ الْأَعْمَالِ إِمَّا أَنْ تَكُونَ مُعْتَبَرَةً شَرْعًا أَوْ غَيْرَ مُعْتَبَرَةٍ; فَإِنِ اعْتُبِرَتْ فَهُوَ الْمَطْلُوبُ، وَإِنْ لَمْ تُعْتَبَرْ أَمْكَنَ أَنْ يَكُونَ لِلْأَعْمَالِ مَآلَاتٌ مُضَادَّةٌ لِمَقْصُودِ تِلْكَ الْأَعْمَالِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ; لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّ التَّكَالِيفَ لِمَصَالِحِ الْعِبَادِ، وَلَا مَصْلَحَةَ تُتَوَقَّعُ مُطْلَقًا مَعَ إِمْكَانِ وُقُوعِ مَفْسَدَةٍ تُوَازِيهَا أَوْ تَزِيدُ. وَأَيْضًا; فَإِنَّ ذَلِكَ يُؤَدِّي إِلَى أَلَّا نَتَطَلَّبَ مَصْلَحَةً بِفِعْلٍ مَشْرُوعٍ، وَلَا نَتَوَقَّعَ مَفْسَدَةً بِفِعْلٍ مَمْنُوعٍ، وَهُوَ خِلَافُ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ كَمَا سَبَقَ. وَالثَّالِثُ: الْأَدِلَّةُ الشَّرْعِيَّةُ وَالِاسْتِقْرَاءُ التَّامُّ أَنَّ الْمَآلَاتِ مُعْتَبَرَةٌ فِي أَصْلِ الْمَشْرُوعِيَّةِ; كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْبَقَرَة: 21]. وَقَوْلِه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [الْبَقَرَة: 183]. وَقَوْلِه: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 188]. وَقَوْلِه: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} الْآيَةَ [الْأَنْعَام: 108]. وَقَوْلِه: {رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 165]. وَقَوْلِه: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ} [الْأَحْزَاب: 37]. وَقَوْلِه: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} الْآيَةَ [الْبَقَرَة: 216]. وَقَوْلِه: {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ} [الْبَقَرَة: 179]. وَهَذَا مِمَّا فِيهِ اعْتِبَارُ الْمَآلِ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَأَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْخُصُوصِ; فَكَثِيرٌ، فَقَدْ قَالَ فِي الْحَدِيثِ حِينَ أُشِيرَ عَلَيْهِ بِقَتْلِ مَنْ ظَهَرَ نِفَاقُهُ: «أَخَافُ أَنْ يَتَحَدَّثَ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدًا يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ». وَقَوْلُهُ: «لَوْلَا قَوْمُكِ حَدِيثُ عَهْدِهِمْ بِكُفْرٍ لَأَسَّسْتُ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ» بِمُقْتَضَى هَذَا أَفْتَى مَالِكٌ الْأَمِيرَ حِينَ أَرَادَ أَنْ يَرُدَّ الْبَيْتَ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، فَقَالَ لَهُ: لَا تَفْعَلْ لِئَلَّا يَتَلَاعَبَ النَّاسُ بِبَيْتِ اللَّهِ، هَذَا مَعْنَى الْكَلَامِ دُونَ لَفْظِهِ. وَفِي حَدِيث: «الْأَعْرَابِيِّ الَّذِي بَالَ فِي الْمَسْجِدِ أَمَرَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِتَرْكِهِ حَتَّى يُتِمَّ بَوْلَهُ وَقَالَ: لَا تُزْرِمُوهُ». وَحَدِيثُ النَّهْيِ عَنِ التَّشْدِيدِ عَلَى النَّفْسِ فِي الْعِبَادَةِ خَوْفًا مِنَ الِانْقِطَاعِ. وَجَمِيعُ مَا مَرَّ فِي تَحْقِيقِ الْمَنَاطِ الْخَاصِّ مِمَّا فِيهِ هَذَا الْمَعْنَى حَيْثُ يَكُونُ الْعَمَلُ فِي الْأَصْلِ مَشْرُوعًا، لَكِنْ يُنْهَى عَنْهُ لِمَا يُؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الْمَفْسَدَةِ أَوْ مَمْنُوعًا، لَكِنْ يُتْرَكُ النَّهْيُ عَنْهُ لِمَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْمَصْلَحَةِ، وَكَذَلِكَ الْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى سَدِّ الذَّرَائِعِ كُلِّهَا; فَإِنَّ غَالِبَهَا تَذَرُّعٌ بِفِعْلٍ جَائِزٍ إِلَى عَمَلٍ غَيْرِ جَائِزٍ، فَالْأَصْلُ عَلَى الْمَشْرُوعِيَّةِ، لَكِنَّ مَآلَهُ غَيْرُ مَشْرُوعٍ، وَالْأَدِلَّةُ الدَّالَّةُ عَلَى التَّوْسِعَةِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ كُلُّهَا; فَإِنَّ غَالِبَهَا سَمَاحٌ فِي عَمَلٍ غَيْرِ مَشْرُوعٍ فِي الْأَصْلِ لِمَا يَؤُولُ إِلَيْهِ مِنَ الرِّفْقِ الْمَشْرُوعِ، وَلَا مَعْنَى لِلْإِطْنَابِ بِذِكْرِهَا لِكَثْرَتِهَا وَاشْتِهَارِهَا. قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ حِينَ أَخَذَ فِي تَقْرِيرِ هَذِهِ الْمَسْأَلَة: اخْتَلَفَ النَّاسُ بِزَعْمِهِمْ فِيهَا، وَهِيَ مُتَّفَقٌ عَلَيْهَا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ; فَافْهَمُوهَا وَادَّخِرُوهَا. فَصْلٌ وَهَذَا الْأَصْلُ يَنْبَنِي عَلَيْهِ قَوَاعِدُ: - مِنْهَا قَاعِدَةُ الذَّرَائِعِ الَّتِي حَكَّمَهَا مَالِكٌ فِي أَكْثَرِ أَبْوَابِ الْفِقْهِ; لِأَنَّ حَقِيقَتَهَا التَّوَسُّلُ بِمَا هُوَ مَصْلَحَةٌ إِلَى مَفْسَدَةٍ; فَإِنَّ عَاقِدَ الْبَيْعِ أَوَّلًا عَلَى سِلْعَةٍ بِعَشَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ ظَاهِرُ الْجَوَازِ مِنْ جِهَةِ مَا يَتَسَبَّبُ عَنِ الْبَيْعِ مِنَ الْمَصَالِحِ عَلَى الْجُمْلَةِ، فَإِذَا جَعَلَ مَآلَ ذَلِكَ الْبَيْعِ مُؤَدِّيًا إِلَى بَيْعِ خَمْسَةٍ نَقْدًا بِعَشَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ; بِأَنْ يَشْتَرِيَ الْبَائِعُ سِلْعَتَهُ مِنْ مُشْتَرِيهَا مِنْهُ بِخَمْسَةٍ نَقْدًا; فَقَدْ صَارَ مَآلُ هَذَا الْعَمَلِ إِلَى أَنْ بَاعَ صَاحِبُ السِّلْعَةِ مِنْ مُشْتَرِيهَا مِنْهُ خَمْسَةً نَقْدًا بِعَشَرَةٍ إِلَى أَجَلٍ، وَالسِّلْعَةُ لَغْوٌ لَا مَعْنَى لَهَا فِي هَذَا الْعَمَلِ; لِأَنَّ الْمَصَالِحَ الَّتِي لِأَجْلِهَا شُرِعَ الْبَيْعُ لَمْ يُوجَدْ مِنْهَا شَيْءٌ، وَلَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ أَنْ يَظْهَرَ لِذَلِكَ قَصْدٌ وَيَكْثُرَ فِي النَّاسِ بِمُقْتَضَى الْعَادَةِ. وَمَنْ أَسْقَطَ حُكْمَ الذَّرَائِعِ كَالشَّافِعِيِّ; فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَآلَ أَيْضًا; لِأَنَّ الْبَيْعَ إِذَا كَانَ مَصْلَحَةً جَازَ، وَمَا فُعِلَ مِنَ الْبَيْعِ الثَّانِي فَتَحْصِيلٌ لِمَصْلَحَةٍ أُخْرَى مُنْفَرِدَةٍ عَنِ الْأُولَى; فَكُلُّ عُقْدَةٍ مِنْهُمَا لَهَا مَآلُهَا، وَمَآلُهَا فِي ظَاهِرِ أَحْكَامِ الْإِسْلَامِ مَصْلَحَةٌ، فَلَا مَانِعَ عَلَى هَذَا; إِذْ لَيْسَ ثَمَّ مَآلٌ هُوَ مَفْسَدَةٌ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ، وَلَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ أَلَّا يَظْهَرَ قَصْدٌ إِلَى الْمَآلِ الْمَمْنُوعِ. وَلِأَجْلِ ذَلِكَ يَتَّفِقُ الْفَرِيقَانِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ التَّعَاوُنُ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ بِإِطْلَاقٍ وَاتَّفَقُوا فِي خُصُوصِ الْمَسْأَلَةِ عَلَى أَنَّهُ لَا يَجُوزُ سَبُّ الْأَصْنَامِ حَيْثُ يَكُونُ سَبَبًا فِي سَبِّ اللَّهِ، عَمَلًا بِمُقْتَضَى قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ} [الْأَنْعَام: 108] وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِنَ الْمَسَائِلِ الَّتِي اتَّفَقَ مَالِكٌ مَعَ الشَّافِعِيِّ عَلَى مَنْعِ التَّوَسُّلِ فِيهَا. وَأَيْضًا، فَلَا يَصِحُّ أَنْ يَقُولَ الشَّافِعِيُّ: إِنَّهُ يَجُوزُ التَّذَرُّعُ إِلَى الرِّبَا بِحَالٍ; إِلَّا أَنَّهُ لَا يَتَّهِمُ مَنْ لَمْ يَظْهَرْ مِنْهُ قَصْدٌ إِلَى الْمَمْنُوعِ وَمَالِكٌ يَتَّهِمُ بِسَبَبِ ظُهُورِ فِعْلِ اللَّغْوِ، وَهُوَ دَالٌّ عَلَى الْقَصْدِ إِلَى الْمَمْنُوعِ; فَقَدْ ظَهَرَ أَنَّ قَاعِدَةَ الذَّرَائِعِ مُتَّفَقٌ عَلَى اعْتِبَارِهَا فِي الْجُمْلَةِ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَمْرٍ آخَرَ. - وَمِنْهَا: قَاعِدَةُ الْحِيَلِ; فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا الْمَشْهُورَةَ تَقْدِيمُ عَمَلٍ ظَاهِرِ الْجَوَازِ لِإِبْطَالِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ وَتَحْوِيلِهِ فِي الظَّاهِرِ إِلَى حُكْمٍ آخَرَ، فَمَآلُ الْعَمَلِ فِيهَا خَرْمُ قَوَاعِدِ الشَّرِيعَةِ فِي الْوَاقِعِ; كَالْوَاهِبِ مَالَهُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ فِرَارًا مِنَ الزَّكَاةِ; فَإِنَّ أَصْلَ الْهِبَةِ عَلَى الْجَوَازِ، وَلَوْ مَنَعَ الزَّكَاةَ مِنْ غَيْرِ هِبَةٍ لَكَانَ مَمْنُوعًا; فَإِنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا ظَاهِرٌ أَمْرُهُ فِي الْمَصْلَحَةِ أَوِ الْمَفْسَدَةِ، فَإِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا عَلَى هَذَا الْقَصْدِ; صَارَ مَآلُ الْهِبَةِ الْمَنْعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، وَهُوَ مَفْسَدَةٌ، وَلَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ الْقَصْدِ إِلَى إِبْطَالِ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ. وَمَنْ أَجَازَ الْحِيَلَ كَأَبِي حَنِيفَةَ; فَإِنَّهُ اعْتَبَرَ الْمَآلَ أَيْضًا، لَكِنْ عَلَى حُكْمِ الِانْفِرَادِ; فَإِنَّ الْهِبَةَ عَلَى أَيِّ قَصْدٍ كَانَتْ مُبْطِلَةً لِإِيجَابِ الزَّكَاةِ; كَإِنْفَاقِ الْمَالِ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ، وَأَدَاءِ الدَّيْنِ مِنْهُ، وَشِرَاءِ الْعُرُوضِ بِهِ، وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا تَجِبُ فِيهِ زَكَاةٌ، وَهَذَا الْإِبْطَالُ صَحِيحٌ جَائِزٌ; لِأَنَّهُ مَصْلَحَةٌ عَائِدَةٌ عَلَى الْوَاهِبِ وَالْمُنْفِقِ، لَكِنَّ هَذَا بِشَرْطِ أَلَّا يُقْصَدَ إِبْطَالُ الْحُكْمِ؛ فَإِنَّ هَذَا الْقَصْدَ بِخُصُوصِهِ مَمْنُوعٌ; لِأَنَّهُ عِنَادٌ لِلشَّارِعِ كَمَا إِذَا امْتَنَعَ مِنْ أَدَاءِ الزَّكَاةِ، فَلَا يُخَالِفُ أَبُو حَنِيفَةَ فِي أَنَّ قَصْدَ إِبْطَالِ الْأَحْكَامِ صُرَاحًا مَمْنُوعٌ، وَأَمَّا إِبْطَالُهَا ضِمْنًا، فَلَا، وَإِلَّا امْتُنِعَتِ الْهِبَةُ عِنْدَ رَأْسِ الْحَوْلِ مُطْلَقًا، وَلَا يَقُولُ بِهَذَا وَاحِدٌ مِنْهُمْ. وَلِذَلِكَ اتَّفَقُوا عَلَى تَحْرِيمِ الْقَصْدِ بِالْإِيمَانِ وَالصَّلَاةِ وَغَيْرِهِمَا إِلَى مُجَرَّدِ إِحْرَازِ النَّفْسِ وَالْمَالِ; كَالْمُنَافِقِينَ وَالْمُرَائِينَ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ; وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ التَّحَيُّلَ عَلَى الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ بَاطِلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ نَظَرًا إِلَى الْمَآلِ، وَالْخِلَافُ إِنَّمَا وَقَعَ فِي أَمْرٍ آخَرَ. - وَمِنْهَا: قَاعِدَةُ مُرَاعَاةِ الْخِلَافِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمَمْنُوعَاتِ فِي الشَّرْعِ إِذَا وَقَعَتْ; فَلَا يَكُونُ إِيقَاعُهَا مِنَ الْمُكَلَّفِ سَبَبًا فِي الْحَيْفِ عَلَيْهِ بِزَائِدٍ عَلَى مَا شَرَعَ لَهُ مِنَ الزَّوَاجِرِ أَوْ غَيْرِهَا، كَالْغَصْبِ مَثَلًا إِذَا وَقَعَ; فَإِنَّ الْمَغْصُوبَ مِنْهُ لَا بُدَّ أَنْ يُوَفَّى حَقَّهُ، لَكِنْ عَلَى وَجْهٍ لَا يُؤَدِّي إِلَى إِضْرَارِ الْغَاصِبِ فَوْقَ مَا يَلِيقُ بِهِ فِي الْعَدْلِ وَالْإِنْصَافِ، فَإِذَا طُولِبَ الْغَاصِبُ بِأَدَاءِ مَا غَصَبَ أَوْ قِيمَتِهِ أَوْ مِثْلِهِ، وَكَانَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ صَحَّ، فَلَوْ قُصِدَ فِيهِ حَمْلٌ عَلَى الْغَاصِبِ لَمْ يَلْزَمْ; لِأَنَّ الْعَدْلَ هُوَ الْمَطْلُوبُ، وَيَصِحُّ إِقَامَةُ الْعَدْلِ مَعَ عَدَمِ الزِّيَادَةِ، وَكَذَلِكَ الزَّانِي إِذَا حُدَّ لَا يُزَادُ عَلَيْهِ بِسَبَبِ جِنَايَتِهِ; لِأَنَّهُ ظُلْمٌ لَهُ، وَكَوْنُهُ جَانِيًا لَا يُجْنَى عَلَيْهِ زَائِدًا عَلَى الْحَدِّ الْمُوَازِي لِجِنَايَتِهِ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْأَمْثِلَةِ الدَّالَّةِ عَلَى مَنْعِ التَّعَدِّي عَلَى الْمُتَعَدِّي أَخْذًا مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} [الْبَقَرَة: 194] وَقَوْلِه: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [الْمَائِدَة: 45] وَنَحْوِ ذَلِكَ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا; فَمَنْ وَاقَعَ مَنْهِيًّا عَنْهُ فَقَدْ يَكُونُ فِيمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنَ الْأَحْكَامِ زَائِدٌ عَلَى مَا يَنْبَغِي بِحُكْمِ التَّبَعِيَّةِ لَا بِحُكْمِ الْأَصَالَةِ، أَوْ مُؤَدٍّ إِلَى أَمْرٍ أَشَدَّ عَلَيْهِ مِنْ مُقْتَضَى النَّهْيِ; فَيُتْرَكُ وَمَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ، أَوْ نُجِيزُ مَا وَقَعَ مِنَ الْفَسَادِ عَلَى وَجْهٍ يَلِيقُ بِالْعَدْلِ، نَظَرًا إِلَى أَنَّ ذَلِكَ الْوَاقِعَ وَافَقَ الْمُكَلَّفَ فِيهِ دَلِيلًا عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا; فَهُوَ رَاجِحٌ بِالنِّسْبَةِ إِلَى إِبْقَاءِ الْحَالَةِ عَلَى مَا وَقَعَتْ عَلَيْهِ; لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى مِنْ إِزَالَتِهَا مَعَ دُخُولِ ضَرَرٍ عَلَى الْفَاعِلِ أَشَدِّ مِنْ مُقْتَضَى النَّهْيِ; فَيَرْجِعُ الْأَمْرُ إِلَى أَنَّ النَّهْيَ كَانَ دَلِيلُهُ أَقْوَى قَبْلَ الْوُقُوعِ، وَدَلِيلُ الْجَوَازِ أَقْوَى بَعْدَ الْوُقُوعِ; لِمَا اقْتَرَنَ بِهِ مِنَ الْقَرَائِنِ الْمُرَجِّحَةِ، كَمَا وَقَعَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ فِي حَدِيثِ تَأْسِيسِ الْبَيْتِ عَلَى قَوَاعِدِ إِبْرَاهِيمَ، وَحَدِيثِ تَرْكِ قَتْلِ الْمُنَافِقِينَ، وَحَدِيثِ الْبَائِلِ فِي الْمَسْجِدِ; فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَرَ بِتَرْكِهِ حَتَّى يُتِمَّ بَوْلَهُ; لِأَنَّهُ لَوْ قُطِعَ بَوْلُهُ لَنَجِسَتْ ثِيَابُهُ، وَلَحَدَثَ عَلَيْهِ مِنْ ذَلِكَ دَاءٌ فِي بَدَنِهِ فَتَرَجَّحَ جَانِبُ تَرْكِهِ عَلَى مَا فَعَلَ مِنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ عَلَى قَطْعِهِ بِمَا يَدْخُلُ عَلَيْهِ مِنَ الضَّرَرِ، وَبِأَنَّهُ يُنَجِّسُ مَوْضِعَيْنِ، وَإِذَا تُرِكَ فَالَّذِي يُنَجِّسُهُ مَوْضِعٌ وَاحِدٌ. وَفِي الْحَدِيث: «أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إِذْنِ وَلَيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ بَاطِلٌ بَاطِلٌ» ثُمَّ قَالَ: «فَإِنْ دَخَلَ بِهَا; فَلَهَا الْمَهْرُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْهَا» وَهَذَا تَصْحِيحٌ لِلْمَنْهِيِّ عَنْهُ مِنْ وَجْهٍ، وَلِذَلِكَ يَقَعُ فِيهِ الْمِيرَاثُ وَيَثْبُتُ النَّسَبُ لِلْوَلَدِ، وَإِجْرَاؤُهُمُ النِّكَاحَ الْفَاسِدَ مَجْرَى الصَّحِيحِ فِي هَذِهِ الْأَحْكَامِ، وَفِي حُرْمَةِ الْمُصَاهَرَةِ وَغَيْرِ ذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى الْحُكْمِ بِصِحَّتِهِ عَلَى الْجُمْلَةِ، وَإِلَّا كَانَ فِي حُكْمِ الزِّنَى، وَلَيْسَ فِي حُكْمِهِ بِاتِّفَاقٍ; فَالنِّكَاحُ الْمُخْتَلَفُ فِيهِ قَدْ يُرَاعَى فِيهِ الْخِلَافُ فَلَا تَقَعُ فِيهِ الْفُرْقَةُ إِذَا عُثِرَ عَلَيْهِ بَعْدَ الدُّخُولِ مُرَاعَاةً لِمَا يَقْتَرِنُ بِالدُّخُولِ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي تُرَجِّحُ جَانِبَ التَّصْحِيحِ. وَهَذَا كُلُّهُ نَظَرٌ إِلَى مَا يَؤُولُ إِلَيْهِ تَرَتُّبُ الْحُكْمِ بِالنَّقْضِ وَالْإِبْطَالِ مِنْ إِفْضَائِهِ إِلَى مَفْسَدَةٍ تُوَازِي مَفْسَدَةَ مُقْتَضَى النَّهْيِ أَوْ تَزِيدُ. وَلِمَا بَعْدَ الْوُقُوعِ دَلِيلٌ عَامٌّ مُرَجِّحٌ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى أَصْلِهِ فِي كِتَابِ الْمَقَاصِدِ، وَهُوَ أَنَّ الْعَامِلَ بِالْجَهْلِ مُخْطِئًا فِي عَمَلِهِ لَهُ نَظَرَان: نَظَرٌ مِنْ جِهَةِ مُخَالَفَتِهِ لِلْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَهَذَا يَقْتَضِي الْإِبْطَالَ. وَنَظَرٌ مِنْ جِهَةِ قَصْدِهِ إِلَى الْمُوَافَقَةِ فِي الْجُمْلَةِ; لِأَنَّهُ دَاخِلٌ مَدَاخِلَ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَمَحْكُومٌ لَهُ بِأَحْكَامِهِمْ وَخَطَؤُهُ أَوْ جَهْلُهُ لَا يَجْنِي عَلَيْهِ أَنْ يَخْرُجَ بِهِ عَنْ حُكْمِ أَهْلِ الْإِسْلَامِ، بَلْ يَتَلَافَى لَهُ حُكْمٌ يُصَحِّحُ لَهُ بِهِ مَا أَفْسَدَهُ بِخَطَئِهِ وَجَهْلِهِ، وَهَكَذَا لَوْ تَعَمَّدَ الْإِفْسَادَ لَمْ يَخْرُجْ بِذَلِكَ عَنِ الْحُكْمِ لَهُ بِأَحْكَامِ الْإِسْلَامِ; لِأَنَّهُ مُسْلِمٌ لَمْ يُعَانِدِ الشَّارِعَ، بَلِ اتَّبَعَ شَهْوَتَهُ غَافِلًا عَمَّا عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى: {إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ} الْآيَةَ [النِّسَاء: 17]. وَقَالُوا: إِنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَعْصِي إِلَّا وَهُوَ جَاهِلٌ; فَجَرَى عَلَيْهِ حُكْمُ الْجَاهِلِ; إِلَّا أَنْ يَتَرَجَّحَ جَانِبُ الْإِبْطَالِ بِالْأَمْرِ الْوَاضِحِ; فَيَكُونُ إِذْ ذَاكَ جَانَبُ التَّصْحِيحِ لَيْسَ لَهُ مَآلٌ يُسَاوِي أَوْ يَزِيدُ، فَإِذْ ذَاكَ لَا نَظَرَ فِي الْمَسْأَلَةِ، مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَتَرَجَّحْ جَانِبُ الْإِبْطَالِ إِلَّا بَعْدَ النَّظَرِ فِي الْمَآلِ، وَهُوَ الْمَطْلُوبُ. وَمِمَّا يَنْبَنِي عَلَى هَذَا الْأَصْلِ قَاعِدَةُ الِاسْتِحْسَانِ، وَهُوَ- فِي مَذْهَبِ مَالِكٍ- الْأَخْذُ بِمَصْلَحَةٍ جُزْئِيَّةٍ فِي مُقَابَلَةِ دَلِيلٍ كُلِّيٍّ، وَمُقْتَضَاهُ الرُّجُوعُ إِلَى تَقْدِيمِ الِاسْتِدْلَالِ الْمُرْسَلِ عَلَى الْقِيَاسِ; فَإِنَّ مَنِ اسْتَحْسَنَ لَمْ يَرْجِعْ إِلَى مُجَرَّدِ ذَوْقِهِ وَتَشَهِّيهِ، وَإِنَّمَا رَجَعَ إِلَى مَا عَلِمَ مِنْ قَصْدِ الشَّارِعِ فِي الْجُمْلَةِ فِي أَمْثَالِ تِلْكَ الْأَشْيَاءِ الْمَفْرُوضَةِ; كَالْمَسَائِلِ الَّتِي يَقْتَضِي الْقِيَاسُ فِيهَا أَمْرًا; إِلَّا أَنَّ ذَلِكَ الْأَمْرَ يُؤَدِّي إِلَى فَوْتِ مَصْلَحَةٍ مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى، أَوْ جَلْبِ مَفْسَدَةٍ كَذَلِكَ، وَكَثِيرٌ مَا يَتَّفِقُ هَذَا فِي الْأَصْلِ الضَّرُورِيُّ مَعَ الْحَاجِيِّ، وَالْحَاجِيُّ مَعَ التَّكْمِيلِيِّ; فَيَكُونُ إِجْرَاءُ الْقِيَاسِ مُطْلَقًا فِي الضَّرُورِيِّ يُؤَدِّي إِلَى حَرَجٍ وَمَشَقَّةٍ فِي بَعْضِ مَوَارِدِهِ; فَيُسْتَثْنَى مَوْضِعُ الْحَرَجِ، وَكَذَلِكَ فِي الْحَاجِيِّ مَعَ التَّكْمِيلِيِّ، أَوِ الضَّرُورِيِّ مَعَ التَّكْمِيلِيِّ، وَهُوَ ظَاهِرٌ. وَلَهُ فِي الشَّرْعِ أَمْثِلَةٌ كَثِيرَةٌ كَالْقَرْضِ مَثَلًا; فَإِنَّهُ رِبًا فِي الْأَصْلِ; لِأَنَّهُ الدِّرْهَمُ بِالدِّرْهَمِ إِلَى أَجَلٍ، وَلَكِنَّهُ أُبِيحَ لِمَا فِيهِ مِنَ الْمَرْفَقَةِ وَالتَّوْسِعَةِ عَلَى الْمُحْتَاجِينَ، بِحَيْثُ لَوْ بَقِيَ عَلَى أَصْلِ الْمَنْعِ لَكَانَ فِي ذَلِكَ ضِيقٌ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ، وَمِثْلُهُ بَيْعُ الْعَرِيَّةِ بِخُرْصِهَا تَمْرًا; فَإِنَّهُ بَيْعُ الرَّطْبِ بِالْيَابِسِ، لَكِنَّهُ أُبِيحَ لِمَا فِيهِ مِنَ الرِّفْقِ وَرَفْعِ الْحَرَجِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْمُعَرِّي وَالْمُعَرَّى، وَلَوِ امْتَنَعَ مُطْلَقًا لَكَانَ وَسِيلَةً لِمَنْعِ الْإِعْرَاءِ، كَمَا أَنَّ رِبَا النَّسِيئَةِ لَوِ امْتَنَعَ فِي الْقَرْضِ لَامْتَنَعَ أَصْلُ الرِّفْقِ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ. وَمِثْلُهُ الْجَمْعُ بَيْنَ الْمَغْرِبِ وَالْعِشَاءِ لِلْمَطَرِ، وَجَمْعُ الْمُسَافِرِ، وَقَصْرُ الصَّلَاةِ، وَالْفِطْرُ فِي السَّفَرِ الطَّوِيلِ، وَصَلَاةُ الْخَوْفِ، وَسَائِرُ التَّرَخُّصَاتِ الَّتِي عَلَى هَذَا السَّبِيلِ; فَإِنَّ حَقِيقَتَهَا تَرْجِعُ إِلَى اعْتِبَارِ الْمَآلِ فِي تَحْصِيلِ الْمَصَالِحِ أَوْ دَرْءِ الْمَفَاسِدِ عَلَى الْخُصُوصِ، حَيْثُ كَانَ الدَّلِيلُ الْعَامُّ يَقْتَضِي مَنْعَ ذَلِكَ; لِأَنَّا لَوْ بَقِينَا مَعَ أَصْلِ الدَّلِيلِ الْعَامِّ لَأَدَّى إِلَى رَفْعِ مَا اقْتَضَاهُ ذَلِكَ الدَّلِيلُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ; فَكَانَ مِنَ الْوَاجِبِ رَعْيُ ذَلِكَ الْمَآلِ إِلَى أَقْصَاهُ، وَمِثْلُهُ الِاطِّلَاعُ عَلَى الْعَوْرَاتِ فِي التَّدَاوِي، وَالْقِرَاضِ، وَالْمُسَاقَاةِ، وَإِنْ كَانَ الدَّلِيلُ الْعَامُّ يَقْتَضِي الْمَنْعَ، وَأَشْيَاءَ مِنْ هَذَا الْقَبِيلِ كَثِيرَةً. هَذَا نَمَطٌ مِنَ الْأَدِلَّةِ الدَّالَّةِ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ بِهَذِهِ الْقَاعِدَةِ، وَعَلَيْهَا بَنَى مَالِكٌ وَأَصْحَابُهُ. وَقَدْ قَالَ ابْنُ الْعَرَبِيِّ فِي تَفْسِيرِ الِاسْتِحْسَانِ بِأَنَّهُ إِيثَارُ تَرْكِ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَلَى طَرِيقِ الِاسْتِثْنَاءِ وَالتَّرَخُّصِ; لِمُعَارَضَةِ مَا يُعَارَضُ بِهِ فِي بَعْضِ مُقْتَضَيَاتِهِ، ثُمَّ جَعَلَهُ أَقْسَامًا; فَمِنْهُ تَرْكُ الدَّلِيلِ لِلْعُرْفِ كَرَدِّ الْأَيْمَانِ إِلَى الْعُرْفِ، وَتَرْكُهُ إِلَى الْمَصْلَحَةِ كَتَضْمِينِ الْأَجِيرِ الْمُشْتَرِكِ، أَوْ تَرْكُهُ لِلْإِجْمَاعِ كَإِيجَابِ الْغُرْمِ عَلَى مَنْ قَطَّ ذَنَبَ بَغْلَةِ الْقَاضِي، وَتَرْكُهُ فِي الْيَسِيرِ لِتَفَاهَتِهِ لِرَفْعِ الْمَشَقَّةِ، وَإِيثَارِ التَّوْسِعَةِ عَلَى الْخَلْقِ; كَإِجَازَةِ التَّفَاضُلِ الْيَسِيرِ فِي الْمُرَاطَلَةِ الْكَثِيرَةِ، وَإِجَازَةِ بَيْعٍ وَصَرْفٍ فِي الْيَسِيرِ. وَقَالَ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآن: الِاسْتِحْسَانُ عِنْدَنَا وَعِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ هُوَ الْعَمَلُ بِأَقْوَى الدَّلِيلَيْنِ; فَالْعُمُومُ إِذَا اسْتَمَرَّ، وَالْقِيَاسُ إِذَا اطَّرَدَ; فَإِنَّ مَالِكًا وَأَبَا حَنِيفَةَ يَرَيَانِ تَخْصِيصَ الْعُمُومِ بِأَيِّ دَلِيلٍ كَانَ، مِنْ ظَاهِرٍ أَوْ مَعْنًى، وَيَسْتَحْسِنُ مَالِكٌ أَنْ يُخَصَّ بِالْمَصْلَحَةِ، وَيَسْتَحْسِنَ أَبُو حَنِيفَةَ أَنْ يُخَصَّ بِقَوْلِ الْوَاحِدِ مِنَ الصَّحَابَةِ الْوَارِدِ بِخِلَافِ الْقِيَاسِ، وَيَرَيَانِ مَعًا تَخْصِيصَ الْقِيَاسِ وَنَقْضَ الْعِلَّةِ، وَلَا يَرَى الشَّافِعِيُّ لِعِلَّةِ الشَّرْعِ إِذَا ثَبَتَتْ تَخْصِيصًا، وَهَذَا الَّذِي قَالَ هُوَ نَظَرٌ فِي مَآلَاتِ الْأَحْكَامِ مِنْ غَيْرِ اقْتِصَارٍ عَلَى مُقْتَضَى الدَّلِيلِ الْعَامِّ وَالْقِيَاسِ الْعَامِّ. وَفِي الْمَذْهَبِ الْمَالِكِيِّ مِنْ هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرٌ جِدًّا. وَفِي الْعُتَبِيَّةِ مِنْ سَمَاعِ أَصْبَغَ فِي الشَّرِيكَيْنِ يَطَآنِ الْأَمَةَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ فَتَأْتِي بِوَلَدٍ; فَيُنْكِرُ أَحَدُهُمَا الْوَلَدَ دُونَ الْآخَرِ; أَنَّهُ يَكْشِفُ مُنْكِرَ الْوَلَدِ عَنْ وَطْئِهِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ; فَإِنْ كَانَ فِي صِفَتِهِ مَا يُمْكِنُ فِيهِ الْإِنْزَالُ; لَمْ يُلْتَفَتْ إِلَى إِنْكَارِهِ، وَكَانَ كَمَا لَوِ اشْتَرَكَا فِيهِ، وَإِنْ كَانَ يَدَّعِي الْعَزْلَ مِنَ الْوَطْءِ الَّذِي أَقَرَّ بِهِ، فَقَالَ أَصْبَغُ: إِنِّي أَسْتَحْسِنُ هُنَا أَنْ أُلْحِقَهُ بِالْآخَرِ، وَالْقِيَاسُ أَنْ يَكُونَا سَوَاءً; فَلَعَلَّهُ غُلِبَ وَلَا يَدْرِي، وَقَدْ قَالَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ فِي نَحْوِ هَذَا: إِنَّ الْوِكَاءَ قَدْ يَتَفَلَّتُ. قَالَ: وَالِاسْتِحْسَانُ فِي الْعِلْمِ قَدْ يَكُونُ أَغْلَبَ مِنَ الْقِيَاسِ، قَالَ: وَقَدْ سَمِعْتُ ابْنَ الْقَاسِمِ يَقُولُ وَيَرْوِي عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: تِسْعَةُ أَعْشَارِ الْعِلْمِ الِاسْتِحْسَانُ. فَهَذَا كُلُّهُ يُوَضِّحُ لَكَ أَنَّ الِاسْتِحْسَانَ غَيْرُ خَارِجٍ عَنْ مُقْتَضَى الْأَدِلَّةِ; إِلَّا أَنَّهُ نَظَرٌ إِلَى لَوَازِمِ الْأَدِلَّةِ، وَمَآلَاتِهَا; إِذْ لَوِ اسْتَمَرَّ عَلَى الْقِيَاسِ هُنَا كَانَ الشَّرِيكَانِ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ كَانَا يَعْزِلَانِ أَوْ يُنْزِلَانِ; لِأَنَّ الْعَزْلَ لَا حُكْمَ لَهُ إِذْ أُقِرَّ بِالْوَطْءِ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْعَزْلِ وَعَدَمِهِ فِي إِلْحَاقِ الْوَلَدِ، لَكِنَّ الِاسْتِحْسَانَ مَا قَالَ; لِأَنَّ الْغَالِبَ أَنَّ الْوَلَدَ يَكُونُ مَعَ الْإِنْزَالِ، وَلَا يَكُونُ مَعَ الْعَزْلِ إِلَّا نَادِرًا; فَأَجْرَى الْحُكْمَ عَلَى الْغَالِبِ، وَهُوَ مُقْتَضَى مَا تَقَدَّمَ فَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرِ الْمَآلَ فِي جَرَيَانِ الدَّلِيلِ لَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ الْعَزْلِ وَالْإِنْزَالِ، وَقَدْ بَالَغَ أَصْبَغُ فِي الِاسْتِحْسَانِ حَتَّى قَالَ: إِنَّ الْمُغْرِقَ فِي الْقِيَاسِ يَكَادُ يُفَارِقُ السُّنَّةَ، وَإِنَّ الِاسْتِحْسَانَ عِمَادُ الْعِلْمِ، وَالْأَدِلَّةُ الْمَذْكُورَةُ تُعَضِّدُ مَا قَالَ. وَمِنْ هَذَا الْأَصْلِ أَيْضًا تُسْتَمَدُّ قَاعِدَةٌ أُخْرَى، وَهِيَ أَنَّ الْأُمُورَ الضَّرُورِيَّةَ أَوْ غَيْرَهَا مِنَ الْحَاجِيَّةِ أَوِ التَّكْمِيلِيَّةِ إِذَا اكْتَنَفَتْهَا مِنْ خَارِجٍ أُمُورٌ لَا تُرْضَى شَرْعًا; فَإِنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى جَلْبِ الْمَصَالِحِ قَاعِدَةُ الْمَصَالِحِ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ التَّحَفُّظِ بِحَسَبِ الِاسْتِطَاعَةِ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ; كَالنِّكَاحِ الَّذِي يَلْزَمُهُ طَلَبُ قُوتِ الْعِيَالِ مَعَ ضِيقِ طُرُقِ الْحَلَالِ، وَاتِّسَاعِ أَوْجُهِ الْحَرَامِ وَالشُّبُهَاتِ، وَكَثِيرًا مَا يُلْجِئُ إِلَى الدُّخُولِ فِي الِاكْتِسَابِ لَهُمْ بِمَا لَا يَجُوزُ، وَلَكِنَّهُ غَيْرُ مَانِعٍ لِمَا يَئُولُ إِلَيْهِ التَّحَرُّزُ مِنَ الْمَفْسَدَةِ الْمُرْبِيَةِ عَلَى تَوَقُّعِ مَفْسَدَةِ التَّعَرُّضِ، وَلَوِ اعْتُبِرَ مِثْلُ هَذَا فِي النِّكَاحِ فِي مِثْلِ زَمَانِنَا; لَأَدَّى إِلَى إِبْطَالِ أَصْلِهِ، وَذَلِكَ غَيْرُ صَحِيحٍ. وَكَذَلِكَ طَلَبُ الْعِلْمِ إِذَا كَانَ فِي طَرِيقِهِ مَنَاكِرُ يَسْمَعُهَا وَيَرَاهَا، وَشُهُودُ الْجَنَائِزِ، وَإِقَامَةُ وَظَائِفَ شَرْعِيَّةٍ إِذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى إِقَامَتِهَا إِلَّا بِمُشَاهَدَةِ مَا لَا يُرْتَضَى، فَلَا يُخْرِجُ هَذَا الْعَارِضُ تِلْكَ الْأُمُورَ عَنْ أُصُولِهَا; لِأَنَّهَا أُصُولُ الدِّينِ، وَقَوَاعِدُ الْمَصَالِحِ، وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ مَقَاصِدِ الشَّارِعِ فَيَجِبُ فَهْمُهَا حَقَّ الْفَهْمِ; فَإِنَّهَا مَثَارُ اخْتِلَافٍ وَتَنَازُعٍ، وَمَا يُنْقَلُ عَنِ السَّلَفِ الصَّالِحِ مِمَّا يُخَالِفُ ذَلِكَ قَضَايَا أَعْيَانٌ لَا حُجَّةَ فِي مُجَرَّدِهَا حَتَّى يُعْقَلَ مَعْنَاهَا فَتَصِيرَ إِلَى مُوَافَقَةِ مَا تَقَرَّرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارِ مَآلَاتِ الْأَعْمَالِ; فَاعْتِبَارُهَا لَازِمٌ فِي كُلِّ حُكْمٍ عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى مَحَالِّ الْخِلَافِ فِي الْجُمْلَةِ، وَلَمْ يَقَعْ هُنَالِكَ تَفْصِيلٌ، وَقَدْ أَلَّفَ ابْنُ السَّيِّدِ كِتَابًا فِي أَسْبَابِ الْخِلَافِ الْوَاقِعِ بَيْنَ حَمَلَةِ الشَّرِيعَةِ، وَحَصَرَهَا فِي ثَمَانِيَةِ أَسْبَابٍ: أَحَدُهَا: الِاشْتِرَاكُ الْوَاقِعُ فِي الْأَلْفَاظِ، وَاحْتِمَالُهَا لِلتَّأْوِيلَاتِ، وَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: اشْتِرَاكٌ فِي مَوْضُوعِ اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ; كَالْقُرْءِ، وَأَوْ فِي آيَةِ الْحِرَابَةِ. وَاشْتِرَاكٌ فِي أَحْوَالِهِ الْعَارِضَةِ فِي التَّصَرُّفِ نَحْوَ: {وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ} [الْبَقَرَة: 282]. وَاشْتِرَاكٌ مِنْ قِبَلِ التَّرْكِيبِ، نَحْوَ: {وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} [فَاطِرٍ: 10]، {وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا} [النِّسَاء: 157]. وَالثَّانِي: دَوَرَانُ اللَّفْظِ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَجَعَلَهُ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: مَا يَرْجِعُ إِلَى اللَّفْظِ الْمُفْرَدِ، نَحْوَ حَدِيثِ النُّزُولِ، وَ{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ} [النُّور: 35]. وَمَا يَرْجِعُ إِلَى أَحْوَالِهِ نَحْوَ: {بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ} [سَبَأٍ: 33] وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ الْخِلَافِ. وَمَا يَرْجِعُ إِلَى جِهَةِ التَّرْكِيبِ; كَإِيرَادِ الْمُمْتَنِعِ بِصُورَةِ الْمُمْكِنِ، وَمِنْهُ «لَئِنْ قَدَرَ اللَّهُ عَلَيَّ» الْحَدِيثَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ مِمَّا يُورَدُ مِنْ أَنْوَاعِ الْكَلَامِ بِصُورَةِ غَيْرِهِ; كَالْأَمْرِ بِصُورَةِ الْخَبَرِ، وَالْمَدْحِ بِصُورَةِ الذَّمِّ، وَالتَّكْثِيرِ بِصُورَةِ التَّقْلِيلِ، وَعَكْسُهَا. وَالثَّالِثُ: دَوَرَانُ الدَّلِيلِ بَيْنَ الِاسْتِقْلَالِ بِالْحُكْمِ وَعَدَمِهِ كَحَدِيثِ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ أَبِي لَيْلَى وَابْنِ شُبْرُمَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْبَيْعِ وَالشَّرْطِ، وَكَمَسْأَلَةِ الْجَبْرِ وَالْقَدَرِ وَالِاكْتِسَابِ. وَالرَّابِعُ: دَوَرَانُهُ بَيْنَ الْعُمُومِ وَالْخُصُوصِ، نَحْوَ: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} [الْبَقَرَة: 256]: {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا} [الْبَقَرَة: 31]. وَالْخَامِسُ: اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ، وَلَهُ ثَمَانِي عِلَلٍ قَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهَا. وَالسَّادِسُ: جِهَاتُ الِاجْتِهَادِ وَالْقِيَاسِ. وَالسَّابِعُ: دَعْوَى النَّسْخِ وَعَدَمِهِ. وَالثَّامِنُ: وُرُودُ الْأَدِلَّةِ عَلَى وُجُوهٍ تَحْتَمِلُ الْإِبَاحَةَ وَغَيْرَهَا، كَالِاخْتِلَافِ فِي الْأَذَانِ وَالتَّكْبِيرِ عَلَى الْجَنَائِزِ وَوُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ. هَذِهِ تَرَاجِمُ مَا أَوْرَدَ ابْنُ السَّيِّدِ فِي كِتَابِهِ، وَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فَعَلَيْهِ بِهِ، وَلَكِنْ إِذَا عُرِضَ جَمِيعُ مَا ذَكَرَ عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَبَيَّنَ بِهِ تَحْقِيقُ الْقَوْلِ فِيهَا، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.
مِنَ الْخِلَافِ مَا لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي الْخِلَافِ، وَهُوَ ضَرْبَان: أَحَدُهُمَا: مَا كَانَ مِنَ الْأَقْوَالِ خَطَأً مُخَالِفًا لِمَقْطُوعٍ بِهِ فِي الشَّرِيعَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ التَّنْبِيهُ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: مَا كَانَ ظَاهِرُهُ الْخِلَافَ وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ كَذَلِكَ، وَأَكْثَرُ مَا يَقَعُ ذَلِكَ فِي تَفْسِيرِ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ; فَتَجِدُ الْمُفَسِّرِينَ يَنْقُلُونَ عَنِ السَّلَفِ فِي مَعَانِي أَلْفَاظِ الْكِتَابِ أَقْوَالًا مُخْتَلِفَةً فِي الظَّاهِرِ، فَإِذَا اعْتَبَرْتَهَا وَجَدْتَهَا تَتَلَاقَى عَلَى الْعِبَارَةِ كَالْمَعْنَى الْوَاحِدِ، وَالْأَقْوَالِ إِذَا أَمْكَنَ اجْتِمَاعُهَا وَالْقَوْلُ بِجَمِيعِهَا مِنْ غَيْرِ إِخْلَالٍ بِمَقْصِدِ الْقَائِلِ; فَلَا يَصِحُّ نَقْلُ الْخِلَافِ فِيهَا عَنْهُ، وَهَكَذَا يُتَّفَقُ فِي شَرْحِ السُّنَّةِ، وَكَذَلِكَ فِي فَتَاوَى الْأَئِمَّةِ، وَكَلَامِهِمْ فِي مَسَائِلِ الْعِلْمِ، وَهَذَا الْمَوْضِعُ مِمَّا يَجِبُ تَحْقِيقُهُ; فَإِنَّ نَقْلَ الْخِلَافِ فِي مَسْأَلَةٍ لَا خِلَافَ فِيهَا فِي الْحَقِيقَةِ خَطَأٌ، كَمَا أَنَّ نَقْلَ الْوِفَاقِ فِي مَوْضِعِ الْخِلَافِ لَا يَصِحُّ. فَإِذَا ثَبَتَ هَذَا; فَلِنَقْلِ الْخِلَافِ هُنَا أَسْبَابٌ: أَحَدُهَا: أَنْ يُذْكَرَ فِي التَّفْسِيرِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ شَيْءٌ أَوْ عَنْ أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِهِ أَوْ غَيْرِهِمْ، وَيَكُونَ ذَلِكَ الْمَنْقُولُ بَعْضَ مَا يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ، ثُمَّ يَذْكُرَ غَيْرَ ذَلِكَ الْقَائِلُ أَشْيَاءَ أُخَرَ مِمَّا يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ أَيْضًا; فَيَنُصُّهُمَا الْمُفَسِّرُونَ عَلَى نَصِّهِمَا، فَيُظَنُّ أَنَّهُ خِلَافٌ، كَمَا نَقَلُوا فِي الْمَنِّ أَنَّهُ خُبْزُ رُقَاقٍ، وَقِيلَ: زَنْجَبِيلٌ، وَقِيلَ: التَّرَنْجَبِينُ، وَقِيلَ: شَرَابٌ مَزَجُوهُ بِالْمَاءِ; فَهَذَا كُلُّهُ يَشْمَلُهُ اللَّفْظُ; لِأَنَّ اللَّهَ مَنَّ بِهِ عَلَيْهِمْ، وَلِذَلِكَ جَاءَ فِي الْحَدِيث: «الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ الَّذِي أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ» فَيَكُونُ الْمَنُّ جُمْلَةَ نِعَمٍ، ذَكَرَ النَّاسُ مِنْهَا آحَادًا. وَالثَّانِي: أَنْ يُذْكَرَ فِي النَّقْلِ أَشْيَاءُ تَتَّفِقُ فِي الْمَعْنَى بِحَيْثُ تَرْجِعُ إِلَى مَعْنًى وَاحِدٍ; فَيَكُونُ التَّفْسِيرُ فِيهَا عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَيُوهِمُ نَقْلُهَا عَلَى اخْتِلَافِ اللَّفْظِ أَنَّهُ خِلَافٌ مُحَقَّقٌ، كَمَا قَالُوا فِي السَّلْوَى إِنَّهُ طَيْرٌ يُشْبِهُ السِّمَانِيَّ، وَقِيلَ: طَيْرٌ أَحْمَرُ صِفَتُهُ كَذَا، وَقِيلَ: طَيْرٌ بِالْهِنْدِ أَكْبَرُ مِنَ الْعُصْفُورِ، وَكَذَلِكَ قَالُوا فِي الْمَنّ: شَيْءٌ يَسْقُطُ عَلَى الشَّجَرِ فَيُؤْكَلُ، وَقِيلَ: صَمْغَةٌ حُلْوَةٌ، وَقِيلَ: التَّرَنْجَبِينُ، وَقِيلَ: مِثْلُ رُبٍّ غَلِيظٍ، وَقِيلَ: عَسَلٌ جَامِدٌ; فَمِثْلُ هَذَا يَصِحُّ حَمْلُهُ عَلَى الْمُوَافَقَةِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ فِيهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُذْكَرَ أَحَدُ الْأَقْوَالِ عَلَى تَفْسِيرِ اللُّغَةِ، وَيُذْكَرَ الْآخَرُ عَلَى التَّفْسِيرِ الْمَعْنَوِيِّ، وَفَرْقٌ بَيْنَ تَقْرِيرِ الْإِعْرَابِ وَتَفْسِيرِ الْمَعْنَى، وَهُمَا مَعًا يَرْجِعَانِ إِلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ; لِأَنَّ النَّظَرَ اللُّغَوِيَّ رَاجِعٌ إِلَى تَقْرِيرِ أَصْلِ الْوَضْعِ، وَالْآخَرَ رَاجِعٌ إِلَى تَقْرِيرِ الْمَعْنَى فِي الِاسْتِعْمَالِ، كَمَا قَالُوا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الْوَاقِعَة: 73] أَي: الْمُسَافِرِينَ، وَقِيلَ: النَّازِلِينَ بِالْأَرْضِ الْقِوَاءِ وَهِيَ الْقَفْرُ، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ} [الرَّعْد: 31] أَيْ: دَاهِيَةٌ تَفْجَؤُهُمْ، وَقِيلَ: سَرِيَّةٌ مِنْ سَرَايَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشْبَاهُ ذَلِكَ. وَالرَّابِعُ: أَلَّا يَتَوَارَدَ الْخِلَافُ عَلَى مَحَلٍّ وَاحِدٍ; كَاخْتِلَافِهِمْ فِي أَنَّ الْمَفْهُومَ لَهُ عُمُومٌ أَوْ لَا، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَالُوا: لَا يَخْتَلِفُ الْقَائِلُونَ بِالْمَفْهُومِ أَنَّهُ عَامٌّ فِيمَا سِوَى الْمَنْطُوقِ بِهِ، وَالَّذِينَ نَفَوُا الْعُمُومَ أَرَادُوا أَنَّهُ لَا يَثْبُتُ بِالْمَنْطُوقِ بِهِ، وَهُوَ مِمَّا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَيْضًا، وَكَثِيرٌ مِنَ الْمَسَائِلِ عَلَى هَذَا السَّبِيلِ، فَلَا يَكُونُ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ، وَيُنْقَلُ فِيهَا الْأَقْوَالُ عَلَى أَنَّهَا خِلَافٌ. وَالْخَامِسُ: يَخْتَصُّ بِالْآحَادِ فِي خَاصَّةِ أَنْفُسِهِمْ; كَاخْتِلَافِ الْأَقْوَالِ بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْإِمَامِ الْوَاحِدِ، بِنَاءً عَلَى تَغَيُّرِ الِاجْتِهَادِ، وَالرُّجُوعِ عَمَّا أَفْتَى بِهِ إِلَى خِلَافِهِ; فَمِثْلُ هَذَا لَا يَصِحُّ أَنْ يُعْتَدَّ بِهِ خِلَافًا فِي الْمَسْأَلَةِ; لِأَنَّ رُجُوعَ الْإِمَامِ عَنِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ إِلَى الْقَوْلِ الثَّانِي اطِّرَاحٌ مِنْهُ لِلْأَوَّلِ، وَنَسْخٌ لَهُ بِالثَّانِي، وَفِي هَذَا مِنْ بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ تَنَازُعٌ، وَالْحَقُّ فِيهِ مَا ذُكِرَ أَوَّلًا، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ فِي مَسْأَلَةِ أَنَّ الشَّرِيعَةَ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَصِحُّ فِيهَا غَيْرُ ذَلِكَ، وَقَدْ يَكُونُ هَذَا الْوَجْهُ عَلَى أَعَمِّ مِمَّا ذُكِرَ كَأَنْ يَخْتِلَفَ الْعُلَمَاءُ عَلَى قَوْلَيْنِ ثُمَّ يَرْجِعُ أَحَدُ الْفَرِيقَيْنِ إِلَى الْآخَرِ، كَمَا ذُكِرَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي الْمُتْعَةِ، وَرِبَا الْفَضْلِ، وَكَرُجُوعِ الْأَنْصَارِ إِلَى الْمُهَاجِرِينَ فِي مَسْأَلَةِ الْغُسْلِ مِنَ الْتِقَاءِ الْخِتَانَيْنِ، فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُحْكَى مِثْلُ هَذَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ. وَالسَّادِسُ: أَنْ يَقَعَ الِاخْتِلَافُ فِي الْعَمَلِ لَا فِي الْحُكْمِ؛ كَاخْتِلَافِ الْقُرَّاءِ فِي وُجُوهِ الْقِرَاءَاتِ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَقْرَءُوا بِمَا قَرَءُوا بِهِ عَلَى إِنْكَارِ غَيْرِهِ، بَلْ عَلَى إِجَازَتِهِ، وَالْإِقْرَارِ بِصِحَّتِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ الْخِلَافُ بَيْنَهُمْ فِي الِاخْتِيَارَاتِ، وَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ بِاخْتِلَافٍ; فَإِنَّ الْمَرْوِيَّاتِ عَلَى الصِّحَّةِ مِنْهَا لَا يَخْتَلِفُونَ فِيهَا. وَالسَّابِعُ: أَنْ يَقَعَ تَفْسِيرُ الْآيَةِ أَوِ الْحَدِيثِ مِنَ الْمُفَسِّرِ الْوَاحِدِ عَلَى أَوْجَهٍ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ، وَيَبْنِي عَلَى كُلِّ احْتِمَالٍ مَا يَلِيقُ بِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَذْكُرَ خِلَافًا فِي التَّرْجِيحِ، بَلْ عَلَى تَوْسِيعِ الْمَعَانِي خَاصَّةً; فَهَذَا لَيْسَ بِمُسْتَقِرٍّ خِلَافًا; إِذِ الْخِلَافُ مَبْنِيٌّ عَلَى الْتِزَامِ كُلِّ قَائِلٍ احْتِمَالًا يُعَضِّدُهُ بِدَلِيلٍ يُرَجِّحُهُ عَلَى غَيْرِهِ مِنَ الِاحْتِمَالَاتِ حَتَّى يَبْنِيَ عَلَيْهِ دُونَ غَيْرِهِ، وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِي مِثْلِ هَذَا. وَالثَّامِنُ: أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فِي تَنْزِيلِ الْمَعْنَى الْوَاحِدِ; فَيَحْمِلُهُ قَوْمٌ عَلَى الْمَجَازِ مَثَلًا، وَقَوْمٌ عَلَى الْحَقِيقَةِ، وَالْمَطْلُوبُ أَمْرٌ وَاحِدٌ; كَمَا يَقَعُ لِأَرْبَابِ التَّفْسِيرِ كَثِيرًا فِي نَحْوِ قَوْلِه: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ} [يُونُسَ: 31] فَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُ الْحَيَاةَ وَالْمَوْتَ عَلَى حَقَائِقِهِمَا، وَمِنْهُمْ مَنْ يَحْمِلُهُمَا عَلَى الْمَجَازِ، وَلَا فَرْقَ فِي تَحْصِيلِ الْمَعْنَى بَيْنَهُمَا، وَنَظِيرُ هَذَا قَوْلُ ذِي الرُّمَّة: وَظَاهِرٌ لَهَا مِنْ يَابِسِ الشَّخْتِ *** وَبَائِسِ الشَّخْثِ وَقَدْ مَرَّ بَيَانُهُ، وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ فِيه: إِنَّ بَائِسَ وَ يَابِسَ وَاحِدٌ، وَمِثْلُ ذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ} [الْقَلَم: 20]. فَقِيلَ: كَالنَّهَارِ بَيْضَاءَ لَا شَيْءَ فِيهَا، وَقِيلَ: كَاللَّيْلِ سَوْدَاءَ لَا شَيْءَ فِيهَا، فَالْمَقْصُودُ شَيْءٌ وَاحِدٌ وَإِنْ شُبِّهَ بِالْمُتَضَادَّيْنِ اللَّذَيْنِ لَا يَتَلَاقَيَانِ. وَالتَّاسِعُ: أَنْ يَقَعَ الْخِلَافُ فِي التَّأْوِيلِ وَصَرْفِ الظَّاهِرِ عَنْ مُقْتَضَاهُ إِلَى مَا دَلَّ عَلَيْهِ الدَّلِيلُ الْخَارِجِيُّ، فَإِنَّ مَقْصُودَ كُلِّ مُتَأَوِّلٍ الصَّرْفُ عَنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ إِلَى وَجْهٍ يَتَلَاقَى مَعَ الدَّلِيلِ الْمُوجِبِ لِلتَّأْوِيلِ، وَجَمِيعُ التَّأْوِيلَاتِ فِي ذَلِكَ سَوَاءٌ، فَلَا خِلَافَ فِي الْمَعْنَى الْمُرَادِ، وَكَثِيرًا مَا يَقَعُ هَذَا فِي الظَّوَاهِرِ الْمُوهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ، وَتَقَعُ فِي غَيْرِهَا كَثِيرًا أَيْضًا، كَتَأْوِيلَاتِهِمْ فِي حَدِيثِ خِيَارِ الْمَجْلِسِ بِنَاءً عَلَى رَأْيِ مَالِكٍ فِيهِ، وَأَشْبَاهِ ذَلِكَ. وَالْعَاشِرُ: الْخِلَافُ فِي مُجَرَّدِ التَّعْبِيرِ عَنِ الْمَعْنَى الْمَقْصُودِ وَهُوَ مُتَّحِدٌّ، كَمَا اخْتَلَفُوا فِي الْخَبَرِ، هَلْ هُوَ مُنْقَسِمٌ إِلَى صِدْقٍ وَكَذِبٍ خَاصَّةً، أَمْ ثَمَّ قِسْمٌ ثَالِثٌ لَيْسَ بِصِدْقٍ وَلَا كَذِبٍ؟ فَهَذَا خِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ، وَالْمَعْنَى مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَكَذَلِكَ الْفَرْضُ وَالْوَاجِبُ يَتَعَلَّقُ النَّظَرُ فِيهِمَا مَعَ الْحَنَفِيَّةِ بِنَاءً عَلَى مُرَادِهِمْ فِيهِمَا. قَالَ الْقَاضِي عَبْدُ الْوَهَّابِ فِي مَسْأَلَةِ الْوِتْرِ، أَوَاجِبٌ هُوَ؟ إِنْ أَرَادُوا بِهِ أَنَّ تَرْكَهُ حَرَامٌ يُجَرَّحُ فَاعِلُهُ بِهِ، فَالْخِلَافُ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ فِي مَعْنًى يَصِحُّ أَنْ تَتَنَاوَلَهُ الْأَدِلَّةُ، وَإِنْ لَمْ يُرِيدُوا ذَلِكَ وَقَالُوا: لَا يَحْرُمُ تَرْكُهُ، وَلَا يُجَرَّحُ فَاعِلُهُ، فَوَصْفُهُ بِأَنَّهُ وَاجِبٌ خِلَافٌ فِي عِبَارَةٍ لَا يَصِحُّ الِاحْتِجَاجُ عَلَيْهِ، وَمَا قَالَهُ حَقٌّ، فَإِنَّ الْعِبَارَاتِ لَا مُشَاحَّةَ فِيهَا، وَلَا يَنْبَنِي عَلَى الْخِلَافِ فِيهَا حُكْمٌ، فَلَا اعْتِبَارَ بِالْخِلَافِ فِيهَا. هَذِهِ عَشَرَةُ أَسْبَابٍ لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِالْخِلَافِ، يَجِبُ أَنْ تَكُونَ عَلَى بَالٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِ، لِيَقِيسَ عَلَيْهَا مَا سِوَاهَا، فَلَا يَتَسَاهَلُ فَيُؤَدِّيَ ذَلِكَ إِلَى مُخَالَفَةِ الْإِجْمَاعِ.
وَقَدْ يُقَالُ: إِنَّ مَا يُعْتَدُّ بِهِ مِنَ الْخِلَافِ فِي ظَاهِرِ الْأَمْرِ يَرْجِعُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَى الْوِفَاقِ أَيْضًا. وَبَيَانُ ذَلِكَ أَنَّ الشَّرِيعَةَ رَاجِعَةٌ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ كَمَا تَبَيَّنَ قَبْلَ هَذَا، وَالِاخْتِلَافُ فِي مَسَائِلِهَا رَاجِعٌ إِلَى دَوَرَانِهَا بَيْنَ طَرَفَيْنِ وَاضِحَيْنِ أَيْضًا يَتَعَارَضَانِ فِي أَنْظَارِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَإِلَى خَفَاءِ بَعْضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ الِاطِّلَاعِ عَلَيْهِ. أَمَّا هَذَا الثَّانِي فَلَيْسَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافًا؛ إِذْ لَوْ فَرَضْنَا اطِّلَاعَ الْمُجْتَهِدِ عَلَى مَا خَفِيَ عَلَيْهِ لَرَجَعَ عَنْ قَوْلِهِ، فَلِذَلِكَ يُنْقَضُ لِأَجْلِهِ قَضَاءُ الْقَاضِي. أَمَّا الْأَوَّلُ: فَالتَّرَدُّدُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ تَحَرٍّ لِقَصْدِ الشَّارِعِ الْمُسْتَبْهَمِ بَيْنَهُمَا مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنَ الْمُجْتَهِدِينَ، وَاتِّبَاعٌ لِلدَّلِيلِ الْمُرْشِدِ إِلَى تَعَرُّفِ قَصْدِهِ، وَقَدْ تَوَافَقُوا فِي هَذَيْنِ الْقَصْدَيْنِ تَوَافُقًا لَوْ ظَهَرَ مَعَهُ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ خِلَافُ مَا رَآهُ لَرَجَعَ إِلَيْهِ، وَلَوَافَقَ صَاحِبَهُ فِيهِ، فَقَدْ صَارَ هَذَا الْقِسْمُ فِي الْمَعْنَى رَاجِعًا إِلَى الْقِسْمِ الثَّانِي، فَلَيْسَ الِاخْتِلَافُ فِي الْحَقِيقَةِ إِلَّا فِي الطَّرِيقِ الْمُؤَدِّي إِلَى مَقْصُودِ الشَّارِعِ الَّذِي هُوَ وَاحِدٌ، إِلَّا أَنَّهُ لَا يُمْكِنُ رُجُوعُ الْمُجْتَهِدِ عَمَّا أَدَّاهُ إِلَيْهِ اجْتِهَادُهُ بِغَيْرِ بَيَانٍ اتِّفَاقًا، وَسَوَاءٌ عَلَيْنَا أَقُلْنَا بِالتَّخْطِئَةِ أَوْ قُلْنَا بِالتَّصْوِيبِ، إِذْ لَا يَصِحُّ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَعْمَلَ عَلَى قَوْلِ غَيْرِهِ وَإِنْ كَانَ مُصِيبًا أَيْضًا، كَمَا لَا يَجُوزُ لَهُ ذَلِكَ إِنْ كَانَ عِنْدَهُ مُخْطِئًا، فَالْإِصَابَةُ عَلَى قَوْلِ الْمُصَوِّبَةِ إِضَافِيَّةٌ، فَرَجَعَ الْقَوْلَانِ إِلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ بِهَذَا الِاعْتِبَارِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَهُمْ فِي الْحَقِيقَةِ مُتَّفِقُونَ لَا مُخْتَلِفُونَ. وَمِنْ هُنَا يَظْهَرُ وَجْهُ الْمُوَالَاةِ وَالتَّحَابِّ وَالتَّعَاطُفِ فِيمَا بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ فِي مَسَائِلِ الِاجْتِهَادِ، حَتَّى لَمْ يَصِيرُوا شِيَعًا وَلَا تَفَرَّقُوا فِرَقًا؛ لِأَنَّهُمْ مُجْتَمِعُونَ عَلَى طَلَبِ قَصْدِ الشَّارِعِ، فَاخْتِلَافُ الطُّرُقِ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ، كَمَا لَا اخْتِلَافَ بَيْنَ الْمُتَعَبِّدِينَ لِلَّهِ بِالْعِبَادَاتِ الْمُخْتَلِفَةِ، كَرَجُلٍ تَقَرُّبُهُ الصَّلَاةُ، وَآخَرَ تَقَرُّبُهُ الصِّيَامُ، وَآخَرَ تَقَرُّبُهُ الصَّدَقَةُ، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ، فَهُمْ مُتَّفِقُونَ فِي أَصْلِ التَّوَجُّهِ لِلَّهِ الْمَعْبُودِ، وَإِنِ اخْتَلَفُوا فِي أَصْنَافِ التَّوَجُّهِ، فَكَذَلِكَ الْمُجْتَهِدُونَ لَمَّا كَانَ قَصْدُهُمْ إِصَابَةَ مَقْصِدِ الشَّارِعِ صَارَتْ كَلِمَتُهُمْ وَاحِدَةً وَقَوْلُهُمْ وَاحِدًا؛ وَلِأَجْلِ ذَلِكَ لَا يَصِحُّ لَهُمْ وَلَا لِمَنْ قَلَّدَهُمُ التَّعَبُّدُ بِالْأَقْوَالِ الْمُخْتَلِفَةِ كَمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ التَّعَبُّدَ بِهَا رَاجِعٌ إِلَى اتِّبَاعِ الْهَوَى، لَا إِلَى تَحَرِّي مَقْصِدِ الشَّارِعِ، وَالْأَقْوَالُ لَيْسَتْ بِمَقْصُودَةٍ لِأَنْفُسِهَا، بَلْ لِيُتَعَرَّفَ مِنْهَا الْمَقْصِدُ الْمُتَّحِدُ، فَلَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ التَّعَبُّدُ مُتَّحِدَ الْوُجْهَةِ وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَبِهَذَا يَظْهَرُ أَنَّ الْخِلَافَ- الَّذِي هُوَ فِي الْحَقِيقَةِ خِلَافٌ- نَاشِئٌ عَنِ الْهَوَى الْمُضِلِّ لَا عَنْ تَحَرِّي قَصْدِ الشَّارِعِ بِاتِّبَاعِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْجُمْلَةِ وَالتَّفْصِيلِ، وَهُوَ الصَّادِرُ عَنْ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ، وَإِذَا دَخَلَ الْهَوَى أَدَّى إِلَى اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ حِرْصًا عَلَى الْغَلَبَةِ وَالظُّهُورِ بِإِقَامَةِ الْعُذْرِ فِي الْخِلَافِ، وَأَدَّى إِلَى الْفُرْقَةِ وَالتَّقَاطُعِ وَالْعَدَاوَةِ وَالْبَغْضَاءِ، لِاخْتِلَافِ الْأَهْوَاءِ وَعَدَمِ اتِّفَاقِهَا، وَإِنَّمَا جَاءَ الشَّرْعُ بِحَسْمِ مَادَّةِ الْهَوَى بِإِطْلَاقٍ، وَإِذَا صَارَ الْهَوَى بَعْضَ مُقَدِّمَاتِ الدَّلِيلِ لَمْ يُنْتَجْ إِلَّا مَا فِيهِ اتِّبَاعُ الْهَوَى، وَذَلِكَ مُخَالَفَةُ الشَّرْعِ، وَمُخَالَفَةُ الشَّرْعِ لَيْسَتْ مِنَ الشَّرْعِ فِي شَيْءٍ، فَاتِّبَاعُ الْهَوَى مِنْ حَيْثُ يُظَنُّ أَنَّهُ اتِّبَاعٌ لِلشَّرْعِ ضَلَالٌ فِي الشَّرْعِ، وَلِذَلِكَ سُمِّيَتِ الْبِدَعُ ضَلَالَاتٍ، وَجَاءَ «إِنَّ كُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ»؛ لِأَنَّ صَاحِبَهَا مُخْطِئٌ مِنْ حَيْثُ تَوَهَّمَ أَنَّهُ مُصِيبٌ، وَدُخُولُ الْأَهْوَاءِ فِي الْأَعْمَالِ خَفِيٌّ، فَأَقْوَالُ أَهْلِ الْأَهْوَاءِ غَيْرُ مُعْتَدٍّ بِهَا فِي الْخِلَافِ الْمُقَرَّرِ فِي الشَّرْعِ، فَلَا خِلَافَ حِينَئِذٍ فِي مَسَائِلِ الشَّرْعِ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ. فَإِنْ قِيلَ: هَذَا مُشْكِلٌ، فَإِنَّ الْعُلَمَاءَ قَدِ اعْتَدُّوا بِهَا فِي الْخِلَافِ الشَّرْعِيِّ، وَنَقَلُوا أَقْوَالَهُمْ فِي عِلْمَيِ الْأُصُولِ، وَفَرَّعُوا عَلَيْهَا الْفُرُوعَ، وَاعْتَبَرُوهُمْ فِي الْإِجْمَاعِ وَالِاخْتِلَافِ، وَهَذَا هُوَ الِاعْتِدَادُ بِأَقْوَالِهِمْ. فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْن: أَحَدُهُمَا: أَنَّا لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُمُ اعْتَدُّوا بِهَا، بَلْ إِنَّمَا أَتَوْا بِهَا لِيَرُدُّوهَا، وَيُبَيِّنُوا فَسَادَهَا، كَمَا أَتَوْا بِأَقْوَالِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَغَيْرِهِمْ لِيُوَضِّحُوا مَا فِيهَا، وَذَلِكَ فِي عِلْمَيِ الْأُصُولِ مَعًا بَيِّنٌ، وَمَا يَتَفَرَّعُ عَنْهَا مَبْنِيٌّ عَلَيْهَا. وَالثَّانِي: إِذَا سَلِمَ اعْتِدَادُهُمْ بِهَا، فَمِنْ جِهَةِ أَنَّهُمْ غَيْرُ مُتَّبِعِينَ لِلْهَوَى بِإِطْلَاقٍ، وَإِنَّمَا الْمُتَّبِعُ لِلْهَوَى عَلَى الْإِطْلَاقِ مَنْ لَمْ يُصَدِّقْ بِالشَّرِيعَةِ رَأْسًا، وَأَمَّا مَنْ صَدَّقَ بِهَا وَبَلَغَ فِيهَا مَبْلَغًا يُظَنُّ بِهِ أَنَّهُ غَيْرُ مُتَّبِعٍ إِلَّا مُقْتَضَى الدَّلِيلِ يَصِيرُ إِلَى حَيْثُ أَصَارَهُ، فَمِثْلُهُ لَا يُقَالُ فِيه: إِنَّهُ مُتَّبِعٌ لِلْهَوَى مُطْلَقًا، بَلْ هُوَ مُتَّبِعٌ لِلشَّرْعِ، وَلَكِنْ بِحَيْثُ يُزَاحِمُهُ الْهَوَى فِي مَطَالِبِهِ مِنْ جِهَةِ اتِّبَاعِ الْمُتَشَابِهِ، فَشَارَكَ أَهْلَ الْهَوَى فِي دُخُولِ الْهَوَى فِي نِحْلَتِهِ، وَشَارَكَ أَهْلَ الْحَقِّ فِي أَنَّهُ لَا يَقْبَلُ إِلَّا مَا عَلَيْهِ دَلِيلٌ عَلَى الْجُمْلَةِ. وَأَيْضًا، فَقَدْ ظَهَرَ مِنْهُمُ اتِّحَادُ الْقَصْدِ عَلَى الْجُمْلَةِ مَعَ أَهْلِ الْحَقِّ فِي مَطْلَبٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ اتِّبَاعُ الشَّرِيعَةِ، وَأَشَدُّ مَسَائِلِ الْخِلَافِ مَثَلًا مَسْأَلَةُ إِثْبَاتِ الصِّفَاتِ، حَيْثُ نَفَاهَا مَنْ نَفَاهَا فَإِنَّا إِذَا نَظَرْنَا إِلَى الْفَرِيقَيْنِ وَجَدْنَا كُلَّ فَرِيقٍ حَائِمًا حَوْلَ حِمَى التَّنْزِيهِ وَنَفْيِ النَّقَائِصِ وَسِمَاتِ الْحُدُوثِ، وَهُوَ مَطْلُوبُ الْأَدِلَّةِ، فَاخْتِلَافُهُمْ فِي الطَّرِيقِ قَدْ لَا يُخِلُّ بِهَذَا الْقَصْدِ فِي الطَّرَفَيْنِ مَعًا، وَهَكَذَا إِذَا اعْتُبِرَتْ سَائِرُ الْمَسَائِلِ الْأُصُولِيَّةِ. وَإِلَى هَذَا فَإِنَّ مِنْهَا مَا يَشْكُلُ وُرُودُهُ وَيَعْظُمُ خَطْبُ الْخَوْضِ فِيهِ؛ وَلِهَذَا لَمْ يَظْهَرْ مِنَ الشَّارِعِ خُرُوجُهُمْ عَنِ الْإِسْلَامِ بِسَبَبِ بِدَعِهِمْ. وَأَيْضًا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا دَخَلُوا فِي غِمَارِ الْمُسْلِمِينَ، وَارْتَسَمُوا فِي مَرَاسِمِ الْمُجْتَهِدِينَ مِنْهُمْ بِحَسَبِ ظَاهِرِ الْحَالِ، وَكَانَ الشَّارِعُ فِي غَالِبِ الْأَمْرِ قَدْ أَشَارَ إِلَى عَدَمِ تَعْيِينِهِمْ، وَلَمْ يَتَمَيَّزُوا إِلَّا بِحَسَبِ الِاجْتِهَادِ فِي بَعْضِهِمْ، وَمَدَارِكُ الِاجْتِهَادِ تَخْتَلِفُ- لَمْ يُمْكِنْ وَالْحَالُ هَذِهِ إِلَّا حِكَايَةُ أَقْوَالِهِمْ، وَالِاعْتِدَادُ بِتَسْطِيرِهَا، وَالنَّظَرُ فِيهَا، وَاعْتِبَارُهُمْ فِي الْوِفَاقِ وَالْخِلَافِ لِيَسْتَمِرَّ النَّظَرُ فِيهِ، وَإِلَّا أَدَّى إِلَى عَدَمِ الضَّبْطِ، وَلِهَذَا تَقْرِيرٌ فِي كِتَابِ الْإِجْمَاعِ، فَلَمَّا اجْتَمَعَتْ هَذِهِ الْأُمُورُ، نُقِلَ خِلَافُهُمْ. وَفِي الْحَقِيقَةِ، فَمِنْ جِهَةِ مَا اتَّفَقُوا فِيهِ مَعَ أَهْلِ الْحَقِّ حَصَلَ التَّآلُفُ، وَمِنْ جِهَةِ مَا اخْتَلَفُوا حَصَلَتِ الْفُرْقَةُ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ، فَجِهَةُ الِائْتِلَافِ لَا خِلَافَ فِيهَا فِي الْحَقِيقَةِ، لِصِحَّتِهَا وَاتِّحَادِ حُكْمِهَا، وَجِهَةُ الِاخْتِلَافِ هُمْ مُخْطِئُونَ فِيهَا قَطْعًا، فَصَارَتْ أَقْوَالُهُمْ زَلَّاتٍ لَا اعْتِبَارَ بِهَا فِي الْخِلَافِ، فَالِاتِّفَاقُ حَاصِلٌ إِذًا عَلَى كُلِّ تَقْدِيرٍ. فَالْحَاصِلُ مِنْ مَجْمُوعِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ كَلِمَةَ الْإِسْلَامِ مُتَّحِدَةٌ عَلَى الْجُمْلَةِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ شَرْعِيَّةٍ، وَلَوْلَا الْإِطَالَةُ لِبُسِطَ هَذَا الْمَوْضِعُ بِأَدِلَّتِهِ التَّفْصِيلِيَّةِ وَأَمْثِلَتِهِ الشَّافِيَةِ، وَلَكِنْ مَا ذُكِرَ فِيهَا كَافٍ، وَاللَّهُ الْمُوَفِّقُ لِلصَّوَابِ.
|