الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: فيض الباري شرح صحيح البخاري ***
واعلم أن التفعُّل ههنا للتجنُّب، بمعنى إزالة الهُجُود. وقال العلماء: إنَّ اسم التَّهَجُّد لا يَصْدُق إلا بعد الهُجُود، فلا يطلق على صلاة الليل قبل الهُجُود. وفي «المِشْكَاة»: «أن هذا السفر جهد وثقل، فَمَنْ صلَّى ركعتين بعد العشاء في أوليهما: «إذا زُلْزلت»، وفي الثانية: «قل يا أيُّهَا الكافرون» كَفَتاه عن التَّهَجُّد». فهذا تهجُّدُهُ قبل النوم، ولكنه لا يخالفُ ما قاله العلماءُ، فإنه تَهَجُّدٌ حُكْمِي. وباب آخَر: ألا ترى أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم أَمَر النَّاسَ أن يجعلوا الوِتْر في آخِر صلاةِ الليل، ثُمَّ أَوْصَى للبعض أن يُصَلُّوه قبل النوم. فهذا كلُّه تقسيمٌ على الأَحوال. ثم إنَّ التَّهَجُّد- وهي صلاة الليل- مُغَايرٌ للوِتْر عندنا ذاتًا، وهما مُتَّحِدَان عند الشافعية، فإنْ صلاهَا قبل النوم سُمِّيت صلاةَ الليل، وإنْ صلاها بعدما استيقظ من نومه سُمِّيت تَهجُّدًا. فالفرق بينهما وصفي، وكذا الوِتْر عندهم. فالوِتْر والتهجُّد وصلاةُ الليل كلُّها عندهم متحدةٌ ماصَدُقًا، ومتباينةٌ مفهومًا واعتبارًا، وهي إحدى عشرةَ ركعةً، ثم قالوا: إنَّ ههنا صلاةً أخرى، وهي النَّفْل مطلقًا والرجل مخير فيها إن شاء صلاها مئة فصاعدًا، بخلاف الوِتْر فإِنَّها لم تثبت فوق إحدى عشرةَ في أَصَحِّ الروايات، فلها رَكَعَاتٌ معدودة. وقلنا: أما الفَرْقُ بين صلاة الليل والتهجُّد فكما ذكرتم، لكنَّ الوِتْرَ صلاةٌ مستقلة، مغايرة ذاتية، متميزة بوقتها، وقضائها، وركعاتها، وتعيين قراءتها. وإنَّما التبست في بادىء النَّظر لارتباطِهَا بصلاة الليل شَيْئَا. فَإِذَا تَقدَّمت وصُلِّيت بعد العشاء قبل النوم، كما كان أبو هريرة وبعضٌ آخَرون يَفعَلُه امتازت عن شاكلةِ صلاة الليل. وقد مرَّ أنها ليست للإيتار فقط، بل صارت صلاةً برأسها، وهو معنى قوله صلى الله عليه وسلّم «إن الله أمدكم بصلاة»... إلخ فدلَّ على أن الوِتْر صلاةٌ مستقلة لا أنه للإيتار فقط. وأما الأحاديث فلا ريبَ أنها وردت بالنَّحْوين: فحديثُ عائشة رضي الله عنها عند أبي داود وغيرِهِ: «كَان يُوْتِر بأربعٍ، وثلاثٍ»... إلخ، يُبنى على نظر الحنفية، وفصل الوتر عن صلاة الليل. وحديث ابنِ عمرَ رضي الله عنه يُبنى على إطلاقِ صلاةِ الليل على المجموع. فعن ابن عمَر رضي الله عنه: أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلّم كان يُوْتِر على الدابة. أطلق فيه الوِتْر على صلاةِ الليل، ولا حَرَج، فإنَّ الوِتْر منها في الحِسِّ. وفي بعض الملاحظات. وروى الطحاوي عنه مرفوعًا: «أنه صلى الله عليه وسلّم كان يَنْزلُ له». فلعلَّه أرادَ به الوِتْر من صلاةِ الليل. فروايته الأولى تُبْنَى على إطلاقِ الوِتْر على مجموع صلاة الليل. والثانية على فَصْله منها فلا تعارض. وقد أشكل عليهم الْجَمْعُ بينهما، فحمله الشافعيةُ على مذهبهم، وحمله الطحاويُّ على أنَّ الوِتْر على الدابة كان فيما كان فيه توسيعًا، فإذا عزم الأَمْر وتحتم الوِتْر نزل لها صلى الله عليه وسلّم والمختار عندي ما سمعتَ آنفًا. ثُم إنَّ هذه من أنظار الرواة واعتباراتهم لا يُعقد منها شيءٌ ولا ينقض، ولا يصاغ منها أمرٌ ولا يكسر. والقومُ قد بَثُّوا مسائلهم على تعبيراتِهم فقط، فوقعوا في حيرة. والأمر ما حَقَّقْناه في مَوْضعه فتذكره. وما يُعْلَم من صنيع الأئمة أَنَّهما صلاتانِ متغايرتان عندهم كالبخاري. فإنَّه بَوَّبَ للوِتْر، ثُمَّ بَوَّب للتهجد وصلاة الليل. فهذا يدلُّ على أنهما صلاتان عنده. وهكذا صنيعُ غيرهِ. ثم إنَّ الشافعية إذا دخلوا في باب الوتر قالوا: إن الوِتْر ثلاثٌ بالتسليمتين، وكتبوا في آخِر بابه أنه يجوزُ بركعةٍ أيضًا. فاختاروا للعَمل الصورةَ الأُولى فقط، وإذا نزلوا على الجائزات وَسَّعوا بركعةٍ وغيرها. فَعُلِم أن الخلافَ بِحَسَب العمل قليلٌ، وإنما يظهَرُ الجدلُ عند بيانِ الصور الجائزة. قوله: ({وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ}) (الإسراء: 79) واختُلِفَ في تفسيرِ النافلة، فقيل: فريضة زائدة لك، خُصِّصْتَ بها من بين أمتك. ثُمَّ ادَّعى النوويُّ رحمه الله تعالى أنه نُسِخ عنه أيضًا. وقيل: عبادة زائدة في فرائضك، وقيل: زائدة لك خاصَّة وليست كفَّارةً بخلافِ أُمَّتِك، لكونك لا ذَنْبَ عليك. أقول: إنَّ النَّفْل ههنا على صرافة اللغة، لا ما في الفِقْه بالمعنى المقابل للفَرْض، فإنَّه وُضِع له لَفْظُ التطوُّع الدال على كونه من طَوَع العبد بدون إيجابٍ من الله تعالى، أو إعطاء من عنده، بخلاف النَّفْل فإنه يكون من جهةِ النافل بمعنى إعطاءِ الزيادة من جانبه، ومنه نَفَّل الغنيمةَ. فالسَّهم هو الحِصةُ المعيَّنةُ، وما يزيدُهُ الإمام من جانبه لأحد يقال له النَّفْل، لأنه إعطاءٌ منه زائدًا على حِصته، وفَضْلُ منه، فالنَّفل صِفةُ النافل، والتطوع من جانب العبد، فقال: {نَافِلَةً لَّكَ} (الأنبياء: 72) أي مِنْ الله تعالى، لا نافلةً مِنك لله تعالى. وعليه قوله تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً} (الأنبياء: 72) (بخشش) فَنَسب النَّفْل إلى نَفْسه، أي أعطيناك إسحاقَ ويعقوبَ عطية من عندنا. فإِذَن هو بمعنى بلا شيءٍ واستحقاق منك، وترجمته (مفت) أ يمجانًا، أو هو فَضْلٌ لك وترجمتُه (بحت). لكن علي طَور ما قلنا، والنَّفْل بهذا المعنى لا يَضَادُّ الْفَرْض كما في «المشكاة» في أحاديث فَضْل الوضوءِ: «إنَّ الوضوءَ يُكفِّر من الخطايا حتى تكونَ صلاتُهُ نافلة»، أو كما في أحاديث أمراءِ الجَوْر: «فإن صَلَّيت لِوَقْتِهَا كانت لك نافلةً» على شَرْح الحنفية، فإنَّ النافلة أطلقت على الصلاة المتكوبة في الموضعين، كيف وقد مر أنَّ بِنِيَّة النافلةِ والفريضةِ واحدةٌ، وإنَّما الفَرْق من حيثُ لحوقُ الأوامر بواحدةٍ دون أخرى، وذلك من الطوارىء، فالصلاة اسمٌ للهيئةِ المشاهدة المخصوصةِ فقط، ولا تَعَلُّقَ لمسمَّاها بكونِها نافلةً أو مكتوبةً. وأخطأ الرازيّ حيثُ زعم أن الصلاةَ لَفْظٌ مشتَرَكٌ بين النافلة والمكتوبة، فجعلهما حقيقتَيْنِ مختلفتين مع أنَّ الصوابَ ما قلنا، لأن اختلافَ النَّفْلية والفَرْضية حَدَث من قبلِ الخارج، وذلك لا يُوْجِب اختلافَ الحقيقة. ولعلك عَلِمت منه أنَّ الآية لا تدلُّ على كونِ التهجُّد تَطَوُّعَا في حقِّه صلى الله عليه وسلّم ومَنْ استدل عليه فكأَنَّه لم يُمْعِن النَّظر. وقد بَيَّنا أنَّ صلاةَ الليل كانت واجبةً أولا، ثُم لم يُنْسخ حرفٌ منها، غيرَ أنه نَزَل الأَمْرُ إلى التيسير، فَحَملُوه على نَسْخ الأَصْلِ. نَعم غُيرت في صفةٍ منها شيئًا، فأُكِّدت منها قطعةٌ سُمِّيْت بِاسمٍ على حِدَة، وهو الوِتْر، وجُعِل له وَقْتٌ وهو آخِرُ الليل لِمَنْ يَعْتَمِد الانتباه وإلا فأوَّلُ الليل، وأَمَرَ بقضائه. ورُدِّد في وقتِ العِشاء مراعاةً لِوَقْت الوِتْر، ففي بعض الروايات وَقْت العشاءِ إلى النِّصف، وفي البعض إلى الثُّلُث، وإلى جميع الليل. والنَّاسُ زَعَمُوه اختلافًا فتصدُّوا إلى وَجْه التوفيق. وعندي: هذا الترديدُ مَبنِيٌّ على ترديد القرآن في صلاة الليل، قال تعالى: {يأَيُّهَا الْمُزَّمّلُ قُمِ الَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً نِصْفَه أو انْقُص منه قليلا أو زد عليه}. وحاصله: أن الليل كلَّه مَقْسومٌ بين العشاءِ وصلاةِ الليل، فإن صلَّى العشاءَ في النصف الأول يُصلِّي التهجُّد في النصفِ الآخر، وهكذا في جانب القِلَّة والزيادة. ومِنْ ههنا جاء الترديدُ في نزولِ الربِّ تبارَك وتعالى، فإنَّه على النِّصْفِ، والثلث، حَسَب الترديد في صلاةِ الليل. فَرَاع هذه الترديدات كلَّها كيف تَنْحَطُّ على مَحَطَ واحدٍ واعتبره، ولا تَزْعُمْها شكَّا من الرواة. وإذا دريت أن الوِتْر قطعةٌ من صلاةِ الليل، هان عليك أن تَدَّعِي وجوبه، ولولا طريقُهُ. طنيًّا لَقُلْنَا بافتراضه، إلا أنَّ كونَ هذا المقطوعِ والمُؤكَّد وِترًا وعُلِم من أخبارِ الآحاد فاكتفينا بالقَوْل بوجوبهِ. والبسط في رسالتنا «فَصْل الخِطَاب في مسألة أمِّ الكِتَاب». 1120- قوله: (قال: اللَّهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ)... إلخ. ولَعَلَّه كان يَدْعُو بهذا الدعاء عقيبَ اليقظة قُبَيْلَ الوضوءِ. 1120- قوله: (أَنْتَ قَيِّمُ السمواتِ) وهي علاقة الَقيُّومِيّة التي اعتبرها الشَّرْع، وهي أَقْرَبُ من عَلاقَةِ الخالقية، وليست تلك عِنْدَ الفلاسفةِ، وعندهم عَلاقَة العِلِّية والمبدئية. فاللَّهُ عندنا حَاكِمٌ على الإطلاق، يفعلُ ما يشاءُ ويَحْكُمْ ما يريدُ، وعِلَّةٌ عند الفلاسفة، فإنه لا قدرةَ عندهم له إلا على جانبِ واحد، تعالى اللَّهِ عن ذلك عُلُوًّا كبيرًا، كذا نقله الحافِظ ابنُ تيمية رحمه الله تعالى. قلتُ: وهوالصوابُ من مذهبهم، فإنَّ ابن رشد لَخصَّ «مقالات أرسطو» وذكر فيه: أنَّ المُمْكِنَ عنده مايوجَدُ تارةً وينعدِمُ أخرى، والممتَنِعُ ما لا يوجَدُ أبدًا، والضصروريُّ ما يوجَدُ أبدًا. وصرَّحوا أن الفَلَك ضروريُّ. وعلى هذا لا يُقال في البسيط أن فيه حَيْثِّيثن: حيثية الإمكان بِحَسَب ذاته، والامتناع باعتبارِ الغير. نعم يمكن أن يُقال إنه واجِبٌ باعتبار ذاتِه، ومُمْكِنٌ باعتبارِ حركتِه. فحيثيةُ الإمكان ليست بالنَّظَر إلى الذاتِ، بل باعتبار الحركة. أما كونُ ذاتِهِ ممكنًا باعتبار، وواجبًا باعتبار، فهذا مما لا يُسَوَّغُ عنده. ثم قال: إنَّ أوَّلَ مَنْ أوجده ابنُ سينا، فهو يَنْظُر إلى طبيعةِ الشيء ودوام وجودِهِ، فيحْكُمْ عليه بِحُكْم النَّظر إلى طبيعتهِ، وبِحُكْمٍ آخَر بالنظر إلى وجودِهِ، بخلاف الفلاسفة، فإنَّهم عدلوا عن إخراج الاعتبارين في الأشياء الدائمة. وحيئنذٍ لم يَبْقَ لاسمِ واجبِ الوجود مَزَّيَتُهُ، فإن الفَلَكِ عندهم أيضًا واجِبُ الوجودِ. ومِنْ ههنَا تَبَيَّنَ أن ما استدل به ابنُ سينا على إثباتِ الواجب لا يتأتَّى على قواعدِهِمْ. فإنَّه قال: إنَّ من الأشياءِ ما هي ممكنةٌ بحسبِ ذواتها، دائمةٌ باعتبارِ وجودها، فلا بد أن تنتهي إلى عِلة واجبةٍ، فإن الدوام لا يَخْلو عن سببٍ، فثبت الواجب. وهذا كما ترى يُبنى على القولِ باعتبارين في شيءٍ واحدٍ وقد أنكروه. نعم للفلاسفة على هذا المطلب دَلِيلٌ آخَر على طورهم، وهو أنَّ التسلسلَ في العلل مُحال، فلا بد أن تنتهي إلى واجب وهو المراد. وراجع التفصيل في مواضعه. قوله: (أَنْتَ نُوْرُ السَّموَاتِ)...إلخ. وفي «المِشْكَاةِ»: «إنَّ اللَّهَ تعالى خَلَقَ الأَشياءَ في الظلمة، فَرَشَّ عليها مِنْ نُورِهِ، فمن أصابَه اهتدى، ومَنْ أخطأه ضَلَّ» أو كما قال. 1120- قوله: (أَنْتَ مِلْكُ السَّموَاتِ).. إلخ. وذكر عَلاقَة المِلْكية. 1120- قوله: (أَنْتَ الْحَقُّ، وَوَعْدُكَ الحَقُّ ولقاؤَكَ حَقُّ) ففي الأَوَّلِيْنَ قَصَر، وأما اللقاء فلم يكن من أشياءِ القَصْر فَنَكَّرَه. 1120- قوله: (وَبِكَ خَاصَمْتَ) أي في الدَّيْن، (وإليك حَاكَمْتِ) أي فيه. 1120- قوله: (وَزَادَ عَبْدُ الْكَرِيْم)...إلخ. وهو ابن أبي الْمُخَارِق. ضَعَّفَه الترمذي في جميع المواضع، وليس الجَزَري وهو ثقة. وعَدَّه المُنْذِرِي في الترغيب والترهيب من رجال البخاري وإن كان في المتابعات، وردَّ عليه الحافظ رحمه الله تعالى وقال: ذكره في سَرْد القصة لا في الإسناد، وهذا كَذِكْر الشيطانِ وأمثالِهِ في قَصَص القرآن ولا يَلْزِم مِنْ الذِّكْر في ذيل القِصَّة ثِقَتُهُ أصلا. قلت: والصواب ما قاله الحافِظُ رحمه الله تعالى. ثم أقولُ إنَّ «عبد الكريم» هذا وإن لم يكن مِنْ رِجال البخاري، إلا أنَّه يمكنُ أن يكونَ البخاريُ أخرج عنه قِطعةً ههنا لِما شَهِد بِصِدْقِه قَلْبُهُ في خصوصِ هذا المقام.
1121- قوله: (وكُنْتُ أَنَامُ في المسجد) وقد عَلِمْت أَنَّ ابنَ عمرَ رضي الله عنه كان مِمَّنْ أرادَ أن يبني بيتًا من مَدَر، فلم يُعِنْه النَّاسُ عليه، فلا بأس لِمِثْلِهِ أن ينامَ في المسجدِ. 1121- قوله: (كَطَيِّ البِئْر) كنوئين كي من. قوله: (لم تُرَع) وهو وإنْ كان جَحْدًا لكنَّ ترجمتَه النهيُّ، أي لا تُرَاعُوا، ويمكن حَمْلُهُ على الجَحْد أيضًا.
1123- قوله: (يَسْجُدُ السَّجْدَةَ مِنْ ذَلِكَ قَدْرَ ما يقرأُ أَحَدُكُمْ خَمْسِيْنَ آيةً) واعلم أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان نهاهم عن الاقتداءِ به في صلاةِ الليل، لأنَّه لم يكن يُرَاعي فيه حال الضفعاء، والمَرْضَى. ودل هذا أَنَّ بناءَها كان على الانفراد، وإليه أشار القرآنُ بقوله: {نَافِلَةً لَّكَ} (الإسراء: 79) فَفَصَلَهُ عن الخمسة وقال: {أَقِمْ الصلاةَ لِدُلُوك الشَّمْسِ إلى غَسَقِ الليل وقرآنَ الفَجْرِ} فهذه خَمْسُ صلوات أَمَرَ بِإِقَامتِهَا، وإقامتُهَا أَنْ يُؤَدِّيَهَا مع الجماعاتِ في مساجدَ يُنَادَى بِهَا، ثُم ذَكَر التهجُّدِ فقال: {وَمِنَ الَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ} فعبَّر عنها بالنافلة لعدم شَركة الجماعةِ فيها، فإنَّ الصلواتِ الخَمْسَ فيها شركاءُ معك، كالسَّهْم يشترِكُ فيه الغانمون كلُّهم. وأما النَّفْل فلا يكون فيه للجماعةِ حَقٌّ، كذلك هذه الصلاة نافلةً لك، فلا تدخل الجماعةُ معك فيها، فهي حالُكِ الأحاديُّ وَوِظِيْفتُكَ الانفرادية، ولذا قال إمامنا رحمه الله تعالى: إن التداعِي في صلاةِ الليل مكروهةٌ. وَحَدُّ التداعي عندي- كما في العُرْف- بِأَنْ يُدْعَى لها الناسُ. وما ذَكَرَه المُفْتُون فهو تحديدٌ للعَمَل لا أنه مَنْقُولٌ عن صاحبِ المذهب. ثُمَّ إنَّ النَّسائي بَوَّب عليه بأن تلك السجدةَ الطويلةَ كانت على حِدَة لا في ضمن الصلاة. قلتُ: وهو بعيدٌ عن الصواب، بل كانت ممن أركانِ الصلاة. أمَّا السجدةُ المفردة فاستحبَّها الشافعيةُ في أوقاتٍ مختلفة: بِأَنْ يسجدَ بها متى شاءَ، وهذا في غَيْر مَوْضع الشُّكْر أيضًا. قلتُ: ولا أَصْلَ لها عندنا، نعم في الكتب في سجدة الشكر قولان، ولا بُدَّ من القول بالجواز. وأمَّا ما اعتاد بها الناسُ بعد الوِتْر والتراويح فمنع منها في «الكبيري شَرْح المنية».
واعلم أن المصنف رحمه الله تعالى أخرج ههنا متنًا واحدًا له سَنَدَانِ وَحَوَّل بينهما، وجعل في كتاب التفسير في تفسير سورة «والضحى» (2738) متنَين بِسَنَدَيْن، هكذا قال: سَمِعت جُنْدُب بن سفيان قال: اشتكى رسولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلّم فلم يَقُم ليلةً، أو ليلتين، أو ثلاثًا، فجاءت امرأةٌ فقالت: يا محمد، إني لأرجو أن يكونَ شيطانُك قد تَرَكَكَ». ..إلخ. والمرأةُ هذه امرأةُ أبي لَهَب كما يَنْطِقُ به خُبْثُ تعبيرِهَا. وعنه قالت امرأةٌ: «يا رسولَ الله مَا أَرَى صَاحِبَك إلا أَبْطَأَك»... إلخ. والمرأةُ هذه هي أُمُّ المؤمنين خديجةُ رضي الله تعالى عنها كما يُشْعِرُ به مخاطَبَتُهَا إيَّاهُ صلى الله عليه وسلّم وإنَّما ذَكَرَتْهَا تَحَسُّرًا، ثم ذَكَر فيهما نُزولَ الآيةِ، ولا يُتَوهَّم الاضطرابُ بينهما. والجواب: أنَّ الآيةَ نَزَلَتْ بعدهما، إلا أنه ليس مَوْضِع التحويل، فإنَّه يدل على كونهما قصةً واحدةً، ومتنًا واحدًا من إسنادين مع أنهما متنانِ مختلفان بإسنادين كذلك، كما يتضِحُ من كتاب التفسير، وفي مِثْله لا يناسب التحويلُ، إلا أنَّ المصنِّفَ رحمه الله تعالى لما أخرجهما في كتاب التفسير لم يبالِ بهذاالإيهام.ولعلَّ غَرَضَه ههنا التنبيه على كَوْنِ هاتين القطعتين في واقعةٍ واحدةٍ وإن كان الحديثانِ مُخْتَلَفِين: الأول في امرأةِ أبي لهب، والثاني في أُمِّ المؤمنين.
ويستفادُ من كلام البخاريِّ أنَّ صلاةَ الليلِ لم تُنْسخ عنده بتمامِها، وهو المختارُ عندي على خلاف ما يُعْلَم من مسلمٍ وأبي داود. 1126- قوله: (يا رُبَّ كاسيةٍ) وربَّ، ومُذْ، ومُنْذ، لا تحتاج إلى مُتَعَلَّق، ومجرُورُهَا يكونُ في الأكثر مبتدأ. قال النحاة: إنَّ المنادى ههنا مَحْذُوفٌ. قلتُ: بل إذا أُريد به اللفظُ يصبر عَلَمًا لِنَفْسِهِ، وحينئذٍ تكون هي المُنَادى. واعلم أن محمدَ بنَ مقاتل هذا تمليذ عبد الله بنِ المبارك، وهو تلميذُ الإمام أبي حنيفةَ رحمه الله تعالى، فإذَن هو حنفيُ يُرْوى عنه في الفقه. قوله: (وكانَ الإنسانُ أكْثَرَ شيءٍ جَدَلا) (الكهف: 54) فَتَرْكُ العملِ والاعتمادُ على القَدَر سَمَّاه القرآنُ جدلا. وحَاصِله أن النبيَّ صلى الله عليه وسلّم لم يَرْضَ مِنْ تَمَسُّكِهِ بِالقَدَر، فإنَّ المرءَ إذا لم يستطع القيامَ على شيء فهو عُذْرٌ صحيح، ويغمض عنه عند الكرام. أمَّا إذا لم يهيىء نَفْسَه واحتال بالقَدَر ولاذَ به فهو مُجَادِلٌ لا معذورٌ، ولذا لم يَرْضَ به النبيُّ صلى الله عليه وسلّم 1129- قوله: (إنِّي خَشِيْتُ أَنْ تُفْرَضَ عَلَيْكُمْ) وهل من السُّنَن الإلهية إيجابٌ شيءٍ بالتزام الناسِ أمرًا كالتزام الفريضة في زمن نُزولِ الوحي؟ فما يُعْلَم من سُنَن الدين أنه قد يُوْجَبُ لكونِهِ محبوبًا عند الله سبحانه وتعالى. كالتراويح، فإنهم إذا التزموه خَشِي النبيُّ صلى الله عليه وسلّم افتراضَه، وقد يُشَدَّد من جهةِ الله سبحانه معاتبةً أيضًا، وهذا إذا شدَّد المرءُ على نَفْسه مضادةً كما في قصة البقرة. ثُمَّ في «البدائع» عن القاضي عياض: أنَّ الشُّروعَ في النَّفْل نَذْر فِعْلِيّ، فيجبُ كالنذر القولي، وهذا يفيد الحنفية. قلتُ: ويُسْتأَنسُ له من هذا الحديث أيضًا، فإنَّه يُشْعِر بأن الشيءَ قد يَجِب بالالتزام أيضًا.
كان يَفْعَلُ ذلك عند نزول أوائل المُزَّمِّل صيانةً للقَدْر المفروض، فإنه أَمْرٌ بقيامِ الليل كلِّه إلا قليلا. وفي الروايات: أنَّ اللَّهَ سبحانه كان خَيَّره في قيام الليل فأحيا كله إلى سَنَةٍ من عند نَفْسِه حتى تورَّمت قدماه، ونزل التيسير. وقد مَرَّ معنا التردُّد في كتاب الإيمان، أنَّ المأمورَ به كان هو القيامَ بالليل كلِّه أو بَعْضِه، كما يُشْعِر به أوَّلُهَا، أو القرآن كما يُشْعِر به قوله: {وَرَتّلِ الْقُرْءانَ تَرْتِيلاً} (المُزَّمِّل: 4) والقيامُ يتأدَّى بِتَرْك الهُجُود فقط. فالنظرُ يَدُور في أن الأصلَ هو القيامُ والترتيل تكميلٌ له، أو الأصلَ هو الترتيلُ والقيامُ لأجْل الترتيل والذي ظهر لي أنَّ المأمورَ به هو القيامُ، والترتيلُ تكميلٌ له، ولذا أشار إليه الحافظُ رحمه الله تعالى أن قيامَ الليل يتأدَّى في ضِمْن الأذكارِ وغيرِهَا أيضًا. 1130- قوله: (أفلا أَكُوْنُ عَبْدًا شَكُورًا) قيل: إنَّ الهمزةَ تقتضي الصَّدْر، والفاء تقتضي الدَّرْج، فكيف التوفيقُ بين مقتضاهما؟ فَقَدَّرَ له الزمخشريُّ فِعْلا وقال: أصله أأتركُ قيامَ الليلِ فلا أكونُ عبدًا شكورًا، فيكونُ الفِعْلُ الأول سببًا، والثاني مُسبَّبًا. وحاصِلَهُ أنه لو تَرَك الصلاةَ لم يكن عبدًا شكورًا، وخاصله جمهورُ النحاةِ وقالوا بترجيح حَقِّ الاستفهام على حَقِّ الفاء، فبقي الاستفهام على صَدَارَتِهِ، والعطف وإن اقْتَضَى الدرج لكنه تُرِكَ مقتضاه ههنا. وحينئذٍ حاصله أن المغفرةَ لا تقتضي تَرْكَ الاجتهادِ والعبادة، فإن الاجتهادَ قد يكونُ لتكفيرٍ، وقد يكون لأداء الشُّكْر، وهذا هو الأَصوب عندي، وإليه يشيرُ قوله تعالى: {نَافِلَةً لَّكَ} (الإسراء: 79). وفي قوله: {عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ} (الإسراء: 79)... إلخ إشارةٌ بليغةٌ إلى أنَّ للتهجُّدِ دخلا في وصولِ المقام المحمود. ثُمَّ إنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يَقْسِمُ لَيْلَه أسداسًا: السدسان الأَوَّلان- وهما الثلث- للعَشَاء، ثم السُّدس للاستراحة، ثُم السدسُ الرابع والخامس في العبادة، ثُمَّ للاستراحةِ، وهذا في الأَغلب.
والسَّحَر سُدُسُ اللَّيل الآخِر. 1132- قوله: (الصَّارِخ) وفي «سيرة العراقي» أنه كان عندَ النبيُّ صلى الله عليه وسلّم دِيكٌ أَبْيض. وكان عند النبيِّ الديك أبيض له *** كذا المُحِبُّ الطبريُّ نَقَلَه
يعني ثبت عنه النَّوْمُ عند السَّحَر بعد قيامِ اللَّيل، كما في الباب السابق. وثَبَت عنه أنه تَسَحَّر فلم ينم حتى صَلَّى الصُّبْح، وذلك في رمضانَ غالبًا. قوله: (خمسين آية) وتعجَّب الحافِظُ رحمه الله تعالى على قِلَّة تلك الفاصِلة. قلتُ: ولا عجب فيه من صاحبِ الوحي، فإنه تنامُ عيناه ولا يَنَامُ قَلْبُهُ.
وقد مر معنا أن الحافظ رحمه الله تعالى جعَل سُؤاله راجعًا إلى العدد، كأنه لم يكن عالِمَا بِعَدد صلاةِ اللَّيل فَعَلِمه أنها مَثْنَى مثنى. وسؤاله عندي عن نَضْد الوِتْر مع صلاةِ الليل، أي أين يضَعُهُ، بعدَها أَم قَبْلَها؟ فكأَنَّه كان عالِمَا بصلاةِ الليل والوِتْر من قَبْل، فأرادَ أن يتحقَّقَ عن تَرِتِيبهِمَا، فأجابه أن يجعلَ الوِتْر في آخِر صلاتِهِ، فيجعلها وِتْرًا. وهذا هو المُصرَّح في سياق «مسلم». ونكتةُ قوله: «مَثْنَى مَثْنَى» قد قَدَّمناها مِنْ قَبْل مشروحةً ومُفَصّلة. ثم إنَّ صلاةَ لَيْلِهِ صلى الله عليه وسلّم ثبتت إحدى عشرةَ، فذاك وَهَمٌ في الرواية فقط، أمَّا عادتُهُ صلى الله عليه وسلّم فقد ثَبَتتَ بالنَّحْوَين. 1140- قوله: (مِنْهَا الوِتْر وَرَكْعَتَا الفَجْر) وإنما يَذْكُرُهما الراوي مع الوِتْر لاتحاد مَوْضِعِهِما. فإنَّه كان يُصلِّيهما حيث كان يصلِّي الوِتْر. وهما في الحقيقةِ صلاتانِ مختلفتانِ. وكأن لهاتين شَبَهًا بصلاةِ الليل وشَبَهًا بصلاةِ النَّهار، فيعدهما الراوي تارةً في الليليةِ، وأُخْرى في النهاريةِ، رعايةً للشَّبَهَيْن، فإنَّهما في آخِر جزءٍ من الليل، وأوَّل جزءٍ من النهار. ثُم اعلم أنَّ روايةَ القاسِم بن محمد عن عائشةَ رضي الله عنها هذه أخرجها الدارقطنيُّ أيضًا، وفيها: أن وِتْره كان بواحدةٍ، وليس فيها ذِكْر سائر صلاةَ لَيْلهِ صلى الله عليه وسلّم فظنَّه الشيخُ النِّيمَوِي رحمه الله تعالى دليلا على كونِ الوِتْر بواحدةٍ. قلتُ: وتلك الروايةُ هي هذه الرواية بعينها متنًا وسندًا، واختُصِرت عند الدارقطنيِّ رحمه الله تعالى. وأخرجها البخاريُّ رحمه الله تعالى مُفَصلةً، وفيها وِتْرُهُ بثلاثَ عشرةَ ركعةً كما رأيت، فليُتَنَبَّه. ومِثْل هذا قد وقع من الرواةِ كثيرًا، ومَنْ لا ينظرُ إلى طُرُق الروايات يقع له مِثْلُهُ كثيرًا. وقد كَشَفْنَا عن وُجوهِ التعبير وما رامه الرواة شيئًا من قبل فتذكره. والتفصيل في «كَشْف السِّتر عن مسألة الوِتْر».
هذا الذي نَبَّهْتُكَ عليه: إنَّ المصنِّف رحمه الله تعالى ذَهَب إلى شرعيةِ بَعْضِ صلاةِ الليل، ونَسْخ البَعْض، ولذا أتى بِحَرْف التَّبْعِيْض. ثُمَّ هذه الإشارةُ على ما حَرَّرْتُ من قبل، أَنَّ «مِنْ» في سائر كتابه للتبعيض. والشارحون قد يجعلونَها بيانيةً، وقد يجعلونها تَبْعِيْضيَّةً. وإنَّما اخترت ما اخترت ليكونَ النَّسق في جميع كتابه واحدًا. وراجع كلامَ الرَّضِيِّ للفَرْق بين البيانيةِ والتبعيضية. ومِمَّنْ صَرَّح بِعَدِم نَسْخِهَا القاضي أبو بكر العربي وهو المختار عندي. وَلَعلَّهَا كانت مشروعةً من الابتداء حين كانت الصلاتان فقط، ولذا نَجِدُ ذِكْرَها مع الصلاتين في غيرِ واحدٍ من الآياتِ. قال تعالى: {وَسَبِّح بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طلوعِ الشَّمس وقَبْلَ الغُرُوبِ ومِنَ اللَّيل} (ق: 39)... إلخ، ثُمَّ بقيت حِصَّةٌ منها إلى زَمن افتراضَه الخَمْسِ وإن تَغَيَّرت شَاكِلَتُهَا شيئًا. تحقيق ما يستفاد من ترديد القرآن في صلاة الليل في سورة الزمل واعلم أن هذه الآيةَ جَعَلت الثُّلُثَ الأوَّل للعشاء خاصةً، والثُّلُبَ الآخِر لصلاةِ الليل خاصةً. ثُمَّ جعَلَت السُّدُسَ الأَوْسَطَ صالحًا لهما. فإن صَلَّى فيه العشاء صار النِّصفُ لها، وإن صَلَّى فيه صلاةَ الليل صار الثُّلُثَانِ لها. ثُمَّ جَعَلَتْ النِّصْفَ دعامةً في هذا التقسيم، أي ينبغي لك يا محمدُ أن يكونَ النِّصْفُ بِمَرأَى عَيْنَيك حتى تَقْسِمَ ليلَك بين العِشَاءِ وصلاةِ الليل بِحَسَبه. ولذا قال الفقهاء: إنَّ تأخيرَ العِشَاء بعد النِّصْف مَكْروهٌ تنزيهًا أو تحريمًا على القولين. والمختارُ عندي الأوَّل، كما هو عند الطَّحَاوي. فإن زِدْت عليه شيئًا فلك فيه خيرٌ، وإن انتقَصْت منه فلا بأسَ عليك. فأنت في الصُّوَرَ كُلِّها على خِيَرة بعد أن يكون النِّصْفُ ملحوظًا في ذِهْنِك، ولذا جاء التعبيرُ في النَّصِّ كما رأيتَ مردِّدًا. قوله: (وَطَاءً مُواطأة). قلتُ: والتفسيرُ في غَيْرِ مَوْضِعه. والذي يلائِمُهُ هو تفسيرُ الوطأ به. فإنَّ الوِطَاء- بالكسر- معناه المواطأة والموافقة، أي ما يخرجُ من اللسانِ يوافِقُه القَلْبُ. أما الوَطَأ- بالفتح- فمعناه وَطأ الشيء أي دَاسه. ومن العجائب أنَّ المشهورَ في كُتب التجويدِ من قراءة حَفْص هو الوِطَاء- بالكسر- مع أن قراءةَ أهلِ الهند هو الوَطَاء- بالفتح: وهُم يقرؤون قِراءَةَ حَفْص، فلا أدري من أين اشتهر هذا. ولَعَلَّك عَلِمْت أنَّ ابنَ عباس رضي الله تعالى عنه إنَّمَا فَسَّر قراءةَ الكسر دون الفتح. 1141- قوله: (يُفْطِرُ مِنْ الشَّهْرِ حَتَّى نَظُنَّ أَنْ لا يَصُومَ مِنْهُ). ولَمَّا لم يُوَاظِب النبيُّ صلى الله عليه وسلّم في باب الصيامِ والصلواتِ على عادةٍ كلية، لا باعتبارِ حِصَص الليل، ولا باعتبارِ المِقْدَار، بقي تعبيرُ الرواةِ عن وظائِفِه كما ترى، فاعلمه.
وفي «الفتح»: أَنَّ الشيطانَ يأتي بِحَبْلٍ طَوِيْلٍ، ثُمَّ يَنْفِثُ فيه يقول: عليك لَيْلٌ طَوِيْلٌ... إلخ، ويَعْقِد عُقدة. قلتُ: وَلَعَلَّ حَبْلَه هذا من عالم المِثَال. وَتَفَطَّن الحافِظُ رحمه الله تعالى من هذا العَقْد أنه مُشيرٌ إلى وجوبِ صلاةِ الليل شيئًا، فإنَّ حقيقةَ النَّفْلية لا يليق بها العَقْدُ، فاحتال لِدَرء الوجوب وقال: إنَّ هذا العَقْدَ فِيْمَن نام عن صلاةِ العِشَاء. وسيجيء ما فيه عندي. 1142- قوله: (فَذَكَرَ الله)... إلخ. وهذه الأذكارُ مما جاء قَبْل الوضوءِ عقيبَ النوم، كالحمد الذي مَرَّ في أَوَّل التَّهَجُّد. 1142- قوله: (نَشِيْطَا) (سبك جان- هلكى طبيعت) 1143- قوله: (أَمَّا الذي يُثْلَغُ رَأْسُهُ)... إلخ. واعلم أنَّ الذي نام عن صلاتِهِ في الليلِ وَرَد فيه ثلاثةُ ألفاظ: العَقْدُ على القَفَا، وثَلْغُ الرأس، والبَوْل في الأُذن. والدليل على الوجوب هو الثاني فقط، بخلاف الأَوَّل والثالث، فإنَّهما مَضَرَّتَان كَوْنِيَّتَان. وذلك لأنَّ ثَلْغَ الرأسِ عذابٌ من جهةِ اللَّهِ سبحانه وتعالى. فَصَلَحَ حُجَّةً على الوجوبِ، بخلاف العَقْد والبول فإنَّهما ضَرَرانِ من جهة الشيطان كَوْنًا، أي يسقط هو عليه، فلا يثبت منه الوجوبُ. فإن الشيطانَ في سجيته عداوةُ الإنسان، فيراقبه في الأحوال كلِّها حتى يُفْسِد عليه طعامَه، وشرابَه ونومَه، وأَمْرَه كُلَّه، فإذا وَجَد موضِعَا يمكنُ أن يُفْسِده، لم يُفلِته حتى يُفْسِدَه، فلم يكن من نوع العذاب. ألا ترى أنَّ الجُنُب لو نام على حالِهِ، ولم يَغْتَسل ومات على جنابته لا تحضُرُه الملائكة. فهذا ضَررٌ عظيم له، إلا أنه لا يثبتُ به الوجوبُ حتى جاز له أن ينامَ على جنابته وإنْ كُرِه. وقد علمت فيما مَرَّ أَنَّ الحِلَّ والحُرمة والإيجاب والنهي إنما تَثْبُت بِتَوجُّهِ الخطابِ من صاحبِ الشرع ولا دَخْل فيها للأنظار المعنوية، بمعنى أنها لا تدورُ عليها، وإن كان المأمورُ به مما ينبغي أن يكونَ حَسنًا، وكذلك المنهي عنه قَبِيْحًا، ولكن ليس كلُّ قبيحٍ منهيًا عنه، ولا كُلُّ حسن مأمورًا به. والتفصيل قد سبق غير مرة. ثم قوله في حديث سَمُرَةَ- مرفوعًا- الآتي «وينامُ عن الصلاة المكتوبةِ» ودليلٌ على أنَّ ثَلْغَ الرأس جزاءٌ لِتَرْك المكتوبة دون صلاةِ الليل. وهذا الذي حَمَل الحافِظَ رحمه الله تعالى على تأويل السابق. فلا يقومُ حجةً على وجوبِ صلاةِ الليل، فيخالفُ ما قَرَّرتُ سابقًا. قلتُ: بل الثَّلْغُ جزاءٌ لِتَرْكِهِ صلاةَ الليل. وإنَّما جاء ذِكْر تَرْكِهِ المكتوبة في السياق لكونه تَرَكَها أيضًا، وذلك لأن هذه الرواية تأتي في الجنائز أيضًا في صَدْر الجزء السادس ممن الصحيح (1185) والراوي اقتصر فيها على تَرْك القرآنِ فقط، ولم يذكر تَرْك المكتوبةِ. فظهر به المناط. وإنَّ ذِكْر المكتوبة كان في ذيل تقبيحه. ففيها: «والذي رأيتُهُ يَشْدَخُ رأسَه فرجلٌ عَلَّمَهُ اللَّهُ القرآن، فنام عنه بالليل، ولم يَعْمَل فيه بالنهار، يفعل به إلى يوم القيامة»... إلخ فَتَرْكُ المكتوبةِ جريرةٌ عظيمةٌ، إلا أن هذا الجزاءَ المخصوص لِرَفْض القرآن، وله المدخل فيه خاصَّةً. ولذا ترى يذكُر معه تَرْكَ المكتوبةِ تارةً، ولا يذكُر أخرى. وهناك أتى الحافظ رحمه الله تعالى برواية: «إنَّ الشيطانَ يأتي بحبل في سبعينَ ذراعًا. فَيَنْفُثُ فيه: عليك ليلٌ طويل». فيفوتُ عنه وِتْرُهُ- بالمعنى. وفيها لفظُ الوِتْر، فهذا يفيدُ الحنفية رحمهم الله تعالى. فإن قلتُ: الذي نام بعد ما صلَّى العشاءَ فذلك رجلٌ نام على خير، فَلِم مَكَّنَ اللَّهُ تعالى منه الشيطانَ؟ قلتُ: ومِثْلُه يَرِد على طَعَامِ مَنْ ترَك التسميةَ أيضًا. والوجه أنَّ في مِثْلِه وَرَدَالتقبيحُ من الشارِع فَحَسْب، أما بابُ الإِيجابِ فَأَمْرُ آخَر. ثم إنَّ البخاري أخرجه في باب تعبير الرؤيا (21043) وفيه في ذلك الرجل: «إنا أَتينا على رجلٍ مُضْطَجِعٍ، وإذا آخَرُ قائمً عليه بصخرةٍ»... إلخ. وفي صدر الجزء السادس: «مضطجعٌ على قَفَاه». وإنما عُذِّب مُضْطَجِعًا على قَفَاه، لأنه كان نامَ عن قرآنه كذلك. ولَمَّا كان القرآنُ في الرأسِ، ثَلَغ رأسَه جزاءً من جِنْسٍ عَمِلَه. فَذِكْر النَّوْمِ عنه بالليل، وتَرْك العملِ به في النهار يؤيده أيضًا، فإنَّ الصلواتِ سواءٌ كانت ليليةً أو نهاريةً تَرْكُهَا سواء، فَلا دَخْلَ لليلتها في ثَلْغ الرأس، فالعذابُ بِتَرك المكتوباتِ على تَرْك الليلةِ والنهاريةِ سواء، فلا تَظَهر لِذِكْر الليل فائدة. على أن ثَلْغَ الرأسِ لا يناسِبُ جزاءً لِتَرْكِ الصلاةِ بخلاف تَرْك القرآن. فهو جزاءٌ لِتَرْك القرآنِ قطعًا، ولأجله شُرِعَت صلاةُ الليلِ، وهو الذي يَتَرشَّح من قوله: {ورَتِّلِ القآن ترتيلا} (المزمل: 4) فالمأمورُ به هو القرآنُ والصلاة لأَجْلِ ترتيلِ القرآنِ فيها. ولذا خَصَّصَ أَهْلَ القرآنِ بمزيدِ التأكيدِ بها وقال: «فأوتُرُوا يا أهلَ القرآنِ». والحاصل: أنَّ المقصودَ أولا هو حِفَاظةُ القرآنِ وهي أَوْكَدُ على الحِفَاظ. ثُمَّ عمَّت الوظيفةُ لسائر الناسِ، ووجب الوتر في صلاة الليل على مَنْ حَفِظَ القرآن ومَنْ لم يَحْفَظه.
وبوله أَخَفُّ من الوعيد وأَرْفع من التقبيح. فأشدُّهَا الثَّلْغُ، ثُمَّ البول، والعقد أخفُّهَا. وبالجملة هو ضررٌ كونيٌّ لا يقومُ حجَّةً على الوجوب وإن استشعر الحافظ رحمه الله تعالى منه الوجوبَ، ثُمَّ رام عنه التفضيِّ بوَجْهٍ مَرَّ ذِكْرُهُ. 1144- قوله: (ذُكِرَ عند النبيِّ صلى الله عليه وسلّم رجلٌ)... إلخ. قال الحافظ رحمه الله تعالى: وهو ابنُ مسعود رضي الله تعالى عنه. قلت: بل هو رجلٌ آخَرُ، ولو كان هو لما أخفى اسمه، كما صرح به في رواية أُخْرى، وقال: وبال الشيطانُ مرةً في أُذُنِ صاحبِكم، يعني نَفْسه بالمعنى.
قوله: (مَنْ يَدْعُوْنيِ)... إلخ. وهذا النِّدَاءُ عندما يَنْزِلُ الربُّ تبارك وتعالى. وفي «الفتح»- في المجلد الأخير- نَقْلا عن البيهقي: أن الأئمةَ الأربعةَ اتفقوا على أنَّ النزولَ لا يَكْتَنِهُ معناه، ونؤمنُ به كما هو، ولا نَبْحَثُ عن كيف. فراجعه فإنَّه مهم، لأنَّ البخاريَّ رَمَى محمدًا رحمه الله بالجَهْمِيَّة وقال: إنَّه جَهْمِي. مع أن محمدًا صرَّح بنفسه: أنَّ الاستواءَ على العرش وَنَحْوَهُ مَعْلومٌ وكَيْفَهُ مَجْهولٌ. ثُمَّ إنَّ الرواةَ اختلفوا في وقت النزول، ومال الحافظ رحمه الله إلى الترجيح. قلتُ: بل الكلُّ صحيحٌ، ولعل النزولاتِ متعددةٌ، وتنوُّعُهُ بِحَسَب ترديدِ القرآن في وقتِ صلاةِ الليل من النِّصْف وغيرِهِ، وإنما خُصَّ الليلُ بالنزولِ لكونه فَارِغَا من الشُّغْل بغيرِ الله تعالى. ثم إنَّ النزولَ في لسان الصوفية رحمهم الله تعالى عبارةٌ عن نَحْو تَجَلَ من الله سبحانه وتعالى. وسيمُرّ عليك كلماتٌ في تفسسير التجلِّي، وهو أَشْكلُ المسائلِ عند الصوفية. وهو مخلوقٌ عندهم وصورةٌ من صُورِ الأفعال الإلهية، تُنْصَبُ بين العبدِ ورَبِّه لمعرفتِهِ تعالى، ويُنْسب إليها ما يُنْسَب إليه تعالى مع كونه مُنْفَصِلا عنها. واعلم أنَّ المتكلمينَ على طائفتين: طائفةٌ تُسَمَّى بالأشعرية، وهم المنسوبون إلى الشيخ أبي الحسن الأشعري. وتَبِعَه أكثرُ الشافعية والمالكية رحمهم الله. وطائفة ثانية تُسَمى بالماتُرِيدية، وهم المنسوبون إلى الشيخ أبي منصور الماتُرِيدي. وكان الشيخانِ معاصرين، وأبو منصور كان أصغرَهما وتبعه أكثرُ الحنفية. وليس الخلافُ بينهما إلا في نزر مِنْ مسائلَ ذكرَها العلماءُ. فذهَبَتِ الأشاعرةُ إلى أَنَّ الله تعالى قديمٌ وكذا صِفَاتِهِ السَّبْع. وأما نحو الترزيق والإحياء والإماتة فَسَمَّوها صفاتِ أفعال، وهي عندهم اعبتاراتٌ وإضافاتٌ لا أنها صفاتٌ حقيقيةٌ زائدةٌ على الذَّات. فالخلق باعتبارِ إضافته إلى الرِّزْق يُسمَّى ترزيقًا وهكذا، وتلك الإضافةُ حادثةٌ ليست قائمةً بالباري تعالى. قلتُ: ولا دليلَ عندهم على ذلك، فإنَّ للقدرةِ والإرادة أيضًا تعلّقَا بالحوادثِ ولم يذهب أحدٌ إلى حْدُوثها. وأما الماتُرِيدية فقسموا الصفات إلى صفات ذاتية: وهي ما يُوْصَفُ بها تعالى ولا يوصف بضِدِّهَا كالعلم والقدرة، وإلى صفاتٍ فعليةٍ: وهي ما يوصَفُ بها تعالى وبأَصْدادها كالإحياء والإماتة، فإنَّ اللَّهَ تعالى يُوْصَف بالإحياءِ والإماتة معًا. فصفاتُ الفِعْل عندهم أيضًا قديمةٌ، كالصفات الذاتية. ولم أجد هذا التعريفَ في كُتُب الكلام، نعم هو في «الدر المختار» من كتابِ الأيمان. ثُمَّ نحو الإحياء وغيرهِ عند هؤلاء راجع إلى صِفةٍ حقيقة سَمَّوها بالتكوين، واختارها البخاريُّ أيضًا. فصفةُ التكوِين اسمٌ لصفةِ كليةٍ تحتها جزئياتٌ، كالترزيق، والتصوير، والإحياء، والإماتة، وهي قديمةٌ. أقول: إنَّ ههنا أمورًا غير هذه تُنْسَبُ إلى الباري تعالى، كالنزول إلى السماءِ وغيره أُسمِّيةِ أَفْعَالا وليس نوعُهُ قديمًا، بل كُلُّهَا حوادثُ. وهي عند الماتُرِيدية حادثةٌ مخلوقةٌ للباري تعالى. وأما على مَشربِ الحافظ ابن تيميةَ رضي الله عنه فالصفاتُ الحادثةُ قائمةٌ بالباري وليست بمخلوقةٌ. فإنه لا يرى بقيامِ الحوادث بالقديم بأسًا. ويدَّعِي أنَّ ذلك هو مذهبُ السَّلَف، ويُنكر استحالةَ قيامِ الحوادثِ بالقديم. وفَرَّقَ بينَ الحادثِ والمخلوق: بأنَّ المخلوقَ يُطْلَقُ على المنفصل، فسائِرُ العالمَ حادثٌ ومخلوقٌ، بخلافِ الصفات فإنَّها حادثةٌ وليست بمخلوقةٍ لقيامها بالباري تعالى. قلتُ: وتساعِدُهُ اللغةُ. فإنَّه يُقالُ: إنَّ زيدًا مُتَّصِفٌ بالقيام، ولا يقالُ إنَّه خالقٌ له، فكذلك يقالُ: إنَّ اللَّهَ تعالى مُتَّصِفٌ بالنزول ولا يقال: إنه خَالقٌ له. وإليه جَنَح البخاريُّ رضي الله تعالى عنه وصرَّح أنَّ الله تعالى مُتَّصِفٌ بصفاتٍ حادثةٍ، غير أنَّ الشارحين أوَّلُوا كلامه. قلتُ: ورُوي عن الأئمةِ الثلاثة بسندٍ صحيح في كتاب «الأسماءِ والصفات»؛ مَنْ قال: إنَّ القرآن مخلوقٌ فهو كافرٌ، ففيه دليل على أنهم قالوا بحُدُوث الكلامِ اللفظيّ، وأنكروا كونَه مخلوقًا. فإنَّ الكلامَ النفسيَّ قَدِيْمٌ، واللفظيَّ حادثٌ عندنا، وسيأتي تفصيله في آخر الكتاب.
قال عامَّة العلماء: إنَّ التراويحَ وصلاةَ اليل نوعانِ مختلفان. والمختار عندي أنهما واحدٌ وإن اختلفت صفتاهما، كعدم المواظبة على التراويح، وأدائها بالجماعة، وأدائها في أول اللَّيل تارةً وإيصالها إلى السَّحَر أُخرى. بخلاف التهجُّد فإنه كان في آخِر الليل ولم تكن فيه الجماعة. وجَعْلُ اختلافِ الصفات دليلا على اختلاف نوعيهما ليس بجيِّدٍ عندي، بل كانت تلك صلاةً واحدةً، إذا تقدَّمت سُمِّيت باسم التراويح، وإذا تأخَّرت سُمِّيت باسم التهجُّد، ولا بِدْعَ في تسميتها باسمين عند تغايُرِ الوَصْفَين، فإنَّه لا حَجْر في التغاير الاسمي إذا اجتمعت عليه الأُمةُ. وإنَّما يثبُتُ تغايُرُ النَّوْعَيْن إذا ثَبَت عن النبيِّ صلى الله عليه وسلّم أنه صلى التهجُّدَ مع إقامَتِهِ بالتراويحِ. ثُمَّ إنَّ محمدَ بن نَصْر وَضَعَ عدَّة تراجِمَ في قيام الليل، وكتب أنَّ بعض السَّلَف ذهبوا إلى مَنْع التهجُّد لِمَن صلَّى التروايح. وبعضُهم قال بإباحة النَّفْل المطلق فلَّ اختلافُهُم هذا على اتحادِ الصلاتين عندهم. ويؤيده فِعْل عمرَ رضي الله تعالى عنه، فإنَّه كان يصلِّي التراويحَ في بيته في آخِر الليل، مع أنه كان أَمَرَهم أن يؤدُّوهَا بالجماعةِ في المسجد، ومع ذلك لم يكن يدخُل فيها. وذلك لأنه كان يَعْلم أَنَّ عملَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم كان بأدائها في آخِر الليل، ثُمَّ نَبَّهَهُم عليه قال: «إنَّ الصلاةَ التي تقومون بها في أول الليل مفضولةٌ عمَّا لو كُنتم تقيمونَها في آخِر اللَّيل». فجعلَ الصلاةَ واحدةً، وفَضَّل فيامَها في آخِر الليلِ على القيامِ بِهَا في أوَّلِ اللَّيل. وعامَّتُهُم لما لم يُدْرِكوا مُرَادَه جَعَلُوه دليلا على تَغَايُرِ الصَّلاتَيْن وزعموا أنهما كانتا صَلاتَيْن. ثُمَّ إنَّ التراويحَ لم يَثْبُت مرفوعًا أَزْيَدُ من ثلاثَ عشرةَ ركعةً إلا بطريقٍ ضَعِيْفٍ. لا أقول: إنَّها لم تكن في نفس الأمْر، بل إنَّما أنكِر النَّقْل عنه بطريق صحيحٍ، فبقي الحالُ مستورًا فيما زاد. فجاز أن يكونَ صلاها بالعددِ المشهور، وجاز أن يكونَ اقتصرَ على هذا القَدْر فقط، إلا أن الثابتَ عَنه هو ثلاثَ عشرةَ. نعم اتفقوا على ثُبوتها عشرينَ ركعةً عن عمر رضي الله عنه، وخَفَّف في القراءة، وكافأها بازدياد الركعاتِ فجعلها عشرينَ مكانَ العَشَرةِ. وهو الذي أراده الراوي عند مالك رحمه الله تعالى في «مُوطَّئه» (ص40) وكان القارىء يقرأُ بسورةِ البقرةِ في ثماني ركعات، فإذا قام بها في اثنتي عشرةَ ركعةً رأى الناسُ أنه قد خَفَّف اه. وفي «التاتاراخانية»: سأل أبو يُوْسُف أبا حنيفةَ رحمهما الله تعالى: هل كان لعمرَ رضي اللَّهُ عنه عَهْدٌ من النبيِّ صلى الله عليه وسلّم في عشرينَ ركعةً؟ فقال له أبو حنيفة رحمه الله تعالى: لم يكن عمرُ رضي الله عنه مُبْتَدِعًا. وبقي الوِتْرُ ثلاثَ ركعاتٍ كما كان. ثُمَّ إنَّ أئمةَ المذاهبِ الأربعة قَلَّدُوه على كونِ التراويح عشرينَ ركعةً. وَمَنْ زاد عليها جعلها نَفْلا مُطلقًا وحالا انفراديًا يصلِّيها الرَّجُلُ لنفسِه. أمَّا العِشرون فوضَعُوا لها الجماعةَ. 1147- قوله: (يُصلِّي أربعًا) ولا دليلَ فيه للحنفيةِ في مسألةِ أفضليةِ الأَرْبع، فإنَّ الإِنْصافَ خيرُ الأَوْصاف. وذلك لأنَّ الأَرْبع هذه لم تكن بسلامٍ واحدٍ، بل جمع الراوي بين الشفعين لِتَنَاسبٍ بينهما، نحو كونِهما في سلسلةٍ واحدةٍ بدون جلسة في البين، كالترويحة في التراويح، فإنَّها تكونُ بعد أرْبع ركعات. هكذا شرحه أبو عُمر في «التمهيد». وتشهدُ له رواثةٌ صريحةُ في «السنن الكبرى» للبيهقي: «يصلِّي أربعًا ثُمَّ يتروح»... إلخ. والحافظ رضي الله تعالى عنه مَرَّ عليه في موضعين ورآه كالجائزاتِ، وأخفى بهع صوتَه لأنه عَرَف أنه يفيدُ الحنفيةَ شيئًا، وقد عَلِمْتَ أنَّ عَمَله صلى الله عليه وسلّم إذا ثَبَت في الخارج بالتسليم بَيْنَهما، فلا تُمسُّك في هذا الإِجمال. 1147- قوله: (ثُمَّ يصلِّي ثلاثًا) ولفظ «ثُمَّ» للتراخِي، وكانت هذه الثلاثُ بسلامٍ واحدٍ عندي. ولو ثَبَت عندي سلامُهُ صلى الله عليه وسلّم بعد ركعتي الوِتْر لَحَملْتُ هذه الثلاثَ على التسليمتين أيضًا كما قلتُ في الأَرْبع ولكنَّه صلى الله عليه وسلّم لم يَرْكع بركعةٍ واحدةٍ قط، فلم تحتملِ التسليمَ في البين. والله يعلم أني لا أتبع الهوى. ولكني حكمت بما أراني ربيّ وهو العلمي الخبير. 1147- قوله: (تَنَامُ) إلخ.. ولعلها لم تعلم بعادتها في الوتر، فسألت عن نَوْمه قبل الوِتْر، فإنه يخاف منه الفوات. فأجاب أنه تنام عيناهُ ولا ينامُ قَلْبُه، فلا يخافُ الفواتَ منه إن شاء الله تعالى. ثُم إنَّ صلاتَه صلى الله عليه وسلّم في الليل أيضًا كانت بعد النَوْم، إلا أن مَحَطَّ سؤالِها هو الوِتْرُ فقط. 1148- قوله: (وإنَّ عينيَّ تَنَامَانِ) إلخ. وعندي هذه حكايةٌ عن حالته في اليقظة وإن كان الناسُ حَمَلُوها على النوم. أعني أنَّ للأنبياءَ عليهم السلام عند التفاتهم إلى عالم القدس حالةً في اليقظة لا تعبر إلا به كما في «تنوير الحوالك» للسّيوطي رحمه الله في قصة الأَذان عن عبد الله بن زيد: أنه رأى المَلَكَ يؤذِّن بين النوم واليقظة. وسمَّاه نحوًا مِنْ الكشف. وذكر الشيخُ الأكبرُ رحمه الله تعالى أَنَّ ما يراه العوامُ في المنام يراه الأولياء في اليقظة فإذن هو أَمْرُ معنويُّ فهو في حالَي اليقظة والنوم سواء.
وهذه الترجمة أليقُ بأبوابِ الطهارة، إلا أنَّ المصنِّفَ وَضعها في الصلاة لكونه بصدَدِ إثبات تحية الوضوء. ثم إنَّ إدامة الطهور سميت بسلاح المؤمن، لأن الشيطانَ يأنس من النجاسات والألواث، ويَنْقِرُ من الطهارة. ولأنَّ المرءَ يأمن بَعْدَها عن فواتِ الصلاة: باللَّيل والنَّهار. ووَسَّع الشافعيةُ رحمهم الله تعالى فيها حتى أَجازوها في الأوقاتِ المكروهةِ أيضًا. وأما المصنِّفُ رحمه الله تعالى فلم يوسِّع هذا التوسيعَ، حيث حجر عن مطلقِ الصلاة عند طلوعِ الشمس، وألان الكلامَ فيما بعد العَصْر وبعد الصُّبْحِ. وقد علمتَ التفاصِيْلَ فيما مَرَّ.
قالت طائفةٌ مِمَّن أدعوا العملَ بالحديثِ مِمْ غيرِ عِلْمٍ وعمل: إنَّ الاجتهادَ في العبادة بِدعَةٌ. قلت: فأين هم من قوله تعالى: {كَانُواْ قَلِيلاً مّن الَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ} (الذَّاريات: 7). كيف وَصَفَهم بالاجتهاد. ومِثْلَهُ غيرُ قليلٍ في القرآن، ودَعْوَى النَّسخ جَهْلٌ. وقد ورد في فَضْل إكثارِ العبادةِ والاجتهاد في العمل غَيْرُ واحدٍ من الأحاديث، مع الترغيبِ في القَصْد فِي العمل. وهذا الباب إينا يُشْكِلُ جَمْعُهُ على مَنْ لا يُرْزَقُ فَهْمَا سليمًا. واعلم أن وراء ذلك سرًا، وهو أنَّ الله تعالى خَلَق الناسَ على طبائعَ مختلفةٍ: فمنهم: مَنْ يكون قويَّ الهِمَّة قَوِيَّ العَمَل، فيعملُ بِأَخْذِ العزائم ويُعْرِضُ عن الرُّخَصْ، يُحِبُّ أن يستغرق أوقاتِهِ كلَّها في طاعة الله عز وجل، ويُنْفِقُ ماله حى يقومَ وما عنده شيءٌ ويُغازي في سبيله حتى يَفْقِد نَفْسه ومالَه. لكنَّ هؤلاء قليلون لو شِئت لعددتُهم على الأصابع. ومنهم مَنْ هو دون ذلك، فلا يستطيعُ أن يسيرَ سَيْرَه فيطلب في الدِّيْن فسحةً ورخصةً، وعلى قَدْر كل منهم جاءت الأحكامُ. غيرَ أنَّ عامةَ الناسِ كما قد سُيِّرت يَضْعُفونَ عن الأحكامِ الصعبةِ، فجاءت عامةُ أحكامِ الشرع أيضًا تُبنى على اليُسْر. ففرَضَ عليهم في اليوم والليلة خَمْسَ صلواتٍ فحسب. وأُبيح لهم جَمْعُ قِنطار من الأموال بعد أداءِ الزكاةِ، وجُعِلَ لأنفسِهم وأعينِهم وزوَّارهم حَقٌّ، فلم يَرغَبوا إلا بصوم داودَ. ولما كان خيرُ الأعمالِ ما ديم عليه نُهوا عن الإِكثارِ في العبادةِ والاجتهاد في العمل فوقَ ما يُطِيْقُون، لئلا يَفْتُروا، فإنَّ إثْرَ كلِّ شرة فترة. كيف وقد كان مُعَلِّمَا للأجلافِ والأَعرابِ، فشرَع لهم من الدِّين ما تَيسَّر لهم، ولم يكلِّفْهم إلا بما يُطِيقون، ولم يرغِّبْهم إلا بما تُرجى الإدامةُ منهم عليه، فقال: «لن يشادَّ الدِّيْنَ أَحدٌ إلا غَلَبَه». أو كما قال- أي كأنَّ في الدِّين أحكامًا لو شاء الرَّجلُ أن يأخذَ بِكُلِّها عَجَز، فسدِّدُوا وقارِبُوا، فكان هذا ضربًا من التعليم، ونحوًا من البيان، ولا يريدُ به الذَّمَّ على مَنْ جعل نَفْسه لله وجعل دُنْياه وراءَ ظهره. فدع العباراتِ وخُذْ بالمرادِ، فإنَّ ذلك سبيلٌ السداد. ومَنْ لا يراعِي أساليبَ الكلامِ يختبِطُ بكلِّ وادٍ. مِنْ أجلِ ذلك خَبَطُوا فِي مراد غير واحدٍ من الأحاديث: منها ما في «المشكاة»: «إذا سلط عليكم أمراءُ ظلمةٌ فلا تدعوا عليهم وأَصلحوا أنفُسَكم، فاإنَّكم كما تكونون كذلك يُؤمَّرُ عليكم».- بالمعنى- فسبق إلى بعضِ الأوهام أَنَّ في الحديثِ نهيًا عن الدعاء على الأمراء ولو كانوا ظالمين، ولم يفقهوا أنه ضَرْبٌ من البيان، ونَوْعُ من العُنوان فقط. والغَرَضُ منه توجِيهُ الناسِ إلى أَمْرٍ أَهمَّ منه. فإنَّ الإنسانَ في سجيته أَنه إذا ابْتُلِي بِأَمْثَالِ تلك المظالمِ يذهل عن أحوالِ نَفْسه، ويجعلُ الدعاءَ على الظالم وظيفتَهُ. فَوَجَّههِ الشَّرْعُ إلي أَمْرٍ قد يكونُ غَافِلا عنه في هذا المَوْضِع مع كونه أَهَمَّ، وهو إصلاحُ أحوالِ نَفْسهِ أيضًا. وعلَّمهم أنَّ الاشتغالَ بإِصلاحِ أعمالهم أَقْدَمُ وأَهَمُّ من الدعوة عليهم فقط. فإنَّها ماذا تُغني عنهم إذا كانوامشغوفين بالأَهواء واللذائذ، فأَوْلى لهم بهذا العذاب، ثُمَّ أولى لهم. فالأصلُ النافع لهم أَنْ يقدِّمُوا ما ذهلوا عنه رَأَسًا إلى إصلاحِ النَّفْس، وأن يُؤخِّرُوا ما جعلوه بمرأى أعينُهم، أي الدُّعاء عليهم. فالحديث لم يَرِد في ذمِّ الدعاءِ عليهم، بل في ذَمِّ ذهولِهم عما كان أنفعَ لهم وأهمَّ، وكان ذلك نَحْوَ تعبيرٍ لهم لهذا المَقْصد في غاية الفصاحة والبلاغة فلم يدرِكوه، وعَضُّوا بالألفاظ فلم يُوَفَّقوا لإِدراك المراد. وذلك لأنَّ فيه تنزيلَ شيءٍ ليس له عبارةٌ في نَظَر الشَّارع مَنْزِلَةَ العدم. وإنَّما احتاجَ إلى هذه العنايةِ ولعبادتِهم بتلك الجهةِ، وذهولِهم عن الأهمَّ الأَقْدَم. ومن هذا الباب ما روي فِيْمَن صلَّى التهجُّدَ ثُمَّ تَرَكَه أَنَّه لو لم يُصلِّه لكان أَحْسَنَ بالمعنى جَعَلَه الناسُ أيضًا معركةً لِبَحْثِهم في فَضْل مَنْ تهجَّدَ ثُمَّ تَرَكه، ومَنْ لم يتهجَّد رأسًا، وما ذلك إلا لعدم عنايتِهم بأنحاء الكلام، وفَهْم المَرَام. ولو تَفَحَّصُوا فيه لعلموا أن في الحديثِ تأكيدًا أكيدًا للتهجُّد، وليس فيه المفاضلة بين هذين، ولا حرف. فهو كقول الأستاذ لتلميذه عند تأديبه: لو أنك ما تعلمت كان خيرًا لك، فكما أن كلَّ أحَدٍ يعلم أنه ليس فيه تحريضٌ على عدمِ تَعَلُّمِه، بل فيه تأكيدٌ لِتَعَلُّمِ حَقَّ التعلم. كذلك في قَوْل النبيِّ صلى الله عليه وسلّم ليس فيه بيانُ المفضوليةَ مَنْ تهجَّد ثم تركه، بل فيه ترغِيبٌ وتحريضٌ لِمَن أَدَامَ عليه، وتعنِيفُ وتعبيرٌ على مَنْ صَلاهُ ثُمَّ تَرَكَه. ومِنْ هذا القبيل قولهُ صلى الله عليه وسلّم «مَثَلُ أُمْتِي كَمَثَلِ الْمَطَر، لا يُدْرى أَوَّلُهُ خَيْرٌ أَم آخِرُهُ». فحمله بَعْضٌ مِنْ الكبار على ظاهره، وجَوَّز فَضْلَ بَعْضٍ مَنْ يأتي من أمته على بعضِ الصحابة رضي الله عنهم، مع أَنَّه ضَرْبُ مَثَلٍ لِبيانِ الخيريةِ في جميع أُمَّتِهِ على حَدِّ قوله: تَشَابه يومًا بأسُهُ ونوالُهُ *** فما نحن ندرِي أيّ يوميه أَفْضَلُ أيوم نداه الغُمْر أم يوم بأسِه *** وما منهما إلا أَغَرٌّ مَحَجَّلُ وبالجملة كثيرًا ما يُساق الحديثُ على مجرى محاوراتِ الناس ومخاطباتهم. ومَنْ يذهلُ عن أساليب الكلام وأنواع الخطابات يَعَضُّ بالألفاظ، فيقع في الأغلاط. فإنَّما عَنَى من النَّهي عن الإِكثار في العبادةِ والاقتصادَ في العَمَل، لئلا يكونَ من بابِ طَلَبِ الكُلِّ فَوْت الكُلِّ، وأَمْعِن النظر في قوله: «إنَّ اللَّهَ لا يَمَلُّ حتى تَملُّوا» تجد المعنى فيه ما ذكرنا، فافهم واستقم. ثُمَّ في الحديث: «أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان له خشبٌ يتكىءُ عليه في الصلاة إذا عَيي». فثبت منه جوازُ الاتكاء في النافلة، وبه قلنا. وفيه ما يدُلُّ على طولِ قيامِه أيضًا.
وفيه محمد بن مقاتِل، وهو تمليذُ ابن المبارَك من الحنفيةِ، كذا قاله الحافظ ابنُ تيميةَ رحمه الله تعالى. 1153- قوله: (هَجَمَتْ عَيْنُكِ) أن كهين دهنس جائينكى. 1153- قوله: (نَفِهَتْ نَفْسُك) نفس جور هوجا ويكا. وحاصل الكلام: أنَّ الكمال ليس في الاجتهاد فقط، بل في رعاية الحقوقِ ومراعاةِ الجوانب. فعَلَّمه أن يعملَ بما هو الأعلى والأَوْلى. ومن الطبائع النازلة مَنْ يَعُدُّ الكمالَ في سهر الليالي وصيامِ الدَّهْر فقط وإن فاتَت عنه الحقوقُ.
وَفِينَا رَسُول اللَّهِ يَتْلُو كِتَابَهُ *** إِذَا انْشَقَّ مَعْرُوفٌ مِنَ الفَجْرِ سَاطِعُ أرَانَا الهُدَى بَعْدَ العَمى فَقُلُوبُنَا *** بِهِ مُوقِنَاتٌ أَنَّ ما قالَ وَاقِعُ يَبِيتُ يُجَافِي جَنْبَهُ عَنْ فِرَاشِهِ *** إِذَا اسْتَثْقَلَتْ بِالمُشْرِكِينَ المَضَاجِعُ والرَّجُل إذا تعارَّ مِن الليل يسبقُ منه اللَّغَطُ والسُّخْط فأَصْلَه الشَّرْع وجَعَل مكانَه هذا الذِّكْر. 1155- قوله: (وفِيْنَا رَسولُ اللَّهِ يَتْلُو كِتَابِهُ)... إلخ. وتفصيلُ الواقعة أن عبد الله بِنَ رَوَاحةَ جامع مرةً أَملا مِنْ إمائه، فغارت عليه زوجتُهُ وأرادات أن تقتُلَه، فأنكر عبدُ الله أن يكونَ جامعها. وقال: إنِّي أقرأُ القرآنَ. فأنشأ هذه الأبياتِ بداهةً. ولم تكن تعلمتِ القرآنَ فحسِبْتهُ قرآنًا. فقالت: صَدَّقْت كلامَ اللَّهِ وكذَّبْتُ عيني. ولما بلغَ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم قِصَّتهُ ضَحِك. أخرجها الدارقطني مفصلة. قلتُ: وفيها حُجَّةٌ على شهرةِ أَمْر الجُنُب عندهم بأنه لا يقرأُ القرآنَ، حتى كان يعرِفُه مَنْ قرأ القرآنَ، ومَنْ لم يقرأ، وقد مر معنا الاستدلالُ بها على خلاف البخاري رحمه الله تعالى. 1156- قوله: (كأَنَّ بِيَدِي قِطْعَةَ إِسْتَبْرَقٍ) إلخ. أي مكان الجناحين. 1156- قوله: (أَنْ يَذْهَبا بي إلى النار) أي لاراءة شأْنِها. 1158- قوله:(قد تَواطَتْ في العَشْر الأواخِرِ) أي في كونِ ليلةِ القَدْر فيها. واعلم أَنَّ الشَّارِحين جُمْلَتهم ذهبوا إلى أنَّ القيامَ المشروعَ لحال ليلة القَدْر إنَّما هو في أَوْتارِ العَشْر الأواخِر فقط. وقد تبينَ لي كَوْنُهُ في جميع العَشْر وإن كانت ليلةُ القَدْر في الأَوتار فقط. ولذا سُنَّ الاعتكافُ في العَشْر كُلِّها، وهو مرادُ الأحاديث عندي إن شاء الله تعالى وإن لم يذهبْ إليه أحدٌ ثُم لا يخفى عليك أني لا أخالفهم في باب المسائل بحيث يُوجِب اختلافًا في عملٍ أو اعتقادٍ، وإنما أَذكرُ التوجهياتِ والمحامِل للأحاديثِ على نحو ما يُفْهِمني رَبِّي. فلا ترم بي أني أخالِفُ السَّلفَ أو أساميهم في شيء. فإِنَّ المُعْتَقَد ما اعتقدوه، والسبيلَ ما سَلَكُوه، والأحكامَ ما أسَّسوها، والفروعُ ما فروعها. بيد أنَّ الرجلَ إِذ يَسْنَح له أَمْرٌ مما لا يجب فيه تقليدُهم يبوح به. وبعد فما أُريدُ منه إلا الإصلاح ما استطعت وإنما المَقْبُوح مَنْ خالفهم في مسائلهم، أو اخترع سُنَّة غَيْرَ سُنَّتهم، أو نهج غَيْرَ منهجهم. فذلك أَمْرٌ مما نستعيذُ منه بربِّنا الكريم.
ومَنْ ههنا ذهب الحَسَن البصري رحمه الله تعالى إلى وجوبها، وهو رواية عن أبي حنيفةَ رحمه الله تعالى أيضًا. قوله: (ثمان ركعات) والعجب من الراوي حيث ترك فيه ذِكْرَ الوِتْر مع كونِه دعامةً في أحاديث صلاة الليل. وهو مذكورٌ عند أبي داود في هذه الرواية بعينها: «وركعتين جالسًا». وهاتان الركعتان ليستا عند البخاريّ رحمه الله تعالى في غير هذا الموضع. ولكنَّه لم يترجم عليهما لأنه لم يذهب إليهما. وتردَّد فيها مالك رحمه الله تعالى أيضًا كما مرّ، مع أن الأحاديثَ قد صحَّت فيهما. بقي أن الجلوسَ فيهما اتفاقي أو قصدي؟ فاختار النووي رحمه الله تعالى الأول. وعندي المختار هو الثاني لأنهما لم تَثْبُتا عنه قائمًا قط. فَحَمْلُ فِعْله في جميع عُمُرِه على الاتفاق مما يصادِمُ البداهةَ، وإذن هو قَصْدي، وقد مَرَّت نكتتُه مِن قبل. 1159- وقوله: (ولم يَكُنْ يَدَعْهُما) ولم يَثْبُت عند ركعتي الفَجْر في غزوة تبوك حِين أَمَّهُ عبدُ الرحمن بنُ عوف. قلت: وهو يفيدُنا، فنحن نقول: لعلَّه صَلاهُما بعد الطلوع.
نسب إلى إبراهيم النَّخَعِي أنه ذهب إلى كونِها بدعةً، قلت: مرادُه التوغلُ والمبالغةُ فيها كالاضطجاع في المسجد، فإِنَّه صلى الله عليه وسلّم كان يضطجِعُ في بيته، قال الشافعي رحمه الله تعالى: إنَّه كان للفَصْل، فلو جاء أَحدٌ إلى المسجدِ حصل الفَصْلُ أيضًا. وبالجملةِ هو جائزٌ وليس مطلوبًا إلا أن يفعلَها اتِّباعًا له صلى الله عليه وسلّم
وكَرِهَهُ الحنفيةُ رحمهم الله أيضًا. حتى قال بعضهم: إنه لو تكلم بعد سُنَّة الفجر يعيدُها. ورأيت في «المدونة» أن مالِكًا رحمه الله تعالى بعد سُنَّةِ الفَجْر لم يكن يَنْحَرف عن القِبْلةِ حتى يصلِّي الفَرْض، ولم يكن يتكلم بينهما. وقد مر معنا أنه أَمْرٌ مطلوبٌ بلا مرية، إلا أنه لا وَجه لعدم الجواز فتذكره. نعم لا قياسَ على كلامِ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم فإِنَّ أفعالَه كلَّها كانت عِبادةً.
اختار مذهب الشافعي رحمه الله تعالى. واختار الطحاوي رحمه الله تعالى مَذْهب الصاحبين، وهو الأَقْوى دليلا عندي. ثم اعلم أن اختلافَ أفضليةِ الأربع والمَثْنَى فيمَن أراد أَنْ يصلِّي الأربعَ فما فَوْقها أنه بسلامٍ واحدٍ أو بسلامين. أَمَّا مَنْ أراد مِن أول الأمر أن لا يأتي إلا بِشَفْع فقط فلا اختلاف فيه. وحينئذٍ فَتَمَسُّك المصنِّف رحمه الله تعالى بنحو تحيةِ الوضوءِ، وصلاةِ الاستخارة وغيرِها في غيرِ مَوضعه، فإِنَّه مِمَّا لا نِزَاع فيه لأَحد. قوله: (وقال يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ): وهو تابعي صغير قاضي المدينة. قلت: وعن يحيى بنِ سعيدٍ هذا ما يعارضُه عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه بسندٍ صحيح: «أنه رآه يصلِّي أربعًا قبل الظهر بسلام واحدٍ». وعن عائشةَ رضي الله تعالى عنها- في البخاري- في باب الركعتين- ص 157 ج 1- قبل الظهر: «أَنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان لا يَدَعُ أَرْبعًا قبل الظُّهْر». وهو عندي بسلام واحد. وأقرَّ ابنُ جرير أنَّ أكثرَ عملِهِ صلى الله عليه وسلّم كان على الأربع. قلت: وقد ثَبَت عنه صلى الله عليه وسلّم الركعتان قبلها أيضًا، فإِنكارُه شطط. وقولها: «كان لا يدع» إلخ لا ينفي ما قلنا، لأن هذا التعبيرَ يُستعمل فيما يغلِبُ وجودُه أيضًا، فالاستمرارُ فيه عُرْفِي. ومِنَ النَّاسِ مَنْ جعلَهُ دليلا على نَفْي الركعتين، فاضطر إلى حَمْل أحاديثِ الركعتينِ على صلاةٍ أُخْرى غير سُنةِ الظهر. والأقربُ عندي أنه ثَبت عنه كِلا الأَمْرين، وأنه كان الأَكثرُ هو الأَرْبعَ، كما أقَرَّ به ابنُ جَرِير رحمه الله تعالى. 1162- قوله: (فَلْيَرْكَع رَكْتَين مِن غَيْرِ الفَرِيضَةِ) وهي صلاة الاستخارة، وقد عَلِمت أنها لا تقومُ حُجةً على الحنفية رحمهم الله تعالى أصلا، وكذا الأبواب بعده كلّها، فإِنَّه فيما أُريدَ فيه الركعتانِ مِن بدء الأمر إِلا في بعضِ المواضع، وسيجيء. 1162- قوله: (عَاجِل أَمْري وآجِلِه) إلخ. والمشهور الآن أن يجمع بين الألفاظِ الخمسة. «ويُسَمِّي حَاجَتَه«. وهذا أصلُ ما يكتبون الأسماء في العُوَذَة. ثُمَّ إنَّ الموعودَ بعدها أنَّ اللَّهَ تعالى يَقْدِرُ له الخَيْرَ، وذلك كان دعاءه. لا أَنَّه يرى رُؤيا، أو يُكلِّمه مُكلِّم وإن أمْكِن ذلك أيضًا. ثُمَّ البخاريّ رحمه الله تعالى خَرَّجَ لِمُدَّعَاه حديثَ تحيةِ المسجدِ. وقد عَلِمت أنها خارِجةٌ عن مَوْضع النِّزاع. وكذا الركعتانِ قبل الظهر أو بعدها فكلُّها مما لا يصلُح حجةً على الحنفية. نعم أخرج البخاري في ذلك حديثًا قَوْليًا أيضًا من أبواب الجمعة، وفيه: «إذا جاءَ أَحَدُكم والإِمامُ يَخْطُب، أو قد خرج، فليصلِّ رَكْعَتين». وقد أشبعنا الكلام فيه مِن قَبْل، مع التنبيه على أنَّ الدارقطني لم يتكلم في مَوْضِعٍ من متون البخاري إلا في هذا المَوْضِع، وقال: إنَّه كانَ في الأَصل قِصَّةُ سُلَيك، فأخذ منها الراوي المسألةَ ورواها بالمعنى، وجعلَها حديثًا قوليًا. قلت: ولم يَتَنبَّه الدارقطني إلى أنَّ الإِمامَ الهُمام البخاري أيضًا مُطَّلِعٌ على هذه العلة، ولذا لم يُخرِّجْه في أبواب الجمعة مع اختيارِه مسألة الحديث، وأتى به غير بابه، وتمسك به على مسألة أخرى. وما ذلك إلا أنه تَفَطَّن لِعِلَّته. وهو صنيعُه في غير واحدٍ من المواضع فإِنَّه بَوَّبَ فيما مرَّ، وأخرج له حديثَ الركعتين بعد الوِتْر جالسًا، ولم يُترجم عليه بالمسألة الصريحة، وهي الركعتان بعد الوِتر جالِسًا. وذلك لأَنِّي قد جَرَّبت مِن عادات البخاري أنَّه إذ يَظهَرُ له التردُّدُ في لفظٍ من ألفاظ الحديث لا يترجم عليه خاصَّةً ويترجم على سائرِ ألفاظهِ. وكأنَّه بهذا الطريق يشيرُ إلى تردُّدِه في ذلك اللفظ. هذا وإنْ لم يتنبَّه له أَحَدٌ، لكنه هو التحقيقُ إن شاء اللَّهُ تعالى فاحْفَظْه.
1168- قوله: (فإِنْ كُنْتُ مستيقِظَةً حَدَّثَني) إلخ. وقد مَرَّ معنا أنه ثَبت الكلامُ بعدها ولا وَجْه لِعَدَم الجوازِ مع أنَّ المطلوبَ التحرُّزُ عنه. ولنا آثارٌ في «المصنَّف» لابن أبي شيبةَ رحمه الله تعالى. 1168- قوله: (فإِنَّ بَعْضَهُم يَرْوِيه: رَكْعَتَي الفَجْر؟) وحاصله أنه سُئِل عن لَفْظ عائشةَ رضي اللَّه تعالى عنها أَنَّه بدون الإضافة أو مع الإِضافة؟ فأَجاب سفيانُ أَنه بالإضافة، ويُستفاد من بعض الألفاظ أَنَّ فيه اضطرابًا آخَر: وهو أن المتبادَر من ركعتي الفجر فَرْضُهَا، وقد، أردتُ مِنْ سُنَّتها فاستعصوا به التلامذةُ شُيوخِهم.
لم يذهب إلى وجوبِهَا لشُهرة إطلاق التطوع عليها. وهي واجبةٌ عندنا في رواية شاذة. فما في الفِقْه: أن التراويحَ وسُنةَ الفجر لا تَصِح قاعدًا بدون عُذْر يُبنى على تلك الرواية.
وعن مالك رحمه الله تعالى أنه يُقْتَصَرُ فيها على الفاتحةِ فقط، والجمهور على أنه يَضُمُّ سورةً مختصَرةً أيضًا. وفي «معاني الآثار»: أن الإمام أبا حنيفةَ رحمه الله تعالى قرأ فيها بالجزء مرةً في ركعةٍ. ورأيتُ نحوه عن عائشة رضي الله تعالى عنها وذلك حين فاتت عنه وظيفة الليل فاستدرَكها فيها. وفي «رد المختار» عن «القنية»: أنَّ الإمام إنْ كان دَخَل في الفريضة صحَّ له أَنْ يقْتَصِر على الفاتحة، كما هو مذهبُ مالك رحمه الله تعالى. ورأيتُ في بياض المخدوم الهاشم السِّنْدِهي: أَنَّ صاحب «القنية» يأخذُ النقول عن كتب المعتزلة. فلينظره النَّاظِرُ، وقد مرَّ معنا أنه معتزلي في الاعتقاد، وحنفيٌّ في الفِقْه إلا أنَّ الآفَةَ قد تَدْخُل مِنْ جهة اعتقاده. 1171- قوله: (هَلْ قَرأَ بِأُمِّ القرآنِ) وهو كنايةٌ عن التخفيف في القراءة في غايتها، إلا أنه ارتيابٌ في قراءة الفاتحة. ويُستفاد منه أن الفاتحةَ في الدِّين المحمدي في كلِّ ركعةٍ، وهو الذي نَعْني بكونِهَا واجبةً عَيْنَا.
1172- قوله: (فأَمَّا الْمَغْرِبُ والْعِشَاءُ ففي بَيْتِهِ) وظاهِرُه أن السُّنن في النهاريات كلِّها كانت في المسجد، مع أنها لم تَثْبت في المسجد إلا نادرًا. واالحل أنَّ ابنَ عمر رضي الله عنه كان يَدْخُل عليه في النَّهَار، فَأُمكن له أن يرى سُنَنها في النهار. أما المَغْرِب والعشاء فكانت تلك ساعةً لا يدخل عليه، فأَخْبِر بها بعد سؤاله عن حَفْصَةَ رضي الله عنها، فالتخصيص لهذا. والله تعالى أعلم.
«ثَماني رَكَعَات» نعم هذه تَصْلُح حجةً للبخاري، لما فيها من التَّصريح بالسلام على كل ركعتين عند أبي داود- ص 190- وإن اختلف في كونِها صلاةَ الضُّحى، أو صلاة الشُّكْر. وسماها الراوي الضُّحى عند أبي داود، فلا أدري هل أراد به تسميَتَها بذلك الاسم، أو لكونِها في وَقْت الضحى؟ وقد كَثُرت الأحاديثُ القولية في ثبوتها. وقَلّ ثبوتها فِعلا، حتى ظن ابنُ عمرَ رضي الله عنه أنها بِدْعة. وحَرَّر ابن تيمية رحمه الله تعالى أنها صلاةٌ بعد الرجوعِ من السفر سواءٌ سميتها تحيةَ المسجد، أو صلاةَ الضحى. وقد يتخايلُ كونُها بدعةً، لعدم ثبوتِها فِعْلا. فإِنَّها لو كانت مُستحَبةً لورد الفعل بها ولو مرة. فاعلم أنَّ الفضائِلَ والرغائبَ لا تَنْحَصِرُ فيما ثبت فيه فِعْلُه صلى الله عليه وسلّم فقط. فإِنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يَخُصُّ لِنَفْسِه أمورًا تكون أليقَ بشأنِه، وأَحْرى لمنصبه. وإذ لم يستوعِبِ الفضائلَ كلَّها عَملا وجْب أن يُرِغِّبَ فيها قولا لِتَعْمل بها الأمةُ، فمنها صلاةُ الضحى، فإِنه إذا لم يعمل بها بمعنى أنه لم يَجْعلْها وظيفةً له دلَّ على فَضْلها قولا لتعمل بها أُمَّتُه وتُحْرِزَ الأَجْر. ألا ترى أنهم تكلموا في ثبوتِ الأَذان من النبي صلى الله عليه وسلّم فعلا مع كونِه من أفضل الأعمال. فالفضل لا يَنْحَصِرُ فيما ثَبَتَ فِعْله منه، فإِن كلاًّ يختار لِنَفْسه ما ناسب شَأَنَه، ومن هذا الباب رَفْعُ اليدين بعد الصلواتِ للدُّعاءَ قَلَّ ثبوتُه فِعْلا، وكَثُر فَضْله قولا، فلا يكون بِدْعةً أصلا. فَمَنْ ظَنَّ أَنَّ الفَضْل فيما ثبت عَمَلُه صلى الله عليه وسلّم به فقط، فقد حادَ عنِ طريق الصَّواب، وبنى أصلا فاسدًا يخبرك عن البناء، مع أنَّ أدعيةَ النبيِّ صلى الله عليه وسلّم قد أَخَذت مَأخذ الأَذكار وليس في الأَذكار رَفْعُ الأيدي. ونحن في جَلْجتنا إذا لم نَفَزُ بالأَذكارِ فينبغي لنا أن لا نُحَرم من الأدعيةِ ونَرْفَع لها الأيدي، لثبوتِه عنه عقيبَ النافِلةِ وإِنْ لم يَثْبت بعد المكتوبة فإِذا ثَبَت جِنْسه لم تكن بِدعةً أصلا مع وُرُود القوليةِ في فَضْله، بخلاف المصافحة في العيدين فإِنها لم تَثبت في الجنس أيضًا، نعم ثبتت عند اللفاء فقط. وتلك فروقُ أَدَقُّ من الشَّعر، يراعيها المتطلِّبُ لسُنة نَبيَّه أَمَّا مَن اتَّبع الهَوى ولم يُوفَّق للفَرْق بين الضَّلالةِ والهُدَى فقد غوى. ومن ههنا انحل حديثٌ آخَرُ وهو: أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلّم كان يقولُ بعد صلاة الفجر: «اللهم أَنْتَ السلامُ»... الخ. مع ثبوتِ الفَضْل الكبير لِكلمةِ التوحيد بعد الصبح قولا، فَلَعَلَّه يَكونُ هناك أحمقٌ يَزْعُم التناقضَ بين فِعْله وقوله. والأمر أنَّ الفَضْل لكلمةِ التوحيد ولا ريب، والفَضْل في دعائه اللهم أنت السلام أيضًا، إلا أنه اصطفى لنفسه ما كان أحسنَ لِشأنهِ عند ربِّه. وأخبرنا بكلمة التوحيدِ ليأتي بها مَنْ كان آتيًا ولا يُحْرم مِن الأَجْر. فائدة: اعلم أنَّ تقديمَ الوِتْر إلى أوَّل الليل كما هو المعمول به اليوم ثَبَت عن أبي بكر رضي الله تعالى عنه. وضَمَّ الركعتين مع الوِتْر ثبت عن أبي هريرةَ رضي الله تعالى عنه، وبه يحصل العَمَلُ لقوله: «لا تُوتروا بثلاث...» إلخ.
وقد أخرجه في الأَذان أيضًا بلفظ عام: «بين كُلِّ أَذَانَينِ صلاةٌ». وأخرج ههنا بلفظ «المَغْرِب» خَاصةً وحصل لي الجَزْمُ بأنها روايةُ المعنى، لا روايةٌ بالمعنى. فإِنَّ الراوي استنبَطَ المسألةَ من الحديث العام: «بَيْنَ كُلِّ أذانينِ صلاةٌ». ثم أَجْرَى عُمومَه في المَغْرب وتَرك الصلواتِ الأَرْبَعَ ثُمَّ عَبَّر عنها بقوله: «صَلُّوا قبل المغرِب» وما حاشى به، لأنه قد تعلَّمها من الحديث العام، وفيه تلك، وهذا وإن لم يَقْرَع سَمْعَك لكنَّه أَقْرَبُ إلى الصواب إِن شاء الله تعالى، وإياك وأن تَظُنَّ أني تقوَّلْتُ قولا لم أُسْبق به هزوًا ولَعِبًا، بل أُشْهِدَ اللَّهَ أَني لم أزل أَتفكَّر فيه سنين، واستفتيت قلبي حتى إذا أفتاني وشفاني تقدمت إلى مثله، وعمدتي فيه أبو بَكْر الأَثْرم فإِنه قال: إنه معلولٌ، كما في كتابه «الناسخ والمنسوخ». 1183- قوله: (كَرَاهيةَ أَنْ يَتَّخِذَها النَّاسُ سُنةً) قلنا إنَّ الجوازَ باقٍ بَعْدُ، كما أقر به الشيخ ابن الهُمَام رحمه الله تعالى. وجملة الكلام فيه أنَّ خمولَها وانقطاع التعامِل عنها أَوْجَب لنا أن لا نقولَ باستحبابها. وهو المختار عند مالك رحمه الله تعالى. ألا ترى إلى ما أخرجه البخاري ص 158 ج 1- من قَوْل مَرْثَد بن عبد الله يتعجَّبُ من أبي تميم على أنه كان يأتي بهاتين الرَّكْعَتَيْنِ. وكذا عند أبي داود- ص 189- عن ابن عمر رضي الله عنه يقول: ما رأيتُ أَحَدًا في عهد النبيِّ صلى الله عليه وسلّم يُصَلِّيهما. فَإِنَّه دليلٌ واضِح على خمولهما في عهد صاحب النبوة، حتى أفضى إلى التعجُّبِ مِمَّن صَلاهما. والله تعالى أَعْلم.
ولا جماعةَ فيه عندنا، وكُرِه له التداعي. وهو على اللغة عندي، فإِنَّ اللَّه سبحانه لما جعلنا في مُكْنةٍ مِن تَرْكها وفِعْلها رأسًا، فأين ينبغي أن نتداعى له الناس. فالنِّداء مِن خصائص المكتوبة. وفَسَّر الحلواني بما فوق الثلاث. قلت: وإنَّما أراد الحلواني ضَبْطَه ليتمشى عليه العوم لا تفسيرَه. فإِنَّ اللَّفْظَ مُنْكشِفٌ في معناه، بَيِّنٌ في مرادِه لا يحتاجُ إلى تفسيرِ، فما ذَكَره أَنْسَبُ للفَتْوى. ثُمَّ تَتَبَّعْت النوافِلَ الداخلةَ في بنية الصلاةِ فوجدتُها كذلك، لا جماعةَ فيها أيضًا، وكلٌّ فيها أميرُ نَفْسِه. وهو الشاكِلةُ في جملة الأَذكار الداخلةِ في صُلْب الصلاةِ، فتجِدُ كُلَّها على المقتدي أيضًا. وذلك لأن كُلاًّ منهم منفرِدٌ فيها، يَفْعَلُها لِنَفْسِه. فالتضمن إنَّما رُوعي حيثُ كان الشيءُ فَرْضًا. وليعلم أن النيابةَ تجري في الأقوال دون الأفعال، فهي على الكلِّ ثُمَّ النيابةُ في الأقوال، إنما اعتُبرت حيثُ كان القولُ مما لا بُدَّ منه كالقراءة. أما الأقوال التي لو تركت رأسًا لم تكن عليه تِبعة، فإِنَّها لا تحتاج إلى عِبرة النيابةِ. فإِن قلت: إنَّ صلاةَ الكسوفِ والاستسقاء والتراويح سُنٌة، فلزِم أَن لا تكون جماعةً. قلت: كأن تلك مستثناةٌ من ذلك. على أن صَرَّح في «الغاية» بوجوبِ صلاةِ الكُسوف. فائدة: قال الفقهاء: إنَّ الجماعةَ في النوافل مكروهةٌ إِلا في رمضانَ. ولم يَفْهمُ مُرادَهم بعضُ الأغبياء، فَحَمله على جوازِ الجماعةِ في النَّفْل المطلق في رمضان، مع أنَّ مرادَهم التراويحُ لا غيرٌ فافهمه، فإِنَّ العِلْمَ لا يتحصَّلَ إِلا بعد السَّبْر. 1186- قوله: (وَيزيدُ بنُ مُعَاويةَ عَلَيْهِم...) إلخ. وكان على العَسْكَر في زمن معاويةَ رضي الله عنه. وكان فيهم من الصحابة رضي الله عنهم أبو أيوب فَتُوفِّي في الروم. ثُم جَرَتِ السُّنة في السَّلْطنةِ العثمانيةِ أنَّهم إذا نَصَبُوا خليفةً ناطوا به العِمامة على روضَتِه.
|