الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: لباب التأويل في معاني التنزيل المشهور بـ «تفسير الخازن» (نسخة منقحة).
.تفسير الآيات (26- 38): {وَآَتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلَا تُبَذِّرْ تَبْذِيرًا (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُورًا (28) وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30) وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31) وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32) وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33) وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35) وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36) وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)}قوله سبحانه وتعالى: {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} قيل: الخطاب للنبي صلى الله عليه وسلم أمره الله سبحانه وتعالى أن يؤتي أقاربه حقوقهم وقيل: إنه خطاب للكل وهو أنه سبحانه وتعالى، وصى بعد بر الوالدين بالقرابة أن يؤتوا حقهم من صلة الرحم والمودة، والزيارة وحسن المعاشرة والمؤالفة على السراء والضراء والمعاضدة ونحو ذلك وقيل إن كانوا محاويج، وهو موسر لزمه الإنفاق عليهم وهو مذهب أبي حنيفة. وقال الشافعي رضي الله عنه: لا تلزم النفقة إلا لوالد على ولده أو ولد على والديه فحسب وقيل: أراد بالقرابة قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقدم الكلام على المسكين وابن السبيل {ولا تبذر تبذيراً} أي لاتنفق مالك في المعصية. وقيل: لو أنفق الإنسان ماله كله في الحق لم يكن مبذراً ولو أنفق درهماً أو مداً في باطل كان مبذراً. وسئل ابن مسعود عن التبذير فقال: إنفاق المال في غير حقه. وقيل: هو إنفاق المال في العمارة على وجه السرف وقيل: إن بعضهم أنفق نفقة في خير فأكثر فقال له صاحبه لا خير في السرف فقال لا سرف في الخير {إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين} يعني أولياءهم وأصدقاءهم لأنهم يطيعونهم فيما يأمرونهم به من الإسراف، وقيل: أمثالهم في الشر وهذا غاية المذمة لأنه أشر من الشياطين، والعرب تقول لكل من هو ملازم سنة قوم: هو أخوهم {وكان الشيطان لربه كفوراً} أي جحوداً للنعمة فما ينبغي أن يطاع لأنه يدعو إلى مثل عمله. قوله عز وجل: {وإما تعرضن عنهم} نزلت في مهجع وبلال وصهيب وسالم وخباب كانوا يسألون النبي صلى الله عليه وسلم في الأحايين ما يحتاجون إليه، ولا يجد فيعرض عنهم حياء منهم ويمسك عن القول فنزلت هذه الآية. والمعنى: وإن تعرض عن هؤلاء الذي أمرت أن تؤتيهم {ابتغاء رحمة من ربك ترجوها} أي انتظار رزق من الله ترجوه أن يأتيك {فقل لهم قولاً ميسوراً} أي ليناً جميلاً أي عدهم وعداً طيباً، تطيب به قلوبهم. وقيل: هو أن يقول رزقنا الله وإياكم من فضله. قوله سبحانه وتعالى: {ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك} قال جابر: أتى صبي فقال يا رسول الله إن أمي تستكسيك درعاً ولم يكن لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلا قميصه فقال للصبي: من ساعة إلى ساعة يظهر كذا فعد إلينا وقتاً آخر فعاد إلى أمه فقالت: قل له إن أمي تستكسيك الدرع الذي عليك، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم داره ونزع قميصه وأعطاه وقعد عرياناً فأذن بلال بالصلاة، وانتظره فلم يخرج فشغل قلوب أصحابه فدخل عليه بعضهم فرآه عرياناً فأنزل الله سبحانه وتعالى هذه الآية، ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك أي لا تمسك يدك عن النفقة في الحق والخير كالمغلولة يده لا يقدر على مدها {ولا تبسطها} أي بالعطاء {كل البسط} أي فتعطي جميع ما عندك.وقيل: هذا تمثيل لمنع الشحيح، وإعطاء المسرف أمر بالاقتصاد الذي هو بين الإسراف والتقتير {فتقعد ملوماً} أي عند الله لأن المسرف غير مرضي عنده، وقيل ملوماً عند نفسك وأصحابك أيضاً يلومونك على تضييع المال بالكلية وقيل: يلومك سائلوك على الإمساك إذا لم تعطهم {محسوراً} أي منقطعاً لا شيء عندك تنفقه وقيل: محسوراً أي نادماً على ما فرط منك. ثم سلّى رسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يرهقه من الإضافة بأن ذلك ليس لهوان بك عليه ولا لبخل منه عليك فقال تعالى: {إن ربك يبسط} أي يوسع {الرزق لمن يشاء ويقدر} أي يقتر ويضيق، وذلك لمصلحة العباد {إنه كان بعباده خبيراً بصيراً} يعني أنه سبحانه وتعالى عالم بأحوال جميع عباده، وما يصلحهم فالتفاوت في أرزاق العباد ليس لأجل البخل بل لأجل رعاية مصالح العباد. قوله عز وجل: {ولا تقتلوا أولادكم خشية إملاق} أي فاقة وفقر {نحن نرزقهم وإياكم} وذلك أن أهل الجاهلية، كانوا يئدون بناتهم خشية الفاقة أو يخافون عليهم من النهب والغارات، أو أن ينكحوهن لغير أكفاء لشدة الحاجة وذلك عار شديد عندهم فنهاهم الله عن قتلهن وقال نحن نرزقهم وإياكم، يعني أن الأرزاق بيد الله فكما أنه فتح أبواب الرزق على الرجال فكذلك يفتحه على النساء {إن قتلهم كان خطئاً كبيراً} أي إثماً كبيراً {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة} أي قبيحة زائدة على حد القبح {وساء سبيلاً} أي بئس طريقاً طريقه، وهو أن تغصب امرأة غيرك أو أخته أو بنته من غير سبب والسبب ممكن وهو الصهر الذي شرعه الله تعالى قيل: إن الزنا يشتمل على أنواع من المفاسد منه المعصية وإيجاب الحد على نفسه ومنها اختلاط الأنساب فلا يعرف الرجل ولد من هو ولا يقوم أحد بتربيته وذلك يوجب ضياع الأولاد، وانقطاع النسل وذلك يوجب خراب العالم. قوله عز وجل: {ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق} الأصل في القتل هو الحرمة المغلظة، وحل القتل إنما ثبت بسبب عارض، فلما كان كذلك نهى الله عن القتل على حكم الأصل ثم استثنى الحالة التي يحصل فيها حل القتل، وهي الأسباب العرضية فقال إلا بالحق أي إلا بإحدى ثلاث كما روي عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة» أخرجاه في الصحيحين {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سطاناً} أي قوة وولاية على القاتل بالقتل وقيل: سطانه هو أنه يتخير فإن شاء استقاد منه وإن شاء أخذ الدية وإن شاء عفا {فلا يسرف في القتل} أي الولي قال بان عباس: لا يقتل غير القاتل وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا قتل منهم قتيل لا يرضون بقتل قاتله حتى يقتل أشرف منه. وقيل معناه إذا كان القتيل واحداً فلا يقتل به جماعة بل بواحد وكان أهل الجاهلية إذا كان المقتول شريفاً فلا يرضون بقتل القاتل وحده حتى يقتلوا معه جماعة من أقربائه، وقيل معناه أن لا يمثل بالقاتل {إنه كان منصوراً} قيل الضمير راجع للمقتول ظلماً يعني أنه منصور في الدنيا بايجاب القود على قاتله وفي الآخرة بتكفير خطاياه وايجاب النار لقاتله، وقيل: الضمير راجع إلى ولي المقتول معناه: إنه كان منصوراً على القاتل باستيفاء القصاص منه أو الدية وقيل في قوله: {فلا يسرف في القتل} أراد به القاتل المعتدي بالقتل بغير الحق فإنه إن فعل ذلك فولي القتيل منصور عليه باستيفاء القصاص منه. قوله سبحانه وتعالى: {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} أي الطريقة التي هي أحسن، وهي تنميته وحفظه عليه {حتى يبلغ أشده} وهو بلوغ النكاح والمراد ببلوغ الأشد كمال عقله ورشده بحيث يمكنه القيام بمصالح ماله، وإلا لم ينفك عنه الحجر {وأوفوا بالعهد} أي الإتيان بما أمر الله والانتهاء عما نهي عنه وقيل: أراد بالعهد ما يلتزمه الإنسان على نفسه {إن العهد كان مسؤولاً} أي عنه وقيل مطلوباً وقيل: العهد يسأل فيقال فيم نقضت كالموؤدة تسأل فيم قتلت. قوله عز وجل: {وأفوا الكيل إذا كلتم} المراد منه إتمام الكيل {وزنوا بالقسطاس المستقيم} قيل هو ميزان صغيراً كان أو كبيراً، من ميزان الدراهم إلى ما هو أكبر منه وقيل: هو القبان قيل هو رومي وقيل: سرياني والأصح أنه عربي مأخوذ من القسط وهو العدل أي وزنوا بالعدل المستقيم، واعلم أن التفاوت الحاصل بسبب نقصان الكيل والوزن قليل والوعيد الحاصل عليه شديد عظيم، فوجب على العاقل الاحتراز عنه وإنما الوعيد فيه لأن جميع الناس محتاجون إلى المعاوضات والبيع والشراء، فالشارع بالغ في المنع من التطفيف والنقصان، سعياً في إبقاء الأموال على أربابها {ذلك خير وأحسن تأويلاً} أي أحسن عاقبة من آل إذا رجع، وهو ما يؤول إليه أمره. قوله سبحانه وتعالى: {ولا تقفُ} أي ولا تتبع {ما ليس لك به علم} أي لا تقل رأيت ولم تر وسمعت ولم تسمع وعلمت ولم تعلم. وقيل: معناه لا ترم أحداً بما ليس لك به علم وقيل لا يتبعه بالحدس والظن وقيل: هو مأخوذ من القفا كأنه يقفو الأمور، ويتتبعها ويتعرفها والمراد أنه لا يتكلم في أحد بالظن {إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسؤولاً} معناه يسأل المرء عن سمعه وبصره وفؤاده، وقيل يسأل السمع البصر والفؤاد، عما فعله المرء فعلى هذا ترجع الإشارة في أولئك إلى الأعضاء، وعلى القول الأول ترجع إلى أربابها.عن شكل بن حميد قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت: يا نبي الله علمني تعويذاً أتعوذ به قال: فأخذ بيدي ثم قال: «قل أعوذ بك من شر سمعي وشر بصري وشر فؤادي وشر لساني وشر قلبي وشر منيي قال فحفظتها» أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي. وقال حديث حسن غريب. قوله: وشر منيي يعني ماءه وذكره. قوله عز وجل: {ولا تمش في الأرض مرحاً} أي بطراً وكبراً وخيلاء {إنك لن تخرق الأرض} أي لن تقطها بكبرك حتى تبلغ آخرها {ولن تبلغ الجبال طولاً} أي لا تقدر أن تطاول الجبال، وتساويها بكبرك والمعنى أن الإنسان لا ينال بكبره وبطره شيئاً كمن يريد خرق الأرض ومطاولة الجبال، لا يحصل على شيء. وقيل: إن الذي يمشي مختالاً يمشي مرة على عقبيه، ومرة على صدور قدميه فقيل له: إنك لن تنقب الأرض إن مشيت على عقبيك ولن تبلغ الجبال طولاً إن مشيت على صدور قدميك. عن علي قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا مشى تكفأ تكفؤاً كأنما ينحط من صبب. أخرجه الترمذي في الشمائل. قوله تكفؤاً: التكفوء التمايل في المشي إلى قدام، وقوله كأنما ينحط من صبب هو قريب من التكفوء أي كأنه ينحدر من موضع عال، عن أبي هريرة قال: ما رأيت شيئاً أحسن من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأن الشمس تجري في وجهه، وما رأيت أحداً أسرع من مشيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كأنما الأرض تطوى له إنا لنجهد أنفسنا. وإنه لغير مكترث. أخرجه الترمذي. قوله: لغير مكترث أي شاق والاكتراث الأمر الذي يشق على الإنسان {كل ذلك كان سيئة عند ربك مكروهاً} أي ما ذكر من الأمور التي نهى الله عنها فيما تقدم. فإن قلت: كيف قيل: سيئة مع قوله مكروهاً؟ قلت: قيل فيه تقديم وتأخير تقديره كل ذلك كان مكروهاً سيئة عند ربك وقوله: {مكروهاً} على التكرير لا على الصفة أي كل ذلك كان سيئة وكان مكروهاً وقيل إنه يرجع إلى المعنى دون اللفظ، لأن السيئة الذنب وهو مذكر..تفسير الآيات (39- 46): {ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آَخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآَنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41) قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آَلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44) وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآَنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آَذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآَنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)}قوله سبحانه وتعالى: {ذلك} إشارة إلى ما تقدم من الأوامر والنواهي في هذه الآيات {مما أوحى إليك ربك من الحكمة} أي إن الأحكام المذكورة في هذه الآيات شرائع واجبة الرعاية في جميع الأديان والملل لا تقبل النسخ والإبطال فكانت محكمة وحكمة بهذا الاعتبار. وقيل: إن حاصل هذه الآيات يرجع إلى الأمر بالتوحيد وأنواع البر والطاعات والإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة وذلك من الحكمة. قيل: إن هذه الآيات كانت في ألواح موسى عليه السلام أولها: ولا تجعل مع الله إلهاً آخر. قال الله سبحانه وتعالى وكتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة، واعلم أن الله سبحانه وتعالى افتتح هذه الآيات بالأمر بالتوحيد والنهي عن الشرك وختمها به، والمقصود منه التنبيه على أن كل قول وعمل يجب أن يكرر في التوحيد لأنه رأس كل حكمة، وملاكها ومن عدمه لم ينفعه شيء ثم إنه سبحانه وتعالى ذكر في الآية الأولى أن الشرك يجب أن يكون صاحبه مذموماً مخذولاً وقال في هذه الآية: {ولا تجعل مع الله إلهاً آخر فتلقى في جهنم ملوماً مدحوراً} والفرق بين المذموم والملوم أما كونه مذموماً فمعناه، أن يذكر له أن الفعل الذي أقدم عليه قبيح ومنكر فهذا معنى كونه مذموماً ثم يقال له: لم فعلت هذا الفعل القبيح وما الذي حملك عليه، وهذا هو اللوم والفرق بين المخذول والمدحور أن المخذول هو الضعيف الذي لا ناصر له، والمدحور هو المبعد المطرود عن كل خير. قوله سبحانه وتعالى: {أفأصفاكم ربكم} يعني أفخصكم واختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة {بالبنين} يعني اختصكم بأفضل الأولاد وهم البنون {واتخذ من الملائكة إناثاً} لأنهم كانوا يقولون: الملائكة بنات الله مع علمهم بأن الله سبحانه وتعالى هو الموصوف بالكمال الذي لا نهاية له وهذا يدل على نهاية جعل القائلين بهذا القول: {إنكم لتقولون قولاً عظيماً} يخاطب مشركي مكة يعني بإضافتهم إليه الأولاد وهي خاصة بالأجسام، ثم إنهم يفضلون عليه أنفسهم حيث يجعلون له ما يكرهون لأنفسهم يعني البنات. قوله سبحانه وتعالى: {ولقد صرفنا في هذا القرآن} يعني العبر والحكم والأمثال والأحكام والحجج والإعلام والتشديد في صرفنا للتكثير والتكرير {ليذكروا} أي ليتعظوا ويعتبروا {وما يزيدهم} أي تصريفنا وتذكيرنا {إلا نفوراً} أي تباعداً عن الحق {قل} أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين {لو كان معه آلهة كما يقولون إذاً لابتغوا} أي لطلبوا يعني هؤلاء الآلهة {إلى ذي العرش سبيلاً} أي بالمبالغة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض. وقيل: معناه لتقربوا إليه. وقيل: معناه لتعرفوا إليه فضله فابتغوا ما يقربهم إليه والأول أصح، ثم نزه نفسه فقال عز وجل: {سبحانه وتعالى عما يقولون علواً كبيراً} معنى وصفه بذلك المبالغة في البراءة والبعد عما يصفونه.قوله عز وجل: {تسبح له السموات السبع والأرض ومن فيهن} يعني الملائكة والإنس والجن {وإن من شيء إلا يسبح بحمده} قال ابن عباس: وإن من شيء حي إلا يسبح. وقيل: جميع الحيوانات والنباتات. قيل: إن الشجرة تسبح والاسطوانة لا تسبح. وقيل: إن التراب يسبح ما لم يبتل، فإذا ابتل ترك التسبيح، وإن الخرزة تسبح ما لم ترفع من موضعها، فإذا رفعت تركت التسبيح. وإن الورقة تسبح ما دامت على الشجرة، فإذا سقطت تركت التسبيح، وإن الماء يسبح ما دام جارياً فإذا ركد ترك التسبيح وإن الثوب يسبح ما دام جديداً فإذا اتسخ ترك التسبيح وإن الوحش والطير لتسبح إذا صاحت، فإذا سكتت تركت التسبيح وإن من شيء جماد أو حيّ إلا يسبح بحمده حتى صرير الباب ونقيض السقف وقيل: كل الأشياء تسبح الله حيواناً كان أو جماداً وتسبيحها: سبحان الله وبحمده، ويدل على ذلك ما روي عن ابن مسعود قال: كنا نعد الآيات بركة وأنتم تعدونها تخويفاً كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فقل الماء فقال: «اطلبوا فضلة من ماء فجاؤوا بإناء فيه قليل، فأدخل يده صلى الله عليه وسلم في الإناء ثم قال: حي على الطهور المبارك، والبركة من الله» فقد رأيت الماء ينبع من بين أصابع رسول الله صلى الله عليه وسلم ولقد كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل. أخرجه البخاري.(م) عن جابر بن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن بمكة حجراً كان يسلم علي ليالي بعثت وإني لأعرفه الآن».(خ) عن ابن عمر قال: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب إلى جذع فلما اتخذ المنبر تحول إليه فحن الجذع فأتاه فمسح بيده عليه» وفي رواية «فنزل فاحتضنه وسارَّه بشيء» ففي هذه الأحاديث دليل على أن الجماد يتكلم وأنه يسبح، وقال بعض أهل المعاني: تسبيح السموات والأرض، والجمادات والحيوانات سوى العقلاء بلسان الحال، بحيث تدل على الصانع وقدرته ولطيف حكمته فكأنها تنطق بذلك، ويصير لها بمنزلة التسبيح والقول الأولاد أصح كم دلت عليه الأحاديث، وأنه منقول عن السلف. واعلم أن لله تعالى علماً في الجمادات لا يقف عليه غيره فينبغي أن نكل علمه إليه. وقوله تعالى: {ولكن لا تفقهون تسبيحهم} أي لا تعلمون ولا تفهمون تسبيحهم، ما عدا من يسبح بلغتكم ولسانكم {إنه كان حليماً غفوراً} أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم وجهلكم بالتسبيح. قوله عز وجل: {وإذا قرأت القرآن جعلنا بينك وبين الذين لا يؤمنون بالآخرة حجاباً مستوراً} أي يحجب قلوبهم عن فهمه والانتفاع به، وقيل: معناه مستوراً عن أعين الناس فلا يرونه كما روي عن سعيد بن جبير أنه قال: لما نزلت: {تبت يدا أبي لهب} جاءت امرأة أبي لهب معها حجر والنبي صلى لله عليه وسلم مع أبي بكر فلم تره فقالت لأبي بكر: أين صاحبك لقد بلغني أنه هجاني فقال لها أبو بكر والله ما ينطق بالشعر، ولا يقوله فرجعت وهي تقول قد كنت جئت بهذا الحجر لأرضخ رأسه فقال أبو بكر: ما رأتك يا رسول الله قال: «لا لم يزل ملك بين وبينها» {وجعلنا على قلوبهم أكنة} أي أغطية {أن يفقهوه} أي لئلا يفهموه {وفي آذانهم وقراً} أي ثقلاً لئلا يسمعوه {وإذا ذكرت ربك في القرآن وحده} يعني إذا قلت لا إله إلا الله وأنت تتلو القرآن {ولَّوا على أدبارهم نفوراً} جمع نافر.
|